إلى رحمة الله
كان عليّ جريًا على عادتي فيما يتعلق بالكتابة عن العلماء والأعلام إثر وفاتهم في هذه الزاوية أن أكتب عن الشيخ الفقيد إثر وفاته منذ نحو ستة شهور؛ ولكن الأشغال الملحة ربما تفرض عليّ ذاتها، فتشغلني عن الكتابة عنهم عاجلاً، فتتأخر إلى حين تخلصي منها. ومثل ذلك حدث فيما يتصل بالعالم الصالح المحدث المتضلع الشيخ زين العابدين القاسمي الذي مضى على وفاته شهور ولم أجد خلالها فرصة لأكتب عنه – رحمه الله – حتى تيسّر لي ذلك في 8/ذوالحجة 1434هـ = 14/أكتوبر: الاثنين. [رئيس التحرير]
انتقل إلى رحمة الله العالم المتضلع المحدث الشيخ الصالح زين العابدين القاسمي المعروفي بعد صراع مع المرض المؤلم وهو السرطان الذي أصاب حنجرته ومنع وصول الغذاء إلى الأمعاء فإلى المعدة، وأدى إلى ضنى خطير في جسمه وأنهك قواه كلّها. وذلك في بلدته «بورا معروف» إحدى القرى التابعة لمديرية «مئو» – مديرية «أعظم جراه» سابقًا – في الثانية والربع بعد ظهر يوم الأحد: 16/جمادى الثانية 1434هـ الموافق 28/أبريل 2013م، عن عمر يناهز 83 سنة بالنسبة إلى السنوات الهجرية و 81 عامًا بالنسبة إلى الأعوام الميلادية.
كان من جيل العلماء الهنود الذي جمع بين العلم الواسع والصلاح الكامل وعاش في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وتفرغ للتعلم والدراسة، ثم توفر على التعليم والتدريس والتحقيق والتأليف وتخريج علماء أكفاء يحملون راية العلم والتحقيق. وفي ذلك أمضى حياته كلها حتى توفّاه الله بعد أن استكمل المهمة العلمية التي خلقه الله لها.
تلقى الدراسة الابتدائية في «المدرسة المعروفية» ببلدته «بورامعروف» وأنهى فيها تلقى مبادئ القراءة في كل من الأردية والفارسية والعربية، واجتاز المرحلة الابتدائية من العلوم العربية والشرعية على كل من الشيخ شبلي شيدا الخيرآبادي والشيخ عبد الستار الأعظمي المعروفي والشيخ عبد الجبار الأعظمي المعروفي رحمهم الله تعالى، ثم اجتاز بعض صفوف المرحلة الثانوية في مدرسة «إحياء العلوم» ببلدة «مباركبور» على كل من الشيخ المفتي محمد يسين، والشيخ داود أكبر الإصلاحي، والشيخ عبد الجبار الأعظمي المعروفي، والشيخ المقرئ ظهير الدين المعروفي، والشيخ بشير الدين أحمد المباركبوري وغيرهم من العلماء.
ثم التحق في شوال 1368هـ/ يوليو 1949م بالجامعة الإسلامية الأم: دارالعلوم/ديوبند حيث اجتاز بقية المرحلة الثانوية والمرحلة العالية، وتخرج منها سنة 1372هـ/1953م. ومن الأعلام والمشايخ الذين قرأ عليهم فيها العالم العامل المجاهد الشيخ الكبير السيد حسين أحمد المدني – رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م) والشيخ الصالح الفقيه الأديب محمد إعزاز علي الأمروهوي – رحمه الله (1300-1374هـ = 1882-1954م) والعالم الذكي العلامة محمد إبراهيم البلياوي – رحمه الله (1304-1387هـ = 1886-1967م) والشيخ السيد فخرالحسن المرادآبادي – رحمه الله (1323-1400هـ = 1905-1980م) والشيخ محمد جليل الكيرانوي – رحمه الله (المتوفى 1388هـ/ 1968م) والشيخ ظهور أحمد الديوبندي – رحمه الله (1318-1383هـ = 1900-1963م) والشيخ المفتي مهدي حسن – رحمه الله (1301-1396هـ = 1884-1976م) والشيخ نصير أحمد خان البرني – رحمه الله (1337-1431هـ = 1918-2010م) والشيخ بشير أحمد خان – رحمه الله (المتوفى 1386هـ/1966م).
وعلى شاكلة العلماء الذين يتعلمون ثم يُعَلِّمون، دخل – رحمه الله – الحياة العملية بممارسة التدريس في شتى المدارس الإسلامية الأهلية في الهند، وبدأ مشواره التدريسي من التدريس في كُتَّاب قريته، ثم أشار عليه أستاذه العطوف العالم الصالح الفقيه الأديب الشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي – رحمه الله – بالتدريس في مدرسة في قرية تابعة لمديرية «ميروت» بغربي ولاية «يوبي» وهو مدرسة «مدينة العلوم» بقرية «إكلا خانبور»؛ حيث مكث يدرس عامًا دراسيًّا في الفترة ما بين شوال 1373هـ/مايو 1954م حتى رجب 1374هـ/ فبراير 1995م، ثم انتقل إلى مدرسة في قرية «كومابهول» بولاية «آسام» في شوال 1374هـ/مايو 1955م، وبقي يدرس بها على مدى ثلاث سنوات؛ حيث غادرها في شعبان 1377هـ/فبراير1958م.
ثم اشتغل بالتدريس في مدرسة «إحياء العلوم» ببلدة «مباركبور» بدءًا من محرم 1378هـ/ يوليو 1958م، وبقي يدرس بها على مدى 12 عامًا دراسيًّا في الفترة ما بين 1378هـ/1958م وشعبان 1390هـ/ سبتمبر 1970م. وخلال تدريسه بها ألّف بالعربيّة شرح «شرح العقائد النسفية» (متن كتاب «العقائد النسفية» للإمام نجم الدين عمر أبوحفص المتوفى 537هـ/1142م الذي ولد في «نسف» بفارس وتوفي بـ«سمرقند» وشرحه بالعربية للتفتازاني مشهور مُتَدَاوَلٌ، وهو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين (712-793هـ = 1312-1390م)، وقام فيها بتدريس كتب شتى العلوم، مما أطار صيته العلمي، وسمعةَ أهليته التدريسيّة، وقرأ فيها عليه كثير ممن اشتهروا فيما بعد بعلمهم وفضلهم وصلاحهم، وعمّ نفعهم الديني والعلميّ.
وتفرغ لعام كامل في الفترة ما بين 1390-1391هـ الموافق لـ 1970-1971م للقيام بالدعوة والتبليغ، فقام بجولات ورحلات دعوية مكثفة في أرجاء الهند، وكان عندها يعد من كبار مشايخ جماعة الدعوة والتبليغ.
ثم أمضى ثماني سنوات في التدريس في «مدرسة الإصلاح» ببلدة «سرائي مير» بـ«أعظم جراه» وذلك في الفترة ما بين 1391هـ/1971م و1399/ 1979م، وقام فيها بتدريس صحيح البخاري وجامع الترمذي وحجة الله البالغة، وبداية المجتهد، والعقائد النسفية، وما إليه من كتب الحديث والأدب.
ثم قام بالتدريس طوال خمس سنوات في مدرسة دارالعلوم ببلدة «جهابي» بمديرية «بناس كانثا» بولاية «غجرات» بدءًا من 1401هـ/1981م حتى 1405هـ /1985م. ثم شغل منصب شيخ الحديث بجامعة «مظهرالعلوم» بمدينة «بناراس» – مدينة «وارانسي» حاليًّا – حيث استمرّ يقوم بالتدريس طوال مدة 9 سنوات وثلاثة شهور لعام 1413هـ/1993م ثم قضى سنتين في التدريس بمدرسة «دارالعلوم سبيل السلام» بمدينة «حيدر آباد» بجنوبي الهند.
ثم لما أنشئ بجامعة «مظاهر العلوم» بمدينة «سهارنبور» قسم التخصص في الحديث سنة 1416هـ /1996م عُيِّن رئيسًا للقسم، وظلّ يُخَرِّجُ فيه علماء متقنين للحديث وعلومه لآخر عهده بالحياة. وكان يُعَدُّ من العلماء الأفذاذ بالحديث وعلومه في الهند كلها، وكانت دراستُه للحديث عميقة دقيقة واسعة، وكان يتمتع بذوق علمي جدير بالذكر، فكان لايمرّ بفن دون أن يتعمق فيه ويستوعبه دراسةً.
وكان متواضعًا جدًّا حتى كان لا يزور العلماء الكبار والصالحين فقط بل كان يزور العلماء من تلاميذه في بيوتهم قاصدًا إيّاهم خصيصًا، ولايحبّ أن يُزَارَ، وكان بسيط المأكل والملبس، مؤمنًا بالله إيمانًا راسخًا، واثقًا به الثقة كلَّها، راضيًا كل الرضا بقضائه وقدره، قد قضى أيام مرض وفاته كلها في ارتياح كامل إلى قدرة الله وصنعه به، لم يشكُ ولم يُبد ما يدلّ على تبرّمه بالحياة وانزعاجه من المرض المؤلم الذي ألمّ به والذي يُعَدُّ البرء منه مستحيلاً إلاّ إذا شاء الله، قضاها في الذكر والعبادة والإنابة إليه تعالى يستعدّ لما بعد الموت وقلبه مطمئن كأنه قد شاهد الجنة والنعيم اللذين سيكرمه الله بهما بمنه وكرمه فيما بعد الموت. وقد أكد كلّ الذين لازموه في حياته ولاسيّما في أيام مرضه الذي مات فيه، أنه لم يبد قط مخافة من الموت أو للأهوال التي تأتي بعده؛ لأن إيمانه القوي بربّه تعالى هَوَّن عليه الموت فهانت عليه الأهوال الآتية بعده، بل كان يفرح بأنّه سيلقى غدًا ربَّه الذي خلقه وخلق الموت والحياة.
جزاه ربّه عن كل ما قام به من خدمة العلم والدين وتخريج العلماء الثقات والدعاة المؤهلين، وأدخله فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
موجز سيرته الذاتية:
- الاسم: زين العابدين بن محمد بشير بن محمد نذير بن حافظ عبد القادر بن عبد الرحمن.
- الولادة: الليلة المتخللة بين الأحد – الاثنين: 29/جمادى الثانية 1351هـ = 3/أكتوبر 1932م.
- مسقط رأسه ووطنه: «بورا معروف» بالباء الهندية المثلثة قرية تابعة لمديرية «مئو» التي انفصلت عن مديرية «أعظم جراه» منذ سنوات.
- التعليم: تلقى مبادئ الدراسة في بلدته «بورا معروف» على أساتذة ذكروا في نص المقال، ثم تعلم في مدرسة «إحياء العلوم» ببلدة «مباركبور» بالباء المثلثة الهندية قبل الواو والراء، ثم التحق بأعرق الجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية: دارالعلوم/ ديوبند وفيها تخرج عام 1372هـ/1953م. وهو من تلاميذ العالم العامل المجاهد المناضل الشيخ السيد حسين أحمد المدني – رحمه الله تعالى – الذي كان من قادة النضال الأساسيين ضد الاستعمار الإنجليزي بالهند، وعليه تخرج في النضال ضدّ الاستعمار الفرنسي في الجزائر في المدينة المنورة بالمسجد النبوي الشريف أولئك العلماءُ الذين ناضلوا ضد الاستعمار حتى حرروا الجزائر من نيره.
- قام بالتدريس في ثماني مدارس صغيرة وكبيرة طوال 62 سنة بالنسبة إلى السنوات الهجرية و 60 عامًا بالقياس إلى الأعوام الميلادية، بدءًا من شوال 1372هـ /يونيو 1953م حتى 1434هـ/2013م منذ ما قبل أيام من وفاته.
وتخللت الفترةَ التدريسيةَ هذه سنةٌ واحدة فرّغها للقيام بجولات دعوية ضمن الجولات والرحلات الدعوية التي تنظمها جماعة الدعوة والتبليغ التي مقرّها بـ«بستي نظام الدين» بدهلي الجديدة والتي كان قد أسسها 1345هـ/1926م العالم الهندي الكبير والداعية الإسلامي الشهير فضيلة الشيخ «محمد إلياس الكاندهلوي» رحمه الله (1303-1363هـ = 1885-1943م).
- مؤلفاته: 1- تكملة «إمداد الباري شرح صحيح البخاري» لأستاذه المحدث عبد الجبار المعروفي الأعظمي باللغة الأردية، طبع من التكملة جزءان. 2-«دلائل الأمور الستة» قدم فيه دلائل من نصوص الكتاب والسنة على مشروعية وفضيلة الأمور الستة التي تهتم بها جماعة الدعوة والتبليغ ضمن الأنشطة الدعوية. 3-«التبرك بأسماء الله الحسنى» كتيب باللغة الأردية. 4-«القراءة المسنونة» جمع فيه الأحاديث التي ورد فيها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة معينة في صلاة بعينها. 5-«الانتقاد العلمي لكتاب (المرتضى)» لسماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الندوي – رحمه الله. 6-حل موجز لكتاب «شرح العقائد النسفية» للتفتازاني بالأردية، 7- تحقيق وتعليق على رسالة «الأوائل» لمحمد سعيد بن سنبل – رحمه الله. 8- تحقيق وتعليق على كتاب «المغني» للعلامة المحدث محمد بن طاهر بن علي الصديقي الفتني صاحب «مجمع بحار الأنوار» (910-986هـ = 1504-1578م).
وهذه الكتب والرسائل قد تم طبعها ونشرها، وهناك مؤلفات لم يتم طبعها، وهي:
1- «التعليقات السنية على شرح العقائد النسفية» وهو شرح مفيد بالعربية لشرح العقائد للتفتازاني (مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين من أئمة العربية والبيان والمنطق 712-793هـ = 1312- 1390م). 2- «تذكرة علماء هند» وهو كتاب كان ألفه الشيخ رحمان علي الناروي – رحمه الله – بالفارسية، ونقله الفقيد إلى الأردية. 3- مُؤَلَّفٌ وضعه في تراجم الرجال الذين ذكرهم الإمام الذهبي في رسالته: «من يعتمد قوله في الجرح والتعديل». 4- قام بإحصاء الأحاديث الواردة في «جامع الترمذي» عددًا مع أحكامه التي حكم بها على الأحاديث بقوله: «حسن صحيح» «صحيح» «حسن» «غريب» «حسن غريب» «حسن صحيح غريب» «غير محفوظ» «مضطرب» وما إلى ذلك من الكلمات التي اصطلح عليها للحكم على الأحاديث التي جمعها في جامعه، فقام الفقيد – رحمه الله – بتدوين تلك الأحكام إجمالاً فتفصيلاً.
(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الاثنين: 8/ذوالحجة 1434هـ = 14/أكتوبر 2013م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1435 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 38