دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
حرص الإسلام على بث الخلق الطيب بين المسلمين ليكون سبيلاً لهم في تعاملاتهم اليومية، ولقد لخص رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أهداف بعثته في قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وشهد له في كتابه الكريم بعظمة خلقه في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيْمٍ) سورة القلم آية4. ولقد سئلت السيدة عائشة – رضي الله عنها – عن خلق رسول الله – عليه الصلاة والسلام – فقالت: كان خلقه القرآن. وقد عرف الدين بحسن الخلق. قالوا: يا سول الله ما الدين؟. فقال عليه الصلاة والسلام: (حسن الخلق) وأن حسن الخلق أمر لازم وشرط لابد منه للنجاة من النار والفوز بالجنة، وأن التفريط فيه لا يغني عنه حتى الصلاة والصيام، جاء في الحديث أن بعض المسلمين قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: إن فلانة تصوم بالنهار وتقوم بالليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها. قال عليه الصلاة والسلام: (لا خير فيها هي من أهل النار) وكان عليه الصلاة والسلام وهو ذو الأخلاق الحسنة يدعو ربه بأن يحسن خلقه فيقول: (أللهم حسنت خلقي فحسن خلقي). وقد كثرت الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، آمرة بالجيد منها، ومادحة للمتصفين بها، ومع المدح الثواب، وناهية عن الرديء منها، وذم المتصفين بها، ومع الذم العقاب.
وقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – حسن الخلق من أحسن خصال الإيمان، كما خرج الإمام أحمد وأبوداود من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقًا). وخرج «محمد بن نصر الروزي» وزاد فيه (أن المرء ليكون مؤمنًا وأن في خلقه شيئًا فينقص ذلك من إيمانه). وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، قالوا يا رسول الله: ما أفضل ما أعطي المرء المسلم، قال (الخلق الحسن). وأخبر عن النبي – عليه الصلاة والسلام – أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم القائم، فخرج الإمام أحمد وأبوداود من حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق). ولم يدع الإسلام إلى مبدأ، أو حكم وتشريع معين، ويكثر في دعوته إليه، إلا إذا كان له دور كبير في إصلاح الفرد والمجتمع في الدنيا وفلاحه في الآخرة، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن) لما في مخالقة الناس بالخلق الحسن من إصلاح المجتمع، ولو راعى الناس جميعًا في معاملاتهم الخلق الحسن لذهب الخلاف وقضي على المنازعات والمشاحنات فيما بينهم، والتي تستهلك أموالهم وطاقاتهم، وكان عليهم أن يوجهوها وجهة أخرى أنفع لهم ولمجتمعهم، ففي أبسط صورة فإن مخالقة الناس بخلق حسن، تستوجب على الفرد، أن يأخذ بالعدل حقه، ويعطي بالمعروف حق الآخرين. والواقع العملي يؤكد لنا دور الخلق الحسن في تقدم المجتمعات وتحضرها، وبالعكس من ذلك في المجتمعات المتخلفة حيث افتقدت القيم واختلت المعايير واختلط الخبيث بالطيب، والحلال بالحرام، في المعاملات اليومية الاجتماعية منها والتجارية، حتى غاصت في مستنقع التخلف والأزمات.
البركة: عن جابر أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أقاما أيامًا لم يطعم طعامًا، حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا، فأتى فاطمة فقال: (يا بنية هل عندك شيء اٰكله فإني جائع؟.) قالت: لا والله بأبي أنت وأمي. فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة برغيفين وقطعة لحم فأخذته منهافوضعته في جفنة لها وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسنًا أو حسينًا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرجع إليها، فقالت بأبي أنت وأمي، قد أتى الله بشيء فخبأته لك قال: (هلمي يا بنية) قالت: فأتيته بالجفنة فكشف عنها فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا، فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله وصلت على نبيه وقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله وقال: (من اين لك هذا يا بنية؟.) قالت يا أبت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فحمد الله وقال: (الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل؛ فإنها كانت إذا رزقها الله شيئًا وسئلت عنه قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى علي، ثم أكل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً. قالت وبقية الجفنة كما هي قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران وجعل الله فيها بركة وخيرًا كثيرًا…(1) وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة: قال لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا يا رسول الله: لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا. فقال لهم رسول الله – عليه الصلاة والسلام – (افعلوا) فجاء عمر فقال: يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع لهم بالبركة لعل الله أن يجعل فيه ذلك. فدعا – عليه الصلاة والسلام – بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجئ بكف الذرة والآخر بكف التمر والآخر بالكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه البركة ثم قال: (لهم خذوا في أوعيتكم) قال فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاءً إلا ملأوه وأكلوا حتى أشبعوا وفضلت من فضله، فقال رسول الله – عليه الصلاة والسلام – : (أشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فتحجب عنه الجنة)…(2) قال عليه الصلاة والسلام (المؤمن يأكل في مِعىً واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء) أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن…(3) وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إذا أراد الله بقوم قحطاً نادى مناد من قبل الله: يا أمعاء اتسعي يا بركة ارتفعي يا عين لا تشبعي).
العفة والتعفف: العفة الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله، والاستعفاف عن الشيء تركه…(4) والتعفف تفعل وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه…(5) والعفة سلوك أمرنا الإسلام به، أمر به الغني وحبب الفقير فيه وحضه عليه، وأمرنا بهذا السلوك عام في كل شأن من شؤون الحياة لكل من لديه حاجة لشيء لا يقدر على تحقيقه بما أحله الله من طرق وسبل، ففي الناحية المالية وهي ما تهمنا هنا أمر تعالى الغني بالاستعفاف، قال – عز وجل- (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) سورة النساء آية6؛ وهذه الآية نزلت في الوصي الغني على يتيم، ولكنه مسلك حميد لكل من يتولى إدارة مال، سواء كان المال خاصًّا بيتيم أو عامًّا للأمة، أما الفقير الذي يتولى إدارة مال اليتيم فله أن يأكل بقدر حاجته، أما إذا تولى مالاً للأمة ففي الزكاة خصص جزء للعاملين عليها، والأحاديث النبوية تبلغ العاملين على إدارة المال باتخاذ لهم زوجة وبيتًا إن لم يكن لهم من هذا المال، والفقير الذي يتحلى بالتعفف، هذا المسلك الحميد يصعب تفرقه عن الغنى، قال تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْـجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفْ) سورة البقرة آية 273، كما أمر بالتعفف كل من تعذر عليه النكاح قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِيْنَ لاَ يَجِدُوْنَ نِكَاحًا حَتّٰى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه) سورة النور آية33.
العفو: ومعناه في اللغة البذل، وهو في النواحي المالية يخفف كثيرًا من الأعباء المالية الذي قد يلتزم بها طرف تجاه الآخر، وقد حض عليه الإسلام كل من يقدر عليه دون أن يضر بنفسه أو بغيره؛ قال تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّآ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوآ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) سورة البقرة آية237. يعفون بمعنى يتركون ويصفحن. فالزوجة غير المدخول بها لها نصف المهر، ولها أن تعفو وتتنازل. والزوج له نصف المهر ويمكنه أن يتركه كله لها، والعفو أقرب للتقوى.
التفاني في خدمة الناس والتعاون على البر والتقوى:
قال عليه – الصلاة والسلام –: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وقال – صلى الله عليه وسلم – (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله) فالاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع وتقديم العون لهم وخاصة للفئات الضعيفة والفقيرة منهم من الأعمال التي يجب أن يتبارى فيها المسلمون؛ لأنها عبادة رفيعة القدر لم يحسنها كثير من المسلمين اليوم، برغم ما ورد في الإسلام من تعاليم تدعو إلى فعل الخير وتأمر به وتجعله فريضة يومية على الإنسان المسلم، وأن الإسلام قد فسح مجال العبادة ووسع دائرتها بحيث شملت أعمالاً كثيرة لم يكن تخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة إلى الله، فكل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام مقصد فاعله الخير لا تصيد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، فكل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون أو يخفف به كربة مكروب أو يضمد به جراح منكوب أو يسد به رمق محروم أو يشد به أذر مظلوم أو يقيل به عثرة مغلوب أو يقضي به دين غارم مثقل أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال أو يهدي حائرًا أو يعلم جاهلاً أو يؤوي غريبًا أو يدفع شرًا عن مخلوق أو أذىً عن طريق أو يسوق نفعًا إلى ذي كبد رطبة فهو عبادة، وقربة إلى الله، إذا صحت فيه النية، أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام عبادة للرحمن ومن شعب الإيمان وموجبات المثوبة عند الله تعالى، إننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم – عليه الصلاة والسلام – في هذا الباب فنرى أنه لم يكتف بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب بل يشتد في طلبها فيفرضها على كل ميسم من مياسمه أو كل مفصل من مفاصله، فيروي أبو هريرة عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – (كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل في دابته صدقة فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوه يمشيها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه. ويروي عباس – رضي الله عنهما – نحو هذا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول (على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم) فقال رجل: هذا من أشد ما أنبأتنا به. فقال (أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة وحملك عن الضعيف صلاة وإنحاؤك القذر من الطريق صلاة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة) رواه ابن خزيمة في صحيحه. ونحو ذلك ما رواه بريده – رضي الله عنه – ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (في الإنسان ستون وثلاث مئة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ ظنوها صدقة مالية. قال: (النخامة في المسجد تدفنها والشيء تنحيه عن الطريق) رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان. وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسم المسلم في وجه أخيه صدقة، وأسماع الأصم وهداية الأعمى وإرشاد الحيران ودلالة المستدل على حاجته والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث والحمل بشدة مع الضعيف وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبادة كريمة وصدقة طيبة. والمسلم مأمور بفعل الخير للناس مثلما أمر بالركوع والسجود وعبادة الله تعالى؛ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يٰأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا ارْكَعُوْا وَاسْجُدُوْا وَاعْبُدُوْا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوْا الْـخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ وَجَاهِدُوْا فِيْ اللهِ حَقَّ جِهَادِه) سورة الحج الآيات 77-78. فمن شغل نفسه بفعل الخير في المجتمع لم يشغل نفسه إلا بما أوجب الله عليه ومن فعل ذلك فهو مأجور عند الله محمود عند الناس…(6) ويقول – عليه الصلاة والسلام – : (إن لله أقوامًا أخصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوهانزعها منهم فحولها إلى غيرهم) فبقدر ما تحمل من هموم الناس يكون قدرك عند الله والله لم يجعلك ملاذًا للعباد إلا وهو يعلم استحقاقك لهذا الشرف العظيم ثم هو لا يتركك تحمل العبء وحدك بل يمدك بقوته ويساندك بتوفيقه ويسدد خطاك في طريق الخير الذي هيأك له وهيأه لك. تحدثنا أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – بحديث سمعت النبي يقوله: (ما عظمت نعمة الله – عز وجل – على عبد إلا اشتدت إليه حاجة الناس ومن لم يحمل تلك المؤنة للناس فقد عرض نعمة الله عليه للزوال) ويقول – عليه الصلاة والسلام – (لأن أمشى مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في مسجدي هذا شهرًا) وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (الدال على الخير كفاعله) وقد قيل: الدال على الشر كصانعه…(7) فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا، وعن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – (من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام)…(8) وقد أمر الله تعالى جميع خلقه بالتعاون على البر والتقوى ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوْا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوٰى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة آية2. وقد قيل البر والتقوى لفظان بمعنى واحد وكرر باختلاف اللفظ تأكيدًا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر، وقال الماوردي: ندب الله – سبحانه وتعالى – إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس، فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال «ابن خويز منداد» في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه… وقد نهى – عز وجل – عن التعاون في أي شكل من أشكال الإثم والعدوان لما في ذلك من ظلم للخلق وهضم حقوقهم. كما أمر تعالى عباده المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال – عز وجل -: (وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) سورة آل عمران آية 104. كما جاءت الأحاديث عن النبي – عليه الصلاة والسلام – في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا، عن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟. قال (أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه)، وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)…(10) وعن حذيفة بن اليمان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنه قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)…(11) وقد قيل كل بلدة فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم وعالم على سبيل الهدى ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى…(12) وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعًا يفيض بالخير والرحمة ويتدفق بالنفع والبركة يفعل الخير ويدعو إليه، يبذل المعروف ويدل عليه فهو مفتاح للخير مغلاق للشر، كما حثه النبي الكريم كما في حديث ابن ماجه (طوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر)…(13)
التوكل علي الله: أن التوكل على الله واجب من أعظم الوجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، كما أن حب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله تعالى بالتوكل في غير آية ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) سورة هود آية 123. وقوله: (اللهُ لَآ إلٰهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُوْنَ) سورة التغابن آية 13. وحقيقة التوكل على الله أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأن ما يشاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق الوثوق بربه في حصول مطلبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافع، فمتى تحقق ذلك فليبشر العبد بكفاية الله له ووعده للمتوكلين. والتوكل على الله لا يناقض حركة الأبدان في التعلق بالأسباب، ولم يأمر الله بالتوكل عليه إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع والطاقة في أخذ الأسباب، فهو الأمر بالسعي في الأرض، والأمر بأخذ الحذر والأمر بإعداد القوة، فالتوكل حركة القلب بالاعتماد على الوكيل وحده، وحركة سائر الجوارح بالأخذ بالأسباب، جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وترك ناقته بباب المسجد فسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنها فقال: أطلقتها وتوكلت. فقال – عليه الصلاة والسلام – (اعتقلها وتوكل)…(14) وهذا التوكل الذي معناه العمل الدؤوب والسعي في طلب الرزق والتوكل على الله والاعتماد عليه – سبحانه – الذي بيده الرزق، هذا التوكل قال عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتعود بطانًا) ولابد أن يكون مقصود المسلم من وراء كل مجهود، هو ابتغاء وجه الله ونيل رضوانه، قال – صلى الله عليه وسلم – (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِيْ وَنُسُكِيْ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِيْ لِله رَبِّ العٰلمين) سورة الأنعام آية 162. وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ) سورة البقرة آية 207 إذن فالغاية من كل فعل وعمل في حياة الإنسان، هو ابتغاء مرضاة الله، وأن هذه الغاية هي التي أكدها القرآن ورسخها في ذهن الإنسان، وقد أبطل كل غاية سواها، فاللازم من ذلك أن لا يتوجه الإنسان بجملة أعماله في الحياة إلا إلى هذه الغاية، ولا يصرف كل ما لديه من قوى فكرية وجسدية إلا في سبيل بلوغها، ولا يطبع شيئًا من أفكاره ونظرياته وحركاته وسكناته إلا بطابعها، ولا يقصد بأي شيء من نومه ويقظته وأكله وشربه وكلامه وسكونه وصداقته وعدواته ومعاملاته في حياته الاقتصادية وعلاقاته في حياته الاجتماعية إلا من أجل هذه الغاية، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك) وأن أي عمل لا يكون لله، إذا كان يقصد من ورائه إرضاء أحد غير الله، وهناك فرق كبير بين أن يبتغي العامل بعمله وجه الله ومرضاة الله فيبذل قصارى جهده ويتفنن في إتقان عمله وإنتاجه في أحسن صورة ويؤدي كل ما تتطلبه مهام وظيفته بل سيزيد عليها بما يرضى الله أما إذا بذل جهده ليرضى غير الله فسوف لا يعمل أو ينتج أو يفجر طاقات الإبداع فيه إلا في حدود ما يرضى رب العمل وفي حالة وجوده وحضوره الدائم أما إذا تغيب رب العمل فسينصرف العامل من عمله.
* * *
المراجع:
تفسير القرآن العظيم لابن كثير،ج1، ص360.
فقه السيرة د. محمد سعيد رمضان البوطي ص310.
إحياء علوم الدين أبي حامد الغزالي، ج3، ص78.
أحكام القرآن للقرطبي، ج5، ص41.
أحكام القرآن للقرطبي، ج3، ص341.
الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف د. يوسف القرضاوي ص219-221.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6، ص46-48.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير،ج2، ص6.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6، ص46-48.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج4، ص47-49.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج1، ص390.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج4، ص47-49.
الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف د. يوسف القرضاوي ص219-221.
تلبيس إبليس للحافظ الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي للبغدادي، ص278.
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1435 هـ = مارس 2014م ، العدد : 5 ، السنة : 38