الفكر الإسلامي
بقلم: فضيلة الشيخ فوزى فاضل الزفزاف
القرآن الكريم يصف الرسل والأنبياء – عليهم جميعًا الصلاة والسلام – بالتحلي بصفة الحلم. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على كمال صفة الحلم وعلى حثّ الإسلام على أن يتخلّق المسلمون بتلك الصفة الحسنة الجميلة.
يقول الله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ o وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ o بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ o قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ o قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ o﴾ هود: الآيات 84-88.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبًا عليه السلام قال: «ذلك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته لقومه وقوة حجته وقدرته على النصح والإرشاد وتحمله سخرية قومه منه وتحليه بصفة الحلم وسعة الصدر.
ففي الآيات الكريمة السابقة نجد سدنا شعيبًا عليه السلام يبدأ دعوته: بأمر قومه بعبادة الله تعالى وحده؛ فإنه لا إله لكم على الحقيقة سواه فهو الذي خلقكم وهو الذي رزقكم وهو الذي إليه مرجعكم… ثم ينهاهم عن أبرز الرذائل التي كانت منتشرة في مجتمعهم وهي: نقص المكيال والميزان عند الأخذ وعند الإعطاء فيخاطبهم: لا تعطوا غيركم أقل من حقه إذا بعتم ولا تأخذوا منه أكثر من حقكم إذا اشتريتم… ثم يبين الأسباب التي حملته ودعته إلى أمر قومه بعبادة الله والإيمان به وإلى نهيه لهم عن نقص المكيال والميزان وإلى طلبه منهم التزام العدل في معاملاتهم – مستعملاً أسلوب الترغيب والترهيب – فيقول لهم: إنه يراكم بخير… تملكون المال الوفير وتعيشون في رغد من العيش وفي بسطة من الرزق… ومن كان كذلك فمن الواجب عليه أن يقابل هذه النعم بالشكر لواهبها وهو الله تعالى وأن يستعملها استعمالاً يرضيه وأن يعطي كل ذي حق حقه… ثم يخوفهم ويرهبهم – إن هم استمروا في كفرهم بالله وظلمهم الناس في معاملاتهم – من عذاب يوم أهواله وآلامه شاملة لكل ظالم لا يستطيع أن يهرب منها ولا يجد ملجأً ولا مهربًا… ثم ينهاهم نهيًا عامًّا عن الإفساد في الأرض ويحذرهم من البطر والغرور واستعمال نعم الله في غير ما خلقت له… ويرشدهم – مستعملاً أسلوب الترغيب مرة أخرى – إلى أن ما عند الله خير وأبقى مما يجمعونه عن الطريق الحرام وأن الرزق الحلال مع الإيمان والاستقامة خير لهم من المال الكثير الذي يجمعونه عن طريق الفساد والظلم وبخس الناس أشياءهم ثم ينبههم على أن الالتزام بتنفيذ هذه الخيرية وإبقاء الله على نعمه لهم لا يتم إلا مع الإيمان والتصديق برسالته… ثم يعود – مستعملاً أسلوب الترهيب مرة أخرى – فيحذرهم من مخالفة دعوته بأنه ليس عليهم بحفيظ بعد أن أدى ما عليه من بلاغ أي: وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ لكم أعمالكم وأحاسبكم عليها وأجازيكم بها الجزاء المناسب الذي تستحقونه وإنما أنا ناصح ومبلغ ما أمرني ربي بتبليغه لكم وهو وحده – سبحانه وتعالى – الذي سيتولى مجازاتكم…
ولقد كان رد قوم شعيب عليه هو: عدم استجابتهم لما يدعوهم إليه؛ بل كان ردهم عليه طافحًا بالاستهزاء به والسخرية منه فقد قالوا له: يا شعيب إن كانت صلاتك تأمرك أن نترك عبادة الأصنام و تأمرك أن نترك ما تعودنا فعله في أموالنا من التطفيف في الكيل والميزان فصلاتك في نظرنا لا قيمة لها ولا وزن عندنا. وزيادةً منهم في السخرية منه والاستهزاء به والتهكم عليه عليه السلام قالوا له: إن ما تأمرنا به من ترك عبادة الأصنام ومن ترك النقص في الكيل والميزان لا يتفق ولا يطابق حالك وما اشتهرتَ به بيننا من أنك الحليم الذي يتأنّى ويتروّى في أحكامه، الرشيد الذي يرشد غيره إلى ما ينفعه!! أي أن هذين الوصفين بأن هذين الأمرين قد بنينا عليهما حياتنا، وإنما اللائق بك – مادام الأمر كذلك – أن تتصف بأضدادهما: أي تتصف بالجهالة والسفه… فعكسوا صفاته الحقيقية ليتهكموا عليه…
ولكن مع كل هذه السفاهة التي قُوْبِلَ بها شعيب من قومه نرى شعيبًا عليه السلام – «لأنه الحليم الرشيد حقيقة» – يتغاضى عن سفاهة قومه؛ لأنه يدرك جهلهم وعنادهم، وفي الوقت نفسه يؤمن بقوة الحق الذي أتاهم به من عند ربه؛ فيوجه حديثه إليهم بأنه: لا يريد إلا إصلاحكم وسعادتكم وما دمت أستطيع ذلك وأقدر عليه فلن أقصّر في إسداء الهداية لكم ثم يفوض الأمور كلها بعد ذلك إلى الله فهو وحده الذي عليه أتوكل وأعتمد في كل شؤوني وهو وحده الذي إليه أرجع في كل أموري…
ثم توضح آيات القرآن الكريم – التالية لهذه الآيات الكريمة – معاودة شعيب عليه السلام: مخاطبة قومه بأسلوب مُهَذَّب حكيم ناصحًا لهم مُنَشِّطاً لذاكرتهم بأن يتذكروا مصارع السابقين من أقوام سبقتهم كذّبوا رسلهم: ما أصاب قوم نوح من غرق… وما أصاب قوم هود من ريح دمرتهم… وما أصاب قوم صالح من صيحة أهلكتهم… فإذا لم تتعظوا بذلك فاتعظوا بما أصاب قوم لوط من عذاب جعل أعلى مساكنهم أسفلها… وهو حدث قريب منكم في الزمان والمكان – زمن لوط عليه السلام كان غير بعيد عن زمن شعيب عليه السلام وديار لوط كانت قريبة من ديار قوم شعيب – فاتحًا لهم باب الأمل في التوبة والاستغفار…
غير أن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ومن الجهل أقصاه ومن التحدي والتكذيب ما لا يؤمل فيهم رجاء ومن الاستهانة بشعيب وإظهار ضعفه ما يؤكد غرورهم وبطرهم… فيقولون له بكل كبر وتعال: إنه لولا عشيرتك التي هي على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت؛ ولكن مجاملتنا لعشيرتك التي كفرت بك هي التي جعلتنا نبقي عليك وما أنت علينا بمكرم أو عزيز أو محبوب أو قوي حتى نمتنع عن رجمك بل أنت فينا الضعيف المكروه.
وهنا نجد شعيبًا عليه السلام يغير في أسلوب مخاطبته لهم فيهددهم بوقوع عذاب الله – الذي نزل عليهم بعد ذلك – على النحو الذي ورد في القرآن الكريم في بقية الآيات السابقة (سورة هود الآيات من 89-95) وما ورد في (سورتي: الأعراف والشعراء).
إن للحليم جزاءً عند الله لا يناله إلا من أنعم الله عليه بالتحلي بتلك الصفة القيمة روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل قال: فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سِرَاعًا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إنا نراكم سِرَاعًا إلى الجنة؛ فمن أنتم فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون لهم: وما فضلكم، فيقولون: كنا إذا ظُلِمْنا صبرنا، وإذا أُسِيءَ إلينا عفونا، وإذا جُهِلَ علينا حلمنا، فيقال لهم: اُدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»(1).
بل إن الحليم ينال درجة أعلى من ذلك وأرفع وهي: حب الله له، ومن يحبه الله فقد حاز النعيم كله؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وجبت محبة الله على من أُغْضِبَ فحلم»(2)، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله – عز وجل – ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يُحْرَمُون الرفقَ إلا حُرِمُوا»(3).
ولذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الحريص على فتح أبواب الخير لأمته – يرغب أصحابه ويرغب المسلمين في التحلي بصفة الحلم والصفح ببيان فضل الحلم والصفح والعفو، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع به الدرجات، قالوا نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك»(4).
ولقذ رفع الله – جل وعلا – من شأن فضيلة الحلم والصفح والعفو فجعلها من صفات المتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترًا وخافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى فوعدهم الله بجنة عرضها السماوات والأرض يقول الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰوٰتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ آل عمران: الآيتان 133، 134.
فجعل الله – سبحانه وتعالى – الجنة جزاء للمتقين الذين من صفاتهم أنهم يمسكون غيظهم ويمتنعون عن إمضائه مع القدرة عليه ويغضون أبصارهم عمن أساء إليهم.
غير أن هاتين الصفتين: كظم الغيظ والعفو عن الناس إنما تكونان محمودتين عندما تكون الإساءة متعلقة بذات الإنسان. أمّا إذا كانت الإساءة متعلقة بالدين بأن انتهك إنسان حرمة من حرمات الله، ففي هذه الحالة يجب الغضب من أجل حرمات الله، ولا يصح العفو عمن انتهك هذه الحرمة، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثمًا فإن كان ثم إثم كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى»(5).
ويكفى الحلم فضلاً وشرفًا وقدرًا ورفعة أن الله جل وعلا تسمى به فهو اسم من أسماء الله الحسنى وأنه من أسماء الله التي يلجأ الإنسان عند نزول الكرب بالدعاء به لرفعه، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلّا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم».
وقد ورد اسم الله «الحليم» في إحدى عشرة آية في تسع سور في القرآن الكريم.
الهوامش:
- البيهقي في شعب الإيمان.
- الأصفهاني.
- الطبراني.
- الطبراني والبزار.
- متفق عليه.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربیع الثانی 1435هـ = فبرایر 2014م ، العدد : 4 ، السنة : 38