دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ عبد الرزاق القاسمي الأمروهي(*)
حث الله تعالى عباده على تعلم العلم، ومدح العلماء وأشاد بذكرهم، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على توحيده سبحانه، فقال: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْـمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيْزُ الْـحَكِيْمُ﴾ (آل عمران: 18)، وحصر خشيته فيهم فقال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28)، ونفى المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُوْنَ﴾ (الزمر: 9)، وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، إلى غير ذلك من النصوص التي تدل على فضل العلم والعلماء.
وعلم الحديث من أجل العلوم وأشرفها وأعظمها عند الله قدراً، فبه يُعْرَفُ المراد من كلام الله عز وجل، وبه يَطَّلِعُ العبدُ على أحوال نبيه – صلى الله عليه وسلم – وشمائله، وناهيك بعلمِ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بدايته، وإليه مستندُه وغايته، وحسب الراوي للحديث شرفًا وفضلاً، وجلالة ونُبلاً، أن يكون في سلسلة آخِرُها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: «أشدُّ البواعث وأقوى الدَّواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-)».
فمن تحمل الحديث واشتغل بتعلمه وتعليمه، كان له الحظ الأوفر من هذا المدح للعلماء، وكفى بذلك شرفاً للحديث وحَمَلَتِه، بل إن صرف العمر في تعلم الحديث ونشره أفضل من الاشتغال بنوافل القربات، وما ذاك إلا لما فيه من بيان القرآن، وإحياء سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – والتأسي به، ولو لم يحصل لأهله من الفضل إلا كثرة الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – التي ورد فيها ما ورد من الفضل الجزيل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة) رواه الترمذي وحسنه، وأهل الحديث هم أكثر الأمة صلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم -.. لو لم يحصل له إلاّ ذاك لكان له مبعث كل فخر.
وقد قيل في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ (الإسراء: 71): «ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من هذه؛ لأنه لا إمام لهم غيره – صلى الله عليه وسلم -».
ويكفي أهلَ الحديث شرفاً وفضلاً دخولهم في دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال – كما في السنن -: (نضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، قال سفيان بن عُيَينة: «ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث».
كما أن الاشتغال بعلم الحديث تبليغ عن رسول لله – صلى الله عليه وسلم – وامتثال لأمره، حين قال: (بلغوا عني ولو آية) رواه أحمد وغيره.
وقد بشَّر – صلى الله عليه وسلم – بحفظ هذا العلم، وأن الله عز وجل يهيء له في كلّ عصر خلفًا من العُدُول، يحمونه وينفون عنه التحريف والتبديل، حماية له من الضياع، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، فقال في الحديث المشهور: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) رواه ابن عبد البر وغيره وحسنه، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: «لولا أهل المحابر، لخطبت الزنادقةُ على المنابر».
ومما يدل أيضاً على شرف الحديث وأهله، ما ورد عن السلف والأئمة من تعظيم للسنة، وإجلالهم لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول عمرو بن ميمون: «ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فنكس، قال: فنظرت إليه فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه» رواه ابن ماجة، وكان ابن سيرين إذا ذُكر عنده حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يضحك خَشَع، واشتهر عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك أَكثر من غيره، فكان إذا أَراد الحديث اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه وجلس على منصة خاشعاً، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من الحديث، ويقول: أحب أن أعظم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان يكره أَن يحدِّث وهو قائم أو مستعجل، وما ذاك إلا تعظيماً للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وإجلالاً لحديثه وكلامه.
وهذا التعظيم للحديث، والحرص على نقله، والتأسي به – صلى الله عليه وسلم – في الدقيق والجليل، من أعظم علامات محبته، والمرء مع من أحب يوم القيامة، وقد جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: وما أعددت للساعة؟ قال: حب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت)، قال أنس: «فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم». وأهل الحديث هم أولى الناس بهذا الوصف.
ولذلك قال الشافعي: «أهلُ الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم، وكان يقول: إذا رأيتُ صاحبَ حديثٍ فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ». أهل الحديث همُ أهل النبيِّ وإن لم يصحبوا نفْسه أنفاسَه صحِبوا.
فعلم بذلك شرف أهل الحديث، وعلو مكانتهم في الدين، وأن الاشتغال بالحديث من أعظم الطاعات وأجل القربات، فينبغي على المسلم أن يعتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً وفهماً، وتعلماً وتعليماً.
* * *
(*) أستاذ للحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بجامع «أمروهه» الهند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1435 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 38