الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ عبد الرحمن عزام
جمهورية مصر العربية القاهرة
هذا الموضوع لا يلم بأَطرافه إِلا مجلّدات ، ولذلك عزمت على حصره في دائرة يسمح بها هذا الفصل الموجز ، فلا أتعرّض إِلا للآثار الخالدة للدعوة المحمدية ، الآثار التي لايحدها مكان ولا زمان ، وأن أتخير منها ما هو واضح ، وما هو موضع إِعجاب الناس كافة ، مهما اختلفت عقائدهم أو مذاهبهم ، ولعلى بهذا أوضح صورة أخرى لبطل الأبطال ﷺ تكمل تلك النواحي البارزة في حياته الخالدة .
1 – في المجتمع
وأول ما خطر أن أوجه التفكير إليه ، هو أثر هذه الدعوة من الناحية الاجتماعية ، في شعب لم يكن يصلح لشيء ، فأصبح في بضع سنين صالحًا لحمل الرسالة التي وصلت إلى أطراف المشرق ، في سنين معدودة ، هي أقل من عشرين سنة .
كان الأثـــر البارز السريــع لهـــــذه الدعوة تغيير أمـــة تغيــرًا شاملاً حاسمًا ، بحيث أصبحت شيئًا آخر، تلك الأمة التي نشأت فيها الدعوة : الأمة العربية .
كان العــرب قـومًا فوضى ، في قفر من الأرض ، موضع احتقار المتمدينين من الفرس والـــرومان ، وآخــر أمـــة يُرْجـٰـى فيها خيـر وينتظر لها أمر . كان العرب في جاهليتهم قبائل متنازعة على الحياة ، متنافسة في السؤدد ، يتنازعون على مواقع الغيث ومنابت العشب ، كل قبيلة تعتز بقوتها ، وتفتخر بأنسابها ومآثرها ، وما فخرها وعزها إلا في أنها أغارت فغلبت ونهبت ، وأنها ظلمت وأفسدت ، فالظلم والنهب عندها محمدة وهو من أغراض الحياة .
انظروا إلى قول عمرو بن كلثوم :
بُغاة ظالمين وما ظُلِمْنَا وَلـٰـكنَّا سَنَبْــدَأُ ظالمينا
وقول زهير :
وَمَنْ لاَ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ
يُهَـدّمْ وَمَـنْ لاَ يَظْلمِ النَّـاسَ يُظْلَمِ
وانظروا قول القطامى ، وهو شاعر إِسلامي يصف بقية الجاهلية في القبائل الإسلامية :
فَمــن تكــن الحَضـارةُ أَعجبتــهُ
فَأَىَّ رِجـــالِ باديـــــــــةٍ تَـــــرَانَا
ومَــنْ ربطَ الجِحاشَ فـــإِنَّ فينا
قَنًـــا سُلُبًا وأَفـــــراسًا حِسانــــــا
وكُــنَّ إِذَا أَغــــرنَ على جَنَابٍ
وأَعــوزهــنَّ نَهْبٌ حيثُ كانــا
أَغَرْنَ مِنَ الضِّبابِ على حُلُول
وَضَبَّــــةَ إِنَّــــهُ مَــنْ حَانَ حَانَــا
وَأَحْيَــــانًا عَلَى بَكْــــــر أَخينـــا
إِذَا مَــــا لَمْ نَجـِــــدْ إِلاَّ أَخَـــانَا
هذا الشعر يصور لنا الحالة العقلية التي كانت عليها القبائل العربية ، ويدلنا على عظم الدعوة التي جعلت من قوم يفخرون بنهب أخيهم ، قومًا يعتزون بنشر السلام والقانون ، والعدل بين الأبيض والأسود في آسيا وإفريقية ، هؤلاء الجفاة المتنابذون قد أصبحوا في جيل واحد رسل الحضارة والنظام . كان الرجل منهم لايتعرف إلا بقبيلته ، فإذا تنازعت لا يعترف إلا بالبطن الذي ينتسب إليه ، وينكر على غير عشيرته حق الحياة . وكان أفراد العشيرة لا يتعاونون ، ولا يتكاتفون على خير عام ، بل لا يفهمونه ، لأنهم ينكرون وجود الأمة العربية إنكارهم للبشرية . ويرون الحياة قائمة علىالخصومة والعداء لكل أحد خارج عن نطاق العشيرة ، فكانت العشيرة على هذا الاعتبار عصابة متكافلة على حماية نفسها ، وإتيان الشر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، والاعتزاز بالقدرة عليه ، وإنها تأتيه دائمًا ، فجاءت الدعوة المحمدية تنقض كل ما يتمسك به العربي من هذه المواريث ، فحلت هذه العصابة الموجهة للشر باسم العشيرة ، وأحلت محلها الأمة ، وأقامت الحقوق البشرية ، وجعلت التعاون على البر، والتكافل على النظام العام، والاتحاد على الفكر السامى والعقيدة الطاهرة مكان علاقة الدم التي تربط بين الناس في سفك الدم، ونهب ما بأيديهم ، فقلبت بذلك نظرة العرب إلى نقيضها ، وجعلتها نظرة إنسانية إلهية ، بعد أن كانت بهيمية وحشية ، أحلت سلطان الشريعة فوق كل سلطان ، وجعلت هيمنة الدولة للخير العام فوق كل هيمنة ، وذهب القصاص الظالم ، وقام القصاص العادل ، وصارت المسؤولية الفردية للعشيرة ، مكان المسؤولية الاجتماعية لها :
«وَلاَ تَـــزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْـــرَى» «كُلُّ نَفْسٍ بِمَـا كَسَبَتْ رَهِينَـــةٌ» . «وأَنْ لَيْسَ لِــلإِنْســـــَانِ إِلاَّ مَا سَعـٰـى» .
وصارت العزة للشرع القاهر ، والسلطان القائم عليه ، وحرمت دعوى الجاهلية : يا لفلان ، وأصبح كل داع للشرع دعــوته ، وبالقانون انتصاره ، وبالعدل اعتصامه .
برزت المسؤولية الشخصية ، فما يغنى عن أحد دعوى الجاهلية ، ولا يغنى عن أحد في ميدان العمل نسبه ولا حسبه ولا جاهه ولا ماله «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . «إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّمـٰـوَاتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ» .
أصبح الناس بالدعوة المحمدية سواء ، لا شريف ولا وضيع ، خيرهم أحسنهم عملاً ، وسيدهم أنفعهم، وأَكرمهم أَتقاهم «يـٰـأَيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ» انظروا إلى محمد ﷺ في خطبة الوداع ، يعلن هذه المساواة للعرب على أنها للبشر كافة «أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» .
تلك هي الكلمة الخالدة التي كانت دستور الحكم فيما فتح العرب من الأرض ، فجعلت الفتح العربي بعيدًا من رفعة قوم على قوم أو جنس ، فلم يصبه ما أصاب غيره من الفتوح ، وبقيت آثاره خالدة في المشرق والمغرب .
قضت الدعوة المحمدية على التنافس والغلب بالكيفية التي سقتها ، وأحلت هذا التنافس والغلب لإقرار الحق ، وبسط الخير ، ولم يبق في الشرع الذي قبله العرب إلا تنافس في الأَعمال الصالحة «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُوْن» .
وهكــذا حلت الأمــة محل القبيلة ، والعدل مقام الغلبة ، والمساواة مكان التفاضل والعمل الصالح مكان الفخر بالآباء ، وملئت القلوب حبًا وسلامًا ، بعد أن كانت مملوءة بغضًا ونزاعًا «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … إِلَى قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ» (1)
كان قلب العــربي مــوزعـًا بين آلهـــة شتى ، قد التبست عليــه صفاتها وأفعالهــا ، يفزع إليها حينًا ، وينفر منها حينًا ، ويلتمس منها الخير ، فإن لم يظفر به هجرها وسبها ، كما يفعل الآن زنوج السودان مع «كجورهم» يسألونه المطر، ويصبرون عليه ، فإذا يئسوا من الرحمة قتلوا «الكجور» وهو معبودهم .
لم تكن أمام العربي سبيل واضحة للعمل في هذه الحياة ، كما لم تكن له خطــة بينة لمعاملة الناس ، فلقنته الدعوة المحمدية الإيمان بإله واحد ، وهدته إلى الحلال والحرام في كل صغيرة وكبيرة ، فصار على بينة من ربه وعلى بينة من نفسه ، وعلى بينة من عمله .
وعقيدة المسلم علمته التوحيد في كل شيء ، علمتــــه أن الله واحد ، وأن أصل البشر واحد ، وأن الناس سـواسية كأسنان المشط ، وأن الأمــم جميعًا سواء ، وأن الأديان التي جـــاء بها الرسل واحـــدة ، لا تختلف في حقــائقها ومقاصـــدها «شُرِعَ لَكُمْ مِنَ الدِّيْنِ مَا وَصّىٰ بِه نوحًا وَالّذِيْ أوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إبْرَاهِيْمَ وَمُوْسىٰ وَعِيْسىٰ…» الخ . ووحدت له الخطــة التي يعمل عليها في خاصــة نفسه ومعاملة الناس . وحدت الدعـــوة المحمديـــة نفس العـــربي ، ثم وحـــدت العــرب جميعًا ، وصاغت منهم أمة واحدة ، وحملتهم رسالة التوحيد إلى الناس كافة ، ليجعلوهم أمة واحدة .
فهذه الأمة الواحدة المؤلفة من أرقى الموحدين هي التي انبعثت بسبب هذه الدعوة ، فلم يقف في سبيلها شيء ، لا كثرة العدد ، ولا قوة السلاح ، ولا العقائد الموروثة ، ولا عظمة الملوك ، ولا تجبر الرؤساء ، بل كانت قدرًا من الله بلغ غايته ، ومن ذا يرد على الله القدر ؟!
هذا التوحيد هو عندي أظهر معجزات الدعوة المحمدية . وليدرك الناس وجه الإعجاز ، يجب أن ينظـــروا الآن إلى جـــزيـــرة العرب نفسها وقد شملها الإسلام قـــرونًا ، ثم عادت فيها سيرة الجاهلية بحالــــة أخف كثيرًا ، بل أهون مائـــة مرة مما كانت عليه قبل ظهور رسالة التوحيد فيها ، وليقدركم يلقى الذي يريـــد أن يبعث هذه الأمة مرة أخرى من عنت ؟ إن كثيرًا من المصلحين ليتحطمون على عتبة الإصلاح قبل أن يصلوا إلى شيء مما وصلت إليــــه الدعوة المحمدية في بضع سنين . إذا تصورتم الحالـــة الحاضرة، وقستموها على الحالة وقت ظهور الدعوة يمكنكم أن تتصوروا أثر الدعوة المحمدية وقوتها وفضلها على هذه الأمة ، وعلى الناس كافة .
جاءت الدعوة المحمدية مع رسالة التوحيد هذه برسالة أخرى ، وهي رسالة التحرير ، وتركت في هذه أثرها الخالد في الأمة العربية وجميع الأمم كما تركت في الأولى ؛ فصرخ مؤذن هذه الرسالة : الله أكبر ! وتضاءلت بهذه الصرخة كل عظمة ، وكل سيطرة أمام عظمة الله وسيطرته ، وتحررت النفوس من الأوهام الباطلة ، والعقائد الكاذبة ، وصارت العبودية خالصة لله ، يتساوى الناس فيها ، ويتحررون بذلك من سواها.
وهذا الذي انفرد بالسلطان والسيادة وحق العبودية هو الله «هُوَ الَّذِي يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيْمًا» هو الله «وَاللهُ يَدْعُوآ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ» هو «اللهُ وَلىُّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» .
بهذه المعاني السامية ، والعبارات القوية ، بهذه الآيات الكريمة وأمثالها تحررت النفوس من العبودية لغير خالقها البر الرحيم بها ، هاديها إلى النور وإلى صراط مستقيم .
وكان الناس قبل الدعوة المحمدية عبيدًا للملوك والزعماء ، عبيدًا للرؤساء الدينيين ، عبيدًا للأوهام والخرافات ، عبيدًا لملاك الأرض وملاك الثروة فتحـــرروا بهذه الدعــوة المحمدية ، تحرروا في أبدانهم ، وأعظم من ذلك أن تحررت نفوسهم بما وهبت لها الدعوة من عقيدة الخلود وعزته ، وأن عملها ليس أثرًا بائدًا بل مسجلاً خالدًا خلود قوانين الله في خليقته .
علمت الدعوة المحمدية الناس أن النفع والضر بيد الله وحده ، وأن لا واسطة بين الإنسان وربه ، وأن ربه أقرب إليه من حبل الوريد(2) ، وأنه معه حيثما كان ، وأن ليس لأحد سلطان على قلبه ، وليس للرسول نفسه إلا التبليغ والتعليم «فَذَكِّر إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر» ، «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» .
بهذا أدرك الإنسان مكانته ، ونال حريته في عقله وقلبه وفكره وعمله ، وبقى للدعوة المحمدية أثرها الخالد في توحيد الناس وتحريرهم .
وليس أجمع لدرجات نمو النفس المسلمة من وصف محمد لنفسه ، وهو كما رواه على: «المعرفة رأس مالى ، والعقل أصل ديني ، والحب أساسي ، والشـــوق مركبي ، وذكــر الله أنيسى ، والثقة كنزي ، والحزن رفيقي ، والعلم سلاحي ، والصبر ردائي ، والرضا غنيمتي ، والفقر فخري ، والزهد حرفتي ، واليقين قوتي ، والصدق شفيعي ، والطاعــــة حسبي ، والجهاد خلقــي ، وقرة عيني في الصلاة» .
* * *
2 – في الفرد
ولكي نستعين على تصور هذا الأثر في الفرد لنستحضر أمامنا مثلاً عمر بن الخطاب .
كان عمر في جاهليته فتى من فتيان قريش ، يغشى مجالس السوء ، وبؤر الشر ، وكانت مكة في ذلك العصر ممتازة بين حواضر الجزيرة بترفها ومنكرها، تجذب طلاب الطرب واللهو ، ولم يكن عمر في هذه المدينة شاذًا ، بل كان معلمًا بالفتوة والغلظة ، معروفًا بالقسوة والشراسة ، مستعدًا في كل الحالات للتسلط بالأذى على من يخالفه ، ولإثارة الفتنة والشغب فيما جل أو صغر؛ لذلك كان من أخطر فتيان مكة على الدعوة المحمدية ، وأنشطهم في أذى أتباعها ، فلم يسلموا من لسانه الجارح ، ويده الباطشة . ولما رأته ليلى بنت أبي حنتمة وله رقة لم تكن تراها ، ذكرت ذلك لرجل من المسلمين ، فقال لها : أطمعت في إسلامه ؟ إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب … هذا الذي لم يكن تلاميذ محمد يطمعون في هدايته أكثر من طمعهم في هداية الحمار، هو الذي جذبته الدعوة ، فلما هذبته وصقلته ، أخرجت من عمر أمير المؤمنين ، قاهر الفرس والروم، وجعلت منه المثل الكامل ، في الرفق والإنصاف ، والعدل ، وأكبر القضاة والسياسيين والملوك في تاريخ البشر .
فعلت الدعوة المحمدية فعلها في الفرد ، ثم شمل سحرها الجماعة ، فبدلت الناس غير الناس ، والأرض غير الأرض .
خلصت الفرد من سلطان العقائد الباطلة ، وأصلحت قلبه وفكره بالعقائد الصحيحة ، وهذبت نفسه بالشرائع القويمة ، والسنن الصالحة ، والقدوة الحسنة التي وجدها في المثل الأعلى ، في محمد ﷺ : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» .
أقرت الدعوة المحمدية في نفوس أصحاب محمد حب العدل وحب الإنصاف ، في بيئة لا تعرف الحق إلا للقوة ولا تدين بالإنصاف إلا للسيف ، فوطأت النفوس للحق . انظروا إلى عمر بعد أن هذبته الدعوة، تعترضه امرأة وهو أمير المؤمنين يخطب الناس، فيمسك من فوره ، ويقول : أصابت امرأة وأخطأ عمر! وانظروا إليه وقد شج رأس أخته في الجاهلية يبكي وهو أمير المؤمنين لرؤية بائس ، ويخشى أن يلقى الله وفي الناس بائس .
تلك آثار الدعوة في نفوس جفاة العرب ، قد جعلت من رعاة الإبل والشاء وصغار التجار في مكة ، والفلاحين في المدينة ، رجالاً ، كلما احتاج تاريخها إلى واحد منهم وجده مهيأ للإمارة على الناس من كل الأجناس ، كأنما نشأ فيها ، ودرج لها . رجالاً قوامين بالقسط ، كما أراد القرآن :
«يـٰـأيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنْآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوْا، اعْدِلُوْا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُوْنَ» . «وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» .
وليس نجاح الفتح العربي ، وانتشار الدعوة إلا أثرًا لسحرها في تغيير النفوس وتوجيهها للخير، ولولا رجال أعدتهم المدرسة المحمدية للمثل العليا ، أعدتهم لإرشاد البشر وقيادته وحكمه ، لما تجاوز الفتح الإسلامي الجزيرة العربية ، ولذهبت آثاره بموت الرسول وارتداد الأعراب ، ولكن الشباب الذين طبعتهم الدعوة بطابعها استمروا يفيضون على جيلهم ما أودعوا من فيض الرسول ثلاثين سنة بعد وفاته ؛ فأبوبكر وعمر وعثمان وعلي ، الخلفاء الراشدون ؛ لم يكونوا إلا شباب الرسالة وقت أن أسرها ثم جهر بها محمد للناس .
وليتبين لنا واضحًا أثر الدعوة المحمدية في نفوس الشباب الذين هاجروا إلى الحبشة ، وخالفوا آباءهم وكبراءهم في سبيل عقائدهم ، نذكر لكم موقف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي فهو موقف يدل على امتلاك الدعوة المحمدية لنفوس من اجتذبتهم ، كما يبين لنا موضوع الدعوة نفسها ، كما فهمها المهاجرون والمهاجرات ، بل كما فهمها أنصارها في ذلك العصر .
خرج أولئك السابقون لتلبية الرسول ومعهم من الفتيان والفتيات من ينتسبون لمختلف البطون في قريش ، ويتصلون بالقرابة لأعاظم رجال مكة ، وأشد خصوم الدعوة ، وفيهم أبناء وبنات لأمثال المغيرة ، وسهيل بن عمرو ، وأمية بن خلف ، فبعثت مكة في أثرهم رجلين من دهاتها : عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة . ومعهم هدايا مما يستطرف النجاشي من متاع مكة ، له ولكل بطريق(3) من بطارقتة ، وأوصوهما أن يدفعا لكل بطريق بهديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم يسلما النجاشي هديته، ويسألاه تسليم اللاجئين .
فلما وزعا الهدايا لكل بطريق منهم قالا: قد أوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ، ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينًا ، وأعلم بما عابوا عليهم . فقالوا لهم : نعم . ثم سلما للنجاشي هداياه ، وقالا له مثل الذي قالا للبطارقة ، فأشار البطارقة بتسليمهم، ولكن النجاشي أبى أن يأمر بذلك حتى يسمع قول المهاجرين، فدعاهم وسألهم . ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل ؟ فقال جعفر ، وكان اللاجئون قد اختاروه ، واتفقوا على أن يقول ما علموا ، وما أمر به النبي ، كائنًا في ذلك ما هو كائن. فقال : أيها الملك ، كنا قومًا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الرحم ، ونسىء الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافــــه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا ، أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدّقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا، وضيقوا علينا الخناق، فخرجنا إلى بلادك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك .
فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ فقال جعفر: نعم ، قال النجاشي : فاقــرأه فقــرأ صدرًا من «كهيعص» ، فبكى النجاشي ، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
هذه هي الدعوة كما فهمها شباب ذلك العصر، بل كما فهمها أشد الناس تعلقًا بها ، وهذا هو أثرها منطبعًا في نفس ذلك الشباب القرشي ، ويحدث عنها ملكاً من الملوك بثقة وقوة .
إنكم لتلمسون في كلمات جعفر الموجزة صورة كاملة للدعوة المحمدية ، والمجتمع الذي نشأ عنها ، فقد بدلت الدعوة وجهة نظر الفرد للحياة تبديلاً تامًا ، كما قلبت أوضاع الاجتماع العربي إلى عكس ما اصطلح الناس عليه ، وابتدعت كما يقول رسل قريش جديدًا لم تعرفه العرب ، ولا غير العرب .
ذلك الجديد هو الرسالة المحمدية ، وأثرها هو الانقلاب الذي شمل العرب وجيرانهم ولا زلنا ولا يزال الناس في آثاره حتى آخر الدهر .
ظفرت الدعوة وطأطأت كما يقول «هيل» أمة لإرادة رجل واحد ، لأنه نفخ فيها من روحه إيمانًا قويًا ساميًا وأحل في قلبها الفضيلة خالصة نقية ، ووجهها على جادة العظمة والفتح العالمي . ولقد كان الاتحاد والتعاون منكرًا لا يعرفه العرب إلا في حدود العشيرة ، وكان الكبر والفخر والجاه والمال أسمى ما يتطلع الناس إليه ، فلما نجحت الدعوة المحمدية قامت وحدة العرب على تضامن الأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء ، فأصبحت المؤاساة حقًا مفروضًا على الأغنياء ، عليه يقوم تكافل المجتمع وعليه تقوم الدولة التي ولدتها الدعوة الجديدة .
تبدلت نظرة الفرد للحياة تبدلاً تامًا ، وانقلب النظام الاجتماعي بما ابتدع الإسلام من الأصول ، وما وضع من الشرائع .
وقد عبر العلامة «هيل» في كتابه «حضارة العــرب» عن أثر الدعوة المحمدية بهذه الكلمة القوية :
«إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثرًا في تاريخ البشر، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيرًا عميقًا في حضارة عصرهم وأقوامهم ، ولكنا لانعرف في تاريخ البشر أن دينًا انتشر بهذه السرعة، وغير العالم بأثره المباشر ، كما فعل الإسلام ؛ ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيدًا مالكًا لزمانه ولقومه كما كان محمد .
لقد أخرج أمة إلى الوجود ، ومكن لعبادة الله في الأرض ، وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة ، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين ، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى».
تلك بعض آثار الدعوة المحمدية في الفرد وفي الجماعــــة ألممنا بها إجمـــالاً في هـــذا الفصل مـن هـــذا الكتاب ، وقـــد فصلنا هذا الإجمال في (الرسالة الخالدة).
وصف صورته
أما بعد ، فإن كل ما تقدم كان وصفًا للمعاني الإلهية والإنسانية الفائقة التي كانت تعمر عقل بطل الأبطال وخاتم النبيين وقلبه ، وكانت ملاك روحه وقوام فكره وخلقه ، وهي سرّ الله الخالق في الإنسان الكامل الذي جعله قمة هذا النوع الإنساني ومنار الأســوة والقـدوة لأفراده وأبطاله فيما أعقبه من الدهور .
ولكن حب البشر لرؤية «الجسم» الذي تمثلت فيه هذه المعاني والأسرار يحتاج إلى تكميل الصور المعنوية التي رسمتها فصول هذا الكتاب بوصف الصورة الجسمية التي كانت وعاء لهذه المعاني والأسرار .
وهاهي ذي كما وصفها علي – كرم الله وجهه -. قال: «كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية ، شثن الكفين والقدمين (أي أنهما إلى الغلظ أقرب) ضخم الكراديس (ألواح الأكتاف) مشربًا وجهه حمرة ، طويل المسربة (الشعر ما بين السرة واللبة) إذا مشى تكفأ تكفؤًا (أي يميل إلى الأمام) كأنما ينحط من صبب (انحدار)، لم أر قبله ولا بعده مثله ! وكان أدعج العينين (الدعج شدة السواد وشدة البياض) سبط الشعر (سهلاً غير ملبد) سهل الخدين (غير مرتفع الوجنتين) ذا فروة (ما وصل إلى شحمتى الأذن من الشعر) كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعًا ، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب لطيب عرقه وريحه».
هذا هو وصف (صدفته) الشريفة التي ضمت لؤلؤته اليتيمة الفذة ! وفيها تستبين مخايل العظمة وشواهد الكمال التي أرادها الله عز وجل لأجسام النوع الإنساني . ولا عجب بعد هذا الكمال الجسماني والروحاني أن يكون كل من رآه بديهة هابه ، وكل من خالطه أحبه ذلك الحب الباذل الفادي المؤمن … صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
* * *
الهوامش :
- الآيات 151 ، 152 ، 153 من سورة الأنعام .
- حبل الوريد : عرق : في العنق . أي نحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد تجوز بقرب الذات لقرب العلم ، لأنه موجبه ، وحبل الوريد مثل في القرب . (انظر تفسير البيضاوي) .
- البطريق : القائد من قواد الروم .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.