دراسات إسلامية

بقلم:  د. رشيد كهوس (*)

          أكدت الشريعة الإسلامية السمحة على التكافل بين أفراد الأسرة وجعلته الرباط المحكم الذي يحفظ الأسرة من التفكك والانهيار.

       ويبدأ هذا التكافل من الزوجين بتحمل المسئولية المشتركة في القيام بواجبات الأسرة ومتطلباتها؛ كل بحسب وظيفته الفطرية التي فطره الله عليها، فالرجل وظيفته القوامة، والمرأة وظيفتها الحافظية، وبالتعاون بين الزوجين يتحقق التكامل والاستقرار داخل الأسرة، يقول الله جل شأنه: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾(النساء:34). ويقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(البقرة: من الآية228).

       عن عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ – وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه)(1).

       يأتي تقسيم المهام وتوزيع المسئوليات داخل الأسرة المسلمة – كما تتبين لنا وظيفة المرأة والرجل من خلال الحديث السابق – بين الرجل والمرأة بما يضمن قيام الأسس المادية والمعنوية التي تقوم عليها الأسرة، وبما يضمن السعادة الأبدية لأفرادها.

       والأسرة مسؤولية مشتركة بين الزوجين فكلما وجد أحدهما في الآخر تقاعسا أو تقصيرا نبهه وأرشده إلى الخير ورغبه فيه،  قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(التوبة:71). ويقول الباري جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم:6).

       ويقول عز من قائل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الروم:21).

       بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع. الاستقرار أصْلُه ومثواه الزوج المؤمنة الصالحة الناظرة إلى مثال الكمال في خطاب الله عــز وجل لنساء نبيه: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ (الأحزاب:32-33).

       أصل الاستقرار ومثواه ومِرْساتُه الزوج الصالحة المنخرطة في سياق الاستقرار. فعل الأمر «قَرْنَ» يحمل معاني الوَقار والقرار، ومعانيَ الحياء والحشمة، ومعاني الثبات والوفاء. هذه المعاني يجب أن تسري في شرايين المجتمع، هذه المعاني نابعة من كل أسرة، متغذية من منابع القلوب الطاهرة الراضية بنصيبها من الحياة الدنيا ومتاعها وزينتها.

       لقد أرسى الإسلام قواعد متينة لتحقيق التكافل الأسري منها:

       أ)- حفظ الحقوق بين الزوجين: يقول الله جَلَّ وعلا: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾(النساء: من الآية19)، ويقول جل وعلا: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(البقرة: من الآية228).

       عَنْ أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)(2).

       لا ريب أن الحياة الزوجية الصحيحة هي التي تقوم على المعاشرة الحسنة والأخلاق الحميدة، والمحبة الدائمة والحوار النافع والإيثار والتراحم.

       والمعروف هو ما تعرفه الفطر السليمة والعقول الرشيدة، ويتعاون أهل الفضل والخير من الناس بحيث يعرفونه ولا ينكرونه، إن العشرة بالمعروف هي المظلة والمنهاج الذي تسير عليه الحياة الزوجية، سواء عند أداء الواجبات والمطالبة بالحقوق، أم كمنهاج تسير على هديه الحياة داخل البيت.

       فالزوج والزوجة هما سبيلا نجاح الأسرة والمجتمع، إذا تفاهما وتعاونا وتحابا صلحت الأسرة وإذا تنافرا وتنازعا وتشاجرا فسدت الأسرة والمجتمع، وهذا التنازع والخصام هو الذي يسعى إبليس اللعين لتحقيقه لتنفرم تلك العقد ويتفكك ذاك الميثاق الغليظ، ولذلك فإن مُنية كل شيطان من شياطين الإنس والجن أن تنكسر الأسرة، ويضيع الأولاد ويتمزقوا.

       الآن يحصل هذا الضياع وهذا التمزق من جهتين: من جهة تفكك الأسرة الآخذ في التفشي، ومن جهة هيمان هذه الأعداد الغثائية من الأطفال والشباب بلا مربٍّ ولا مراقب.

       ولذلك لتصلح هذه الأسرة يجب أن يحسن كل من الزوجين معاملة الآخر، لأن حسن المعاملة وصية دينية يجب أن تطبع الحياة الزوجية في كل مجال. والشرع يوصي بها لما فيها من المنافع الإيجابية التي تعطي للبيت جلالا واستقرارا.. وعلى قدر حسن المعاملة ترفرف السعادة على البيت وتنشر أجنحتها على أعضائه.

       لكن نلاحظ غياب ذلك التفاهم وتلك المعاملة الحسنة وذلك الجو السعيد في الكثير من الأسر اليوم. ونلاحظ  شبه عداء بين الرجل والمرأة كأن كلا منهما ضحية الطرف الآخر في الوجود، وليس ذلك من المعقول فالرجل والمرأة عنصران متكاملان لا تسعد البشرية إلا إذا كان كل طرف منهما يحس بضرورة وجود الآخر وبضرورة احترامه، أما إذا أصبحت العلاقة بينهما في سياق النزاع والشقاق والظالم والمظلوم والحاكم والمحكوم والمستبد والمقهور وأصبحت تدعو إلى مؤتمرات لتصنف هذه من ذاك أو هذا من تلك أو لتزيح طغيان الرجل عن المرأة أو طغيان المرأة عن الرجل فإن الحياة حينئذ تصير مكفهرة قاتمة تفقد الأمن والاطمئنان والاستقرار وتتحكم فيها أنواع المخاوف والقلق والاضطراب وتسود الأسرة حينئذ تفككات تؤدي إلى ضياع التماسك وإلى انحلال العلاقات وتفسخها ويصير الزوج متبرما من زوجته والزوجة متبرمة من زوجها ويتقمص الأبناء هذا التبرم الذي يؤدي إلى التشاؤم والحقد، والذي تنتج عنه العوائق الحاجزة بين التكوين السليم بين نفوس الأطفال وحينئذ تضيع الأمة في أطفالها وتنتشر أنواع الانحراف والفوضى فيعم العنف وتكثر الجرائم وتتلاشى مظاهر الأخلاق الفاضلة ويؤدي المجتمع بدوره ضريبة هذه الأخطاء فيعيش فاقدا للأمن خائفا على المصير.

       وما دام الأمر كذلك فلماذا لا يتعاون الزوج والزوجة ليجنبا قافلة الأسرة الفوضى والتفكك والانحراف، ويحسن كل واحد منهما معاشرة الآخر.

       ويعتبر هذا الحق -المعاشرة بالمعروف- حقا ثابتا للمرأة تطالب به متى حرمت منه، قال الله  تعالى: ﴿وعاشروهن بالمعروف﴾ فهي وصية إلهية للرجال بحسن معاشرة أزواجهم والرفق بهن وخصوصا في حالات الغضب، فالرجل إذا كره من زوجته شيئا أحب منها شيئا آخر، فإذا أتت الزوجة بذنب واحد فإن خصالها الحميدة تأتي بألف شفيع.

       ولذلك وجب على الزوج أن يعامل زوجته بالمعروف ويحسن عشرتها ويقوم بنفقتها وهي تشمل الطعام والكسوة والسكنى. كما يجب عليه أن يصبر على زوجته إذا رأى منها بعض ما لا يعجبه من تصرفها، ويعرف لها ضعفها بوصفها أنثى، فوق نقصها كإنسان، ويعرف لها حسناتها بجانب أخطائها، ومزاياها إلى جوار عيوبها…

       ولنا في سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عيله وسلم أسوة حسنة في معاشرته لأهله، ورحمته بهم، وشفقته عليهم، ومداعبته معهم…كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي، كان رحمة لأهله وللعالمين، كانت أخلاقه عظيمة وصدق ربنا تبارك وتعالى حيث يقول في حبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم:4)، فمثاليته الأخلاقية، جعلت لنا فيه الأسوة المثلى، وألزمتنا بطاعته التي أمرنا بها الله، ومن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة فليرجع إلى ذلك النبع الصافي والنور الهادي والمقام العالي ليستنير بتوجيهاته صلى الله عليه وسلم سيرته وحياته ومعاملته مع أهل بيته.

       ب)الزوجة الصالحة والزوج الصالح: إن من حقوق كل آدمي الأساسية الاستقرار في أسرة، والتمتع برعاية الأبُوة والأمومة، ثم الزوجية والبنوة وَوَلاية الرحم في حالة شيخوخته ومرضه وفاقته.

       عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يتزوجها إلا ليغض بصره أو ليحصن فرجه، أو يصل رحمه بارك الله له فيها، وبارك لها فيه)(3).

       وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)(4).

       إن الأسرة هي المحضن الأول للطفل، فإذا كان الزوج والزوجة صالحين  نشأ الطفل تنشئة صالحة، لذلك وجب من البداية وقبل البناء اختيار الأم الصالحة ذات الأخلاق الحسنة والأب الصالح  ذي الأخلاق الحسنة للطفل.

       الخلق عماد ثان في شخصية المؤمن والمؤمنة. وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تدل على أنه قد يكون في الرجل والمرأة بعض تدين، لكن نقصه في ميزان الأخلاق والمروءة لا يؤهله لصلاحية الحفاظ على الفطرة إنجابا وتربية، ومن أجل تحقيق هذين الهدفين شُرع الزواج بالجامع بين الدين والخلق والجامعة بينهما.

       ت)-الإنفاق على الأسرة: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾(الطلاق:7).

       إن المال قوام الحياة المادية، والرجل مسؤول عن زوجته  وجب عليه أن ينفق عليها ويضمن لها استمرار حياتها، بل إن الإسلام قد أوجب النفقة للزوجة على الزوج حتى لو كانت مطلقة فإن النفقة والسكن واجبة عليه طول فترة العدة: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾(الطلاق:6).

       فالزوجة والأبناء بحاجة إلى هذه النفقة لأن بها تستمر حياتهم وهي قوام بنيتهم، وذلك أن الإنسان لا يستطيع البقاء بدون نفقة يقوم بها صلبه، ولا يستطيع مخالطة الآخرين ومسايرة المجتمع دون كسوة يستر بها عورته، ولا يستطيع العيش دون مسكن يأويه ويقيه حر الشمس ولهيبها وشدة البرد وزمهريره، ولذلك كانت سنة في بني البشر أن يبحث له عن مسكن وكسوة ونفقة، واقتضت سنة الله في الخلق أن يجعل لكل مخلوق ما يناسبه في هذه الحياة فجعل في الرجال الجلد والقوة والشدة والصبر على تحمل المشاق في سبيل اكتساب الرزق واستحصاله، وألزمهم المسكن لهم ولمن يعولونهم من النساء والذرية كما ألزمهم كسوتهم ورزقهم، وكانت هذه لهم مزية على النساء.

       ث)- تربية الأبناء ورعايتهم: يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(البقرة:233).

       عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ). ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  الآيَةَ﴾(5).

       عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِع…)(6).

       لقد أكدت الشريعة الإسلامية الغراء حق الأبناء الصغار في التربية والرعاية والحماية وجعلت ذلك أهم واجبات الأبوين،  ليكون الأبناء غرسا مباركا ومسجدا أُسسوا عل التقوى من أول يوم، فلم تكتف الشريعة السمحة بالدافع الفطري لقيام الأبوين بواجبهما نحو أبنائهما، بل عززت ذلك بقواعد محددة تضمن للأولاد النشوء في صورة مثلى تكفل لهم حقوقهم كاملة. فمنذ الولادة نص على استكمال الرضاعة كما سبق في الآية التي ذكرتها في مستهل هذه القاعدة من قواعد التكافل الأسري.

       عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:  (مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ). وَضَمَّ أَصَابِعَهُ(7).

       وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ). وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى(8).

       فحق الأبناء التربية القويمة والنفقة والكفالة والتعليم، وللبنت حق اختيار شريك حياتها، وذلك أخذا من ثبات حقها في إبداء الرأي، وحرية التفكير، فلا حجر، ولا مصادرة لحريتها في الاختيار، وليس لوليها أن يختار لها شخصا معينا، حرصا على مال، أو طمعا في منصب رفيع، وإن كان له حق التحري والنصيحة والتوجيه، وأن يمنعها من التزوج بفاسق منتهك لحرمات الشرع.

       ح)- حقوق الوالدين: الوالدان من حيث وضعهما الاجتماعي لهما المركز الأول، وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23) وَاخْفِضْ لَهُـمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾(24) [سورة الإسراء].

       – حق الأم: أعطى الإسلام للأم حق الرعاية قبل الأب، لأنها تتحمل القسط الكبير من الآلام والمشاق، فهي تحمل ولدها في بطنها تسعة أشهر، ثم تضعه وترضعه حولين كاملين، ثم تحضنه بعد ذلك، ثم ترعاه في سائر مراحل عمره حتى يشتد عوده ويقوى ساعده. فلها من ثمرتها وفلذة كبدها البر والإكرام وامتثال أمرها وطاعتها فيما لا معصية فيه، والإحسان إليها، والأخذ بنصيحتها، فلا تعطي لها ظهرك ولا تمشي أمامها ولا تدعها باسمها، بل قبِّل قدميها لتجد جنة الفردوس عندها.

       – حق الأب: الآباء أصول والأبناء فروع، ولولا الأصول لم تكن الفروع، وللأب حقوق على ابنه، أن يحسن إليه ولا يقل له إلا خيرا وما فيه الخير، وينفق عليه وتساعده، وتبر به وتدعو له…

*  *  *

الهوامش:

صحيح البخاري، باب الجمعة في القرى والبوادي. صحيح مسلم، باب فضيلة الإمام العادل.

سنن الترمذي، باب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. سنن ابن ماجه، باب معاشرة النساء.

المعجم الأوسط، الطبراني، باب من اسمه إبراهيم.

صحيح البخاري، باب الأكفاء في الدين. صحيح مسلم، باب استحباب نكاح ذات الدين.

صحيح البخاري، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. صحيح مسلم، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.

سنن البيهقي، 2/229.

صحيح مسلم، باب فضل الإحسان إلى البنات.

مسند أحمد بن حنبل، 3/147. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

*  *  *


(*)  أستاذ بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1434 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2013م ، العدد : 12 ، السنة : 37

Related Posts