دراسات إسلامية

إعداد الباحث:  مراد يحيى على عامر (*)

          إن الصلح من أهم الوسائل الشرعية في الفقه الإسلامي، فهو يحتل مكان الصدارة، ويعود ذلك إلى النتيجة التي يتمخض عنها، فالغرض من الصلح هو التوفيق بين الناس وإزالة ما بينهم من خصام وحقد، بالإضافة إلى كونه يعيد على أصحابه الحقوق برضا الطرفين فيحل بين الناس الحب والود ويسود الأمن والاطمئنان، وتنتهي أسباب الظلم والانتقام، فالصلح إذًا ليس رابطة قانونية فقط إنما مقاصده روابط اجتماعية أساسية ودية متينة، لأنه ليس من مقاصد الشرع بقاء الحقوق دون حسم، وبقاء روح المقاصة والانتقام في النفوس، وهذا ما نبه إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رد الخصوم إلى المصالحة لأنه يعلم أن حكم القضاء وإنْ فصل بين المتخاصمين ماديًا إلا أنه يورث بينهم الضغينة ويزرع في نفوسهم الكراهية وحب الانتقام.

       ولذا كان من القواعد الشرعية في الفقه الإسلامي «جلب المصلحة ودرء المفسدة»، فمن جلب المصلحة «تشريع المصلحة»، ومن درء المفسدة «إنهاء الخصومة»، ويتضح هذا المقصد – في الاستثناء البين – من القاعدة الأساسية للحق في الفقه الإسلامي، إذ القاعدة أن كل صاحب حق له أن يأخذ حقه كاملاً غير منقوص في الصفة والمقدار، والاستثناء أن يرخص له الشارع بإسقاط الحق كله أو جزئه، واستيفاء الباقي لمعنى (إزالة المشقة في تحقيق مالا سبيل إلى تحقيقه) من إقرار الحقوق لانعدام بينة، أو جهل بمقدار، ومبني على قاعدة (المشقة تجلب التيسير) التي هي ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة(1).

       وإذا كان الشارع الحكيم في مقاصده الشرعية قد حافظ على الضروريات، فإن الصلح ألصق بالمال والمحافظة عليه، فتضييع المال مفسدة وحفظه على ممتلكيه مصلحة فردية وجماعية.

       ولأهمية الصلح نجد أن الشريعة الإسلامية وضعت له أحكاماً خاصة ومنها:

1 جواز الكذب من أجل الصلح

       فقد رخصت الشريعة الإسلامية الترخص في الكذب من أجل الصلح، وذلك لأن الساعي في الصلح يسعى في الخير والإصلاح لا في الشر والفساد، ولأن المصلح يريد أن تكون أحوال العباد مؤتلفة ومتفقة، وهذا من أعظم ما يحبه الله، فهو كذب لا يسقط به حق، ولا يثبت به باطل ولذا فقد جاء عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمِيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بن عوف أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ(2) بِنْتَ عُقْبَةَ بن أبي معيط – وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِيْ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي(3) خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)(4). قَالَ اِبْن شِهَاب: وَلَمْ أَسْمَع يُرَخِّص فِي شَيْء مِمَّا يَقُول النَّاس كَذِب إِلاَّ فِي ثَلاَث: الْـحَرْب، وَالْإِصْلاَح بَيْن النَّاس، وَحَدِيث الرَّجُل اِمْرَأَته، وَحَدِيث الْـمَرْأَة زَوْجهَا)(5).

       واختلفوا في المراد بالكذب المباح الذي ورد في الحديث على قولين:

       القول الأول: قالت طائفة: «هو على إطلاقه وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام بل فعله كبيرهم، وإني سقيم، وقوله إنها أختي، وقول منادي يوسف عليه السلام: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو»(6).

       القول الثاني: «عدم جواز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا، المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا وينوي إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في الاصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلامًا جميلاً، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورّى، وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه مات إمامكم الأعظم وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدًا يأتينا مدد أي طعام ونحوه هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض والله أعلم، وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين والله أعلم»(7).

       وقال ابن حجر: «نقل الخلاف في جواز الكذب مطلقًا أو تقييده بالتلويح»(8)، قال ابن حجر: «ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط(9) الذي أخرجه النسائي(10) وصححه الحاكم(11) في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم(12)، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه»(13).

       وخلاصة القول أن الذي يدل عليه ظاهر النص هو جواز الكذب في هذه الصور الثلاث لما يترتب عليه من مصلحة راجحة، قال النووي: «والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم»(14).

       قال سفيان بن عيينة(15) رحمه الله: لو أن رجلاً اعتذر إلى رجل، فحرف الكلام وحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذبًا، يتأول الحديث: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس»، فإصلاحه ما بين صاحبه أفضل من إصلاحه ما بين الناس»(16).

2 تأخير الصلاة عن أول وقتها وجمعها:

       لقد أكد القرآن الكريم على المحافظة على الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها قال تعالى: ﴿حٰفِظُوْا عَلَی الصَّلَوٰتِ وَ الصَّلٰوةِ الْوُسْطَىٰ وَ قُوْمُوْا لِلهِ قٰنِتِيْنَ﴾ البقرة: 238، وقد جاء: عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مِسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا…)(17) وقد أجاز الشرع تأخير الصلاة عن أول وقتها إلى آخره إذا اقترن بذلك كمال أو مصلحة راجحة ومن ذلك الإبراد بالظهر في شدة الحر، وإنقاذ الغريق، وإكمال اتفاق الصلح الذي قد يضر القطع بإكماله، ولو أدى ذلك للتأخر عن صلاة الجماعة كما جاء في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ نَبِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُوبَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ…)(18).

       قال ابن حجر: «وفيه جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت وأن المبادرة إليها أولى من انتظار الإمام الراتب»(19).

       وقال النووي: «وفيه احتمال تأخير الصلاة عن وقتها وترك فضيلة أول الوقت لمصلحة راجحة»(20).

       وأما تأخير الصلاة لغير ذلك من «صناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يجوزه أحد من العلماء بل قد قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّيْنَ الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُوْنَ﴾ الماعون: 4-5، قال طائفة من السلف: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، وقال بعضهم: هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به وإن صلاها في الوقت»(21).

       وأما جمع الصلاة من أجل الصلح فهو جائز إذا دعا الأمر لذلك، ومما يدل عليه ما جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْـمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْـمَدِيْنَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ، فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ قَالَ قَلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ كَيْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)(22) وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْـمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ)(23).

       فما سبق من الأدلة دليل على جمعه صلى الله عليه وسلم للصلاة في الحضر، وكان من التوسعة على أمته، ومن هنا فقد جوز العلماء الجمع بين الصلوات لعذر.

       قال ابن تيمية: «يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِعُذْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْـمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة، وَالْـجَمْعُ فِي هَذَيْنِ الْـمَوْضِعَيْنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْـمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَأَنَّهُ صَلَّى بِالْـمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمْعًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَسَبْعًا الْـمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج: 78، فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَطَائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيرِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الصَّلاَتَيْنِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي التَّفْرِيقِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمَرِيضُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْـمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْـمَطَرِ عِنْدَ الْـجُمْهُورِ: كَمَالِكِ(24) وَالشَّافِعِيِّ(25) وَأَحْمَد(26) وَقضالَ أَحْمَد: يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى(27): إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ الْـجُمُعَةِ وَالْـجَمَاعَةِ جَازَ الْـجَمْعُ، فَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ(28) وَابْنِ الْـمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ الْـجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَلاَ يَجُوزُ التَّفْوِيتُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ صَلاَةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وصلاة اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ»(29).

       وقد جمع عبد الله بن عباس الصلاة بالبصرة لمصلحة اجتماع الناس، وخشيته أن يتفرقوا قبل سماع الحق الذي يريد بيانه، وهي مصلحة معتبرة شرعًا في أجواء تلك الفتنة، كما جاء عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لاَ يَفْتُرُ وَلاَ يَنْثَنِي الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ لاَ أُمَّ لَكَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْـمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ: فَحَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْتُهُ فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ)(30).

       أما جمع الصلاة بلا حاجة ولا عذر فلا يجوز، ولا يجوز أن يتخذ ذلك سنة وعادة؛ لأن ذلك يضاهي المشروع.

       قال النووي: «وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول بن سيرين»(31) وأشهب(32) من أصحاب مالك وحكاه الخطابي(33) عن القفال(34) والشاشي الكبير(35) من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي(36) عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر قول بن عباس أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم»(37).

       وخلاصة القول أنه يجوز تأخير الصلاة عن أول وقتها وجمعها إذا ترتب على ذلك مصلحة يخشى فواتها كالصلح وغيرها والله أعلم.

3 ترك الأيمان والحنث في اليمين:

       نهى الله عباده عن الأيمان التي تكون مانعة لهم من الإصلاح بين الناس، وذلك لأنه كان الرجل يحلف على ترك بعض الخيرات من أوجه البر، وصلة الرحم، والإصلاح بين الناس ونحو ذلك تاركاً لهذه الأعمال العظيمة بسبب أن لا يحنث في يمينه، فنهاهم الله تعالى أن تكون هذه الأيمان مانعة لهم من الإصلاح بين الناس وأفعال البر والتقوى، وكذلك لما في ترك القسم من قبول المصلح والوثوق به، قال تعالى: ﴿وَ لَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِّاَيْمَانِكُمْ اَنْ تَبَرُّوْا وَ تَتَّقُوْا وَ تُصْلِحُوْا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾ البقرة: 224، قال الرازي: «والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية وأجود ما ذكروه وجهان: الأول: وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني(38) وهو الأحسن أن قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُوْا اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمٰنِكُمْ﴾ نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل قد جعلتني عرضة للومك… وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾ القلم:10، والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين…، وعلة النهي ﴿أَن تَبَرُّواْ﴾ أي إرادة أن تبروا والمعنى: إنما نهيتكم عن هذا لأن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين، فإن قيل وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس؟ قلنا: لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الخلق فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر، وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.

       التأويل الثاني: قالوا العرضة عبارة عن المانع والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه… وتقدير الآية ولا تجعلوا ذكر الله مانعًا بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره قالوا وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم أو إصلاح ذات البين أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل لا تجعلوا ذكر الله مانعًا بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر ولكن لا فائدة فيها فتركناها(39).

*  *  *

الهوامش:

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى: 660هـ) تحقيق: محمود بن التلاميذ الشنقيطي، دار المعارف بيروت – لبنان ص22.

أم كُلْثُوم بِنْت عُقْبَة بن أبي مُعَيط بن أبي عَمْرو بن أميَّة بن عَبْد شمس القُرَشِيَّة الاموِيَّة، أخت الوليد بن عُقْبَة، واسم أبي مُعَيط: أبان، أسلمت بمَكَّة قديمًا، وصلت القبلتين، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجرت المدينة ماشية. انظر أسد الغابة ج3 ص459.

قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ نَمَيْتُ الْحَدِيثَ أَنْمِيهِ إِذَا بَلَّغْته عَلَى وَجْهِ الْإِصْلاَحِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، فَإِذَا بَلَّغْته عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ وَالنَّمِيمَةِ قُلْت نَمَّيْته بِالتَّشْدِيدِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَ غَيْرُهُمَا مِنْ الْـعُلَمَاءِ، انظر تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا ج5 ص167.

أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس ج9 ص194 رقم 2495.

أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه ج8 ص426 رقم 4717.

شرح النووي على مسلم ج16 ص158.

المرجع السابق.

فتح الباري ج6 ص159.

حجاج بن علاط بن خالد سكن المدينة، وهو معدود من أهلها، وبنى بها مسجدًا ودارًا تعرف به، وهو والد نصر بن حجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين سمع المرأة تنشد: هل من سبيل إلى خمر فأشربها… أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج وكان جميلاً. وأسلم الحجاج، وحسن إسلامه، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر انظر أسد الغابة ج1 ص241.

أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي: صاحب السنن، القاضي الحافظ، شيخ الاسلام. أصلح من نسا (بخراسان) وجال في البلاد واستوطن مصر، مات ودفن ببيت المقدس سنة 303هـ انظر الأعلام للزركلي ج1 ص171.

محمد بن عبد الله النيسابوري، الشهير بالحاكم أبو عبد الله: من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه، مولده ووفاته في نيسابور. ولي قضاء نيسابور، وهو من أعلم الناس بصحيح الحديث وتمييزه عن سقيمه صنف كتبًا كثيرة جدًا، قال ابن عساكر: وقع من تصانيفه المسوعة في أيدي الناس ما يبلغ ألفا وخمسمائة جزء منها: تاريخ نيسابور قال فيه السبكي: وهو عندي من أعود التواريخ على الفقهاء بفائدة ومن نظره عرف تفنن الرجل في العلوم جميعها، والمستدرك على الصحيحين وغيرها، انظر الأعلام للزركلي ج6 ص227.

جاء في السنن الكبرى للبيهقي، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَـمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالاً وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلاً وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ فَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ شَيْئًا فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ) ج9 ص150 رقم الحديث 18920، ورواه النسائي في السنن الكبرى، باب رطانة العجم رقم 8646، ورواه أحمد في مسنده في كتاب المكثرين، باب: مسند أنس بن مالك رقم 11960.

فتح الباري ج6 ص159.

شرح النووي على مسلم ج12 ص45.

سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي، أبو محمد: محدث الحرم المكي. من الموالي. ولد بالكوفة، وسكن مكة وتوفي بها. كان حافظا ثقة، واسع العلم كبير القدر، قال الشافعي: لولا مالكا وسفيان لذهب علم الحجاز توفي رحمه الله سنة 198هـ، انظر الأعلام للزركلي ج3 ص105.

شرح السنة، للإمام البغوي الحسين بن مسعود البغوي، المكتب الإسلامي – دمشق – بيروت – 1403هـ – 1983م الطبعة الثانية تحقيق: شعيب الأرناؤوط – محمد زهير الشاويش، ج13 ص119.

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير رقم 2574، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال ج1 ص233 رقم 120.

رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الإشارة في الصلاة ج4 ص452 برقم 1158، ومسلم في كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ج2 ص 404 برقم 639.

فتح الباري ج3 ص 76.

شرح النووي على مسلم ج5 ص114.

مجموع الفتاوى لابن تيميه ج22 ص 29.

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر ج4 ص10 رقم 1151.

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر ج4 ص5 رقم 1146.

مالك بن أنس بن مالك الاصبحي الحميري، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية، مولده و وفاته في المدينة سنة 179هـ انظر الأعلام للزركلي ج5 ص257.

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نسبة الشافعية كافة، قصد مصر سنة 199هـ فتوفي بها سنة 204هـ انظر الأعلام للزركلي ج6 ص26.

أحمد محمد بن حنبل، أبو عبد الله، الشيباني الوائلي: إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة، توفي سنة 204هـ انظر الأعلام للزركلي ج1 ص203.

محمد بن محمد بن محمد بن الحسين، أبو يعلى الصغير، عماد الدين ابن القاضي أبي خازم ابن أبي يعلى الكبير: قاض، من كبراء الحنابلة، توفي سنة 560هـ انظر الأعلام للزركلي ج7 ص24.

إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أبو ثور: الفقيه صاحب الإمام الشافعي. قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً، قال ابن عبد البر: له مصنفات كثيرة منها كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي وذكر مذهبه في ذلك مات ببغداد شيخًا سنة 240هـ انظر الأعلام للزركلي ج1 ص37.

مجموع الفتاوى – باب الصلاة لحرمة الوقت ج21 ص433.

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر ج4 ص13 رقم 1145.

محمد بن سيرين البصري، الأنصاري بالولاء، أبوبكر: إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، تابعي مولده ووفاته في البصرة وتفقه وروى الحديث، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا توفي سنة 110هـ انظر الأعلام للزركلي ج6 ص154.

أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو: فقيه الديار المصرية في عصره. كان صاحب الإمام مالك. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب مات بمصر سنة 204هـ أنظر الأعلام للزركلي ج1 ص333.

حمد بن محمد بن إبراهيم ابن الخطاب البستي، أبو سليمان: فقيه محدث توفي سنة 388هـ انظر الأعلام للزركلي ج2 ص273.

عبد الله بن أحمد المروزي، أبوبكر فقال: فقيه شافعي، كان وحيد زمانه فقهًا وحفظاً وزاهدا، كثير الاثار في مذهب الإمام الشافعي توفي سنة 417هـ انظر الأعلام للزركلي ج4 ص66.

محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، القفال، أبوبكر: من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب من أهل ما وراء النهر. وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء. وعنه انتشر مذهب (الشافعي) في بلاده. مولده و وفاته في الشاش سنة 365هـ انظر الأعلام للزركلي ج6 ص274.

إبراهيم بن أحمد المروزي، أبو إسحاق: فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق، أقام ببغداد أكثر أيامه. وتوفي بمصر سنة 340هـ، له تصانيف منها شرح مختصر الزنى انظر الأعلام للزركلي ج1 ص28.

شرح النووي على مسلم، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين ج5 ص 219.

محمد بن بحر الأصفهاني، أبو مسلم: وال، من أهل أصفهان، كان عالما بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، توفي سنة 322هـ انظر الأعلام للزركلي ج6 ص50.

التفسير الكبير، للرازي ج6 ص64-65.

*  *  *


(*)        جامعة عليكره الإسلامية.    ت: 8171657103

           Email: muraadamr2000@yahoo.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1434 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2013م ، العدد : 12 ، السنة : 37

Related Posts