الصلات القديمة الوطيدة بين دولة تركيا والجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند

أنباء الجامعة

أعده:  الأستاذ محمد سلمان البجنوري القاسمي(*)

مقال أعد بمناسبـة المؤتمر الدولي الذي عقدته مجلتا «ينى أميد» و «حراء» بقصر المؤتمرات في إسطنبول بتاريخ 27-28/ أبريل 2013م بعنوان «الإجماع والوعي الجمعي.. فقهاً وروحاً وثقافة وسلوكاً».

وقد وجهت الدعوة للمشاركة في المؤتمر، إلى فضيلة الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني /حفظه الله، رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، مع مرافقين له، فقام فضيلته بالرحلة إلى تركيا ورافقه فيها من أساتذة الجامعة، الأستاذ عارف جميل القاسمي وكاتب هذه السطور الأستاذ محمد سلمان البجنوري القاسمي.

       دولة تركيا لها أهميتها في تاريخ الإسلام والمسلمين فإنها هي الدولة التي قادت العالم الإسلامي نحو خمسة قرون. وكانت هي نقطة وحدة للمسلمين وحكوماتهم في أرجاء المعمورة، في عصرها الزاهر وعهدها المشرق، الذي يعرف بعهد الخلافة العثمانية.

       ولسنا بصدد أن نذكر – ولو بإيجاز – تاريخ هذه الخلافة، التي ألغيت في 1924م فصارت جزءًا أحلامنا، وجعلت أكبر آمالنا أن يعود عهدها المشرق الذي يضمن للعالم الإسلامي عودة مجده الغابر، وليس من الممكن أن تفي صفحات عديدة بتاريخ مثل هذه الخلافة الواسعة المدى، موسعة الحدود، قوية النفوذ؛ ولكن لا أقل من أن نقول: إن هذه الخلافة كانت في معظم عصورها، أشد غيرة على الدين و أكثر وفاء للإسلام والمسلمين، وكانت قوة عسكرية كبيرة مسلمة، تفعل كثيراً لمعاونة المسلمين فى العالم؛ فكانت تحظي بثقة المسلمين في أرجاء العالم عامة.

       وأكبر مزايا الخلافة العثمانية عند المسلمين الهنود عامة وعلماء ديوبند خاصة، أنها كانت مركز وحدة وأداة صلة بين المسلمين فى العالم، و هذا هوالأمر الذي جعل علماء ديوبند يقفون إلى جانب الأتراك حيثما حلت بهم نكبات، نتيجة مؤامرات القوى المعادية للإسلام. وذلك لأن تاريخ هذا المعقل الإسلامي – الذي يعرف بـ الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند – يشهد بأنه لا زال رجالها وعلماؤها في طليعة من قاموا بتأييد كل قضية إسلامية ثارت فى العالم الإسلامي ودافعوا عنها دفاعهم عن أنفسهم وأرواحهم ولم يتخلفوا عن إسداء أي عون اقتضته الظروف إلى مسلمي العالم بما أملته عليهم الأخوة الإسلامية، بغير تفريق بين مصري و تركي و حجازي و سوري، فإن ذلك يهدم الوحدة الإسلامية.

       وبهذه المناسبة نرى من المناسب أن نقدم إلمامة يسيرة عن الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند و علمائها.

       قد أسست هذه الجامعة على يد طائفة من العلماء الربانيين أولى الفراسة الإيمانية وفي طليعتهم الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله، وذلك بعد ما طوى الإنجليز بساط الحكومة المغولية فى الهند و استولوا على البلاد كلها و جعلوا المسلمين ولا سيما العلماء عرضة لأنواع من الظلم وأفانين من التعذيب، وجندوا كل إمكانيات الدولة لتنصير البلاد، ففي هذا الجو المظلم أسست هذه الجامعة في 15/محرم 1283هـ الموافق 30/مايو 1866م بصورة مدرسة صغيرة، صارت فيما بعد أكبر مؤسسة تعليمية وأعظم مركز للتربية الدينية في شبه القارة الهندية.

       وتتصل هذه الجامعة فى النسب العلمي والفكري بالإمام المصلح الشاه ولي الله الدهلوي، وورث منه هذا المذاق العلمي والفكري علماء ديوبند بواسطة الإمام محمد قاسم النانوتوي والإمام الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، اللذين زادا هذا المذاق جلاء وجامعية من حيث الدراية والتفقه، فطريق دارالعلوم/ ديوبند هي طريق أهل السنة والجماعة، ومسلكها هوالتوسط والاعتدال والجامعية فى العلوم والمزج بين العقل والنقل، واحترام السلف الصالح في ضوء الكتاب والسنة والاستفادة من اتجاههم الفكري ومذاقهم العلمي المتوارث في فهم مرادات الكتاب والسنة إلى جانب التمسك بأصول الرواية والدراية والتفقه.

       وقد خرجت هذه الجامعة علماء الإسلام وأعلام الدين و رجال الفكر ورواد الحركات، وإن هؤلاء العلماء قاموا بدور عظيم في تاريخ الإسلام، فغيروا مجرى حياة المسلمين فى الهند وما جاورها من البلاد، وخدموا الإسلام والمسلمين خدمات غالية في شتى نواحى الحياة العلمية والروحية والفكرية والعقلية والاجتماعية والسياسية وجعلوا مجال نشاطهم و عملهم إصلاح الأمة وتوجيه الشعب، و بناء حياته على أسس محكمة من الإيمان والتقوى، وأقاموا صروحاً منيعة ومراكز قوية تذود عن شرف الأمة الإسلامية. و تحافظ على كرامتها وشعلة إيمانها و شعائر دينها و مقومات شخصيتها، لا تمسها أعاصير الإلحاد والزندقة.

       و حاربوا كل عدو للإسلام في كل جبهة وبكل شجاعة فخذلوه بعون الله في كل معركة. و أعطوا درساًحيًا للدول والمؤسسات التي نشأت فيما بعد. لم يصرفوا وقتهم الثمين وطاقاتهم في تأييد حكومة وقائد وذم حكومة أخرى. ولم يمنعهم عن الجهر بالحق أمام ملك ولا رئيس، ولا أمير ولا سلطان كما لم يحثهم على المعارضة والمناهضة الإصرار على الرأي والتعصب للفكرة والانتقام للنفس؛ فان كل ذلك يحول دون طريقتهم ويعرقل نشاطهم ودعوتهم وأعمالهم البناءة. ومن منن الله الكبرى على هذه الجامعة وعلمائها أنهم قاوموا على الدوام جميع أساليب الاستعمار الهدامة، فلم تؤثر عليهم حيله وفنونه كما أثرت على كثير من الناس فى التحيز إلى دولة مسلمة على حساب معاداة الأخرى تفريقاً بين العرب والمسلمين بتبرئة فريق وتكفير الآخر واتهامه بالمروق عن الدين وما إلى ذلك على حسب مانواه الاستعمار فى الماضي والحاضر.

       وقد وفقهم الله لأداء رسالة الإسلام بريئاً عن أي نفع مادي ومعنوي وشخصي وجماعي، في ضوء ما أمرهم الله سبحانه في كتابه «وَاِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوْا فَأَصْلِحُوْا بَيْنَهُمَا». فكان شعارهم دائما أن يكونوا إخوة ناصحين للعرب والمسلمين إذا تنازع الفريقان منهم، فجل ما كان سعيهم في ذلك هو إصلاح ذات البين، والتقريب بينهما على أساس الأخوة والدين.

       و شعارهم هذا قد تجلى واضحاً عند ما حلت بالأتراك نكبة أليمة وهزيمة مريرة في معركة طرابلس وبلقان فى الحرب العالمية الثانية، فكانت دارالعلوم مسؤولين وأساتذة وطلبة في نشاط ملموس وحركة دائبة لجمع التبرعات للإخوان الأتراك المنكوبين، وأقيمت لنفس الغرض «لجنة الهلال الأحمر» فى الدار، و تبرع طلبتها و أساتذتها بمبلغ خطير بالنسبة إلى الهند يحثهم على ذلك الإحساس بالواجب الإسلامي والتضحية المثالية بالأموال في سبيل مواساة المنكوبين، وكان رئيس الأساتذة في دارالعلوم في ذلك الوقت الإمام العلامة محمود حسن المعروف بشيخ الهند أكبر قائد لحركة تحرير البلاد ومدبر الحركة المعروفة بخطة الرسائل الحريرية و صدرت من دارالعلوم فى هذا الموضوع فتوى خاصة تجاوب صداها في أرجاء الهند، فتبرع المسلمون بكل سخاء وإيثار، وأرسلت المبالغ إلى الحكومة التركية بواسطة جمعية «الهلال الأحمر».

       والجدير بالذكر أن تبرعات طلبة دارالعلوم و أساتذتها و منسوبيها بلغت خمسة و ستين ألف روبية، بينما كانت الميزانية السنوية لدارالعلوم في ذلك الوقت حوالي ستة و ثلثين ألف روبية فقط.

       و يخبرنا التقرير السنوي لدارالعلوم، المطبوع في 1331هـ أن دارالعلوم رأت من واجبها أن تقوم إلى جانب الخلافة العثمانية و تمد يد المساعدة إليها و تحرض المسلمين على تقديم التبرعات فى هذا السبيل مهما كان من المفروض أن يؤثر هذا الأمر في تقليل إمكانيات الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، التى تعتمد في مصارفها تماماً على تبرعات عامة المسلمين، و قد وقع ذلك فعلاً؛ ولكن الله العلي القدير وفق لمسؤوليها أن يستمروا في جميع نشاطاتها كالمعتاد.

       وأكبر جائزة حصلت لدارالعلوم/ديوبند على هذه المساعدة أن السلطان محمد الخامس أرسل إلى دارالعلوم هدية مباركة ثمينة وهو غلاف ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فحضر سعادة سفير الخلافة العثمانية في «مومباى» خليل خالد بك – بأمرالسلطان – إلى دارالعلوم/ ديوبند في 16/ربيع الأول 1332هـ وقدم إلى مدير دارالعلوم، الشيخ محمد أحمد رحمه الله هذا الغلاف المبارك.

       يذكر التقرير السنوي للجامعة لسنة 1332هـ أن سعادة السفير قدم إلى الجامعة هذه الهدية المباركة وأشار أن توضع في خزانة دارالعلوم أي فى الغرفة التي تحفظ فيها الأموال، ليكون ذلك سببًا للبركة. وامتثل أهل دارالعلوم بهذه المشورة. وهو موضوع حتى الآن في مكتب الحسابات، في صندوق خشبي متين، يزوره الناس من وراء الزجاج. وذكر في تاريخ دارالعلوم أن هذا الثوب مازال ملتصقاً بثوب النبى صلى الله عليه وسلم لمدة ثلاث سنوات.

       وقد كتب عليه بخط واضح:

نور الهدى نلنا به تكريماً        صلوا عليه وسلموا تسليماً

       ومما يجب التنبيه عليه أن هذه الصلة لم تكن أول رابطة بين تركيا ودارالعلوم ديوبند بل يخبرنا التقرير السنوي لدارالعلوم لسنة 1291هـ – وهي السنة الثامنة بعد تأسيس دارالعلوم – أن الله تعالى منح دارالعلوم في بداية عمرها شهرة منقطعة النظير حتى أن البلاد الإسلامية عرفتها وعرفت مكانتها ومما يدل على ذلك أن أصحاب جريدة «الجوائب» الصادرة من القسطنطنية مركز الخلافة العثمانية. بدؤا إرسال هذه الجريدة إلى دارالعلوم/ ديوبند.

       كما أن عالماً من القسطنطنية الشيخ أحمد حمدي آفندي ألف كتابًا باسم «النجم الدراري في إرشاد الساري» و أعد قبل طبعه أربع نسخ خطية أهدى اثنتين منها إلى مكتبة الخلافة ونسخة إلى مكتبة الأزهر وأهدى النسخة الرابعة إلى دارالعلوم/ ديوبند على يد الممثل الرسمي للخلافة في «مومباى».

       وهذاالتفصيل مذكور فى التقرير السنوي لدارالعلوم/ديوبند لسنة 1295هـ وفي هذا العصر كانت تسعد الجامعة بحياة مؤسسها الأكبر الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله المتوفى سنة 1297 هـ.

       وأكبر رابطة بين تركيا وعلماء ديوبند، قد تمت حينما اتصل إمام الحرية والجهاد وأكبر الحاقدين على الإنجليز، العلامة المحدث شيخ الهند محمود حسن الديوبندي – رحمه الله – رئيس هيئة التدريس بالجامعة وأخص تلامذة الإمام النانوتوي و أول طالب لهذه الجامعة، اتصل بأعيان الحكومة التركية، غالب باشا وبصرى باشا وأنور باشا وجمال باشا. ليحرضهم على أن تقوم الخلافة بالمساعدة فى الحرب ضد الإنجليز.

       وينبغى هنا أن نذكر شيئا عن حركة شيخ الهند، وخطته التي كان قد وضعها لهذه الحرب، والتي عرفت بـ خطة الرسائل الحريرية.

       وجملة القول في ذلك أن العلامة المحدث محمود حسن المعروف بشيخ الهند كان قد وضع خطة سياسية للقضاء على حكم الإنجليز بالقوة العسكرية وربما يستغربه من يعرف أن الشيخ كان عاكفاً على التدريس والإفادة طول حياته سوى فترة سجنه في مالطة.

       و المتحف البريطاني يحفظ الوثائق وتقارير مخابرات الحكومة البريطانية بكامل تفاصيلها عن هذه الخطة، وقد نشرت تلك الوثائق باللغة الأردية.

       وهذه الخطة عرفت «بخطة الرسائل الحريرية». وكانت تهدف القضاء على الحكم الإنجليزي في الهند، وبالتالي في سائر المستعمرات البريطانية. وذلك باستخدام القوة.

       وقد كان الشيخ أنشأ تسعة مراكز سرية في دلهي، وكراتشي، وإنسان زي، وراندير، والأمكنة الأخرى داخل شبه القارة، وذلك للتدريب العسكري وتحريض جنود الإنجليز على الثورة وتهيئة المناخ للانتفاضة الشاملة داخل البلاد.

       كما أنشأ عدة مراكز في كل من تركيا، والمدينة المنورة، وبرلن وقسطنطينية وأنقرة. وذلك لتحريض بعض الدول على إشعال نار الحرب وللحصول على التأييد المعنوي والدعم العسكري من بعضها.

       كما قام الشيخ بإرسال خمس بعثات إلى اليابان، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، لحمل هذه الدول على تأييد الشعب الهندي، وأنشأ حكومة موقتة في كابول، وكان فيها تلميذه النابغة عبيدالله السندهي والشيخ محمد منصور الأنصاري غازي.

       وأكبر آماله في ذلك كانت معقودة بالخلافة العثمانية. فبعد تهيئة المناخ لشن الحرب ضد الإنجليز في ياغستان والبلاد المجاورة، وضع برنامجاً موسعاً لتحريض الخلافة التركية للمساعدة في هذه الحرب. فارتحل من ديوبند إلى الحجاز في شوال سنة 1333هـ الموافق لـ سبتمبر سنة 1915م. واتصل بأميرالحجاز غالب باشا، وشرح له خطته بواسطة ترجمان، فاستمع الأمير إلى ما قال الشيخ ودعاه للقاء فى الغد. وقبل اللقاء فتش عن الشيخ وخطته ومكانته فى المسلمين فلما أخبره التجار الهنود المقيمون فى الحجاز بمكانة الشيخ محمود حسن عند المسلمين ومآثره، أكرم الشيخ فى اللقاء الثاني وتحدث مفصلاً عن خطته وكتب للشيخ عدة رسائل إحداها كانت إلى المسلمين الهنود يحرضهم فيها على مساعدة الشيخ في جميع برامجه. وهذه الرسالة عرفت باسم «غالب نامه». والرسالة الثانية كانت إلى أمير المدينة المنورة بصرى باشا، أبدى فيها ثقته بالشيخ وأهاب به أن يرسل الشيخ إلى أنور باشا وزير الحربية التركي. والرسالة الثالثة كانت إلى أنور باشا ليمد يد المساعدة ويوافق على خطة الشيخ. ثم توجه شيخ الهند، إلى المدينة المنورة والتقى بأمير المدينة بصرى باشا، و طالبه بأن ينظم لقاءه مع وزير الحربية أنور باشا وقائد الجيش جمال باشا ويرسله إلى استنبول، ولكنهما حضرا بأنفسها إلى المدينة المنورة وتيسر للشيخ اللقاء بهما فوافقا على خطة الشيخ وكتبا له وثائق ورسائل. وأراد شيخ الهند أن يذهب إلى ياغستان ويقود الحركة من هناك ولكن لم يتيسر ذلك وأخبره جمال باشا أن روسيا قطعت طريق إيران والإنجليز قطعوا طريق العراق فلا يمكن لكم أن تذهبوا إلى ياغستان، فالمناسب أن تعملوا فى الحجاز. فأرسل الشيخ الوثائق إلى الهند، وأراد أن يتخذ الحجاز مركزاً لحركته وذهب إلى الطائف ليتشاور مع غالب باشا في هذ الأمر.

       وفي تلك الأيام قام الشريف حسين بالثورة ضد الخلافة العثمانية، وأثارت بريطانيا العرب ضد تركيا وأرادت هدم وحدتهم بالضغط على علماء المسلمين للإفتاء بتكفير الأتراك وإحداث الفرقة وتثبيت أقدام الاستعمار الإنجليزي على الأراضي العربية، وقدمت هذه الفتوى إلى شيخ الهند للموافقة عليها؛ ولكنه صمد للحق وجحد الباطل وأنكر تلك الفتوى المزورة.

       وفي جانب آخر انكشفت خطة شيخ الهند وكان الخطاب الذي عثر عليه رجال مخابرات الإنجليز مكتوباً على قماش من حرير – وفيه توقيع رجال حكومة أفغانستان وتركيا – ومن ثم عرف الخطة بحركة المناديل الحريرية. فأسر شيخ الهند، وأصحابه واعتقلوا في مالطة، وبقوا في السجن ثلاثة أعوام، ولم يقدر الله النجاح للخطة التي لو تحققت لتغير مجرى التاريخ في شبه القارة، ولله الأمر من قبل و من بعد.

       هذه هي الخطة التي تعرف بخطة الرسائل الحريرية، ووثائقها تدل على حنكة شيخ الهند السياسية وبصيرته النافذة، تغمده الله بواسع رحمته، وأجزل له الثواب على جهاده من أجل استعادة مجد الإسلام، و مع أن خطته لم تتكلل بالنجاح؛ لكن ذلك لا يعنى فشل حركته كليًّا وتماماً، بل لم تزل جمراته باقية ومشتعلة، ولم تبرح آثاره وثماره تظهر للناس إلا أن الظروف غيرت وجهة الحركة وصورتها، وبعد انتقال الشيخ إلى رحمة الله تعالى (عام 1339هـ) – كان تلاميذه وأصحابه دائبين، متواصلين في هذا الجهد المبارك، وعلى رأسهم العالم الجليل المجاهد النبيل الشيخ حسين أحمد المدني – رئيس المدرسين وشيخ الحديث بجامعة دارالعلوم/ديوبند – وكان خليفة شيخه في السعي لاستعادة مجدالإسلام في الهند، والإخلاص لها والتفاني في سبيلها، والعداء الشديد للإنجليز والحماس للقضية الوطنية، حتى أسعدهم الله تعالى بتحرر هذه البلاد، وتخلصها من أيدي أعدى أعدائهم، واستقلالها.

       ولا يقتصر دور علماء ديوبند على هذه الخطة الواسعة والحركة الشاملة، بل إنهم فى نفس الوقت قاموا بتأييد وقيادة حركة الخلافة، التى كانت تهدف مهاجمة الحكومة الإنجليزية وسياسة حلفائها فى قضية الخلافة العثمانية، وكان يقودها مولانا محمد على جوهر وأخوه مولانا شوكت على ومولانا أبوالكلام أزاد والطبيب مختار أنصاري وغيرهم وهؤلاء الزعماء كلهم كانوا يعملون بمشورة شيخ الهند مولانا محمود حسن رحمه الله. وكثير من أبناء دارالعلوم/ديوبند و تلامذ شيخ الهند كانوا يعتبرون من قادة هذه الحركة التى كونت وعيًا سياسيًا وحماسة إسلامية فى المسلمين الهنود.

       وهناك جانب أخر لصلة علماء ديوبند بتركيا وهو جانب الصلات العلمية. وقد ذكرنا منه شيئًا وهو إرسال الشيخ أحمد حمدي كتابه الخطى إلى الجامعة. وأكبر صلة علمية بين علماء ديوبند وتركيا تحققت في زمن العلامة المحدث نابغة عصره الإمام محمد زاهد الكوثري التركي رحمه الله. فقد كان الشيخ حريصًا على إقامة العلاقات المتينة مع الشخصيات الإسلامية البارزة فى العالم الإسلامي وقد طالع مطالعة دقيقة ودرس دراسة عميقة ما كتبه علماء الهند في موضوعات شتى في جميع المعارف من علوم الدين.

       وكان العلامة المحدث محمد يوسف البنوري والمحدث الشيخ أحمد رضا البجنوري رحمهما الله  تلميذا إمام عصره العلامة الشيخ محمد أنور شاه الكشميري رحمه الله، في طليعة من تشرف من علماء الهند بلقاء الشيخ الكوثري والاتصال به شخصيًّا، حينما سافرا إلى القاهرة في سنة سبع وخمسين وثلثمأة وألف الهجرية لطباعة كتاب «نصب الراية».

       ومن الشخصيات البارزة الذين عاصروه وكتب الإمام الكوثري عن أحوالهم الشخصية أو كان بينه وبينهم مراسلات علمية أو لقاء أو قرظ الإمام الكوثري تقريظاً علميًّا على مؤلفاتهم، الشيخ المحدث العلامة محمد أنور شاه الكشميري رئيس هيئة التدريس الأسبق فى الجامعــة الإسلامية درالعلوم/ ديوبند والشيخ الفقيه حكيم الأمة أشرف علي التهانوي من أكبر أبنــاء الجامعــة، والذي حقق الله على يده المباركة تاليف حوالي ألف كتاب، والشيخ المحدث شبير أحمد العثماني والشيخ المحــدث ظفــر أحمـد العثماني صاحب إعلاء السنن والشيخ المحدث محمد يوسف البنوري والشيخ المحدث المفتي مهدى حسن الشاهجهانبوري رحمهم الله.

       وعصارة القول أن هناك علاقات وطيدة وصلات قديمة، دينية وعلمية وسياسة بين الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند ومسلمى تركيا حكومة وشعبًا. وسبب ذلك هوالتشابه فى الفكر والوحدة فى العقيدة، من الاعتصام بالكتاب والسنة وأخذ معانيهما من السلف والأئمة المجتهدين، وبناء المجتمع الإسلامى على أسس محكمة من الإيمان والتقوى وتزكية النفوس واستئصال البدع والخرافات ومقاومة الاستعمار والحركات الهدامة مما تتجلى ملامحه فى تعاليم الإمام المصلح الشاه ولى الله الدهلوى ومن قبله الإمام الربانى مجدد الألف الثانى الشيخ أحمد السرهندى رحمهما الله.

       هذا ونحن نرجو أن هذه الصلات العلمية والدينية ستبدأ من جديد بين دولة تركيا الإسلامية التي تحاول أن تعيد دورها الإسلامي وبين الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند التي تقوم منذ أكثر من قرن ونصف بالحفاظ على التراث الإسلامي ونشر العلوم والثقافة الإسلامية فى الهند وفى العالم كله كما نتمنى أن يوفق الله دولة تركيا لتقوم بدورها فى توحيد العالم الإسلامى، الذى هو أكبر أمال قلوب المسلمين.

       ونرى هذه الدعوة التي وجهت إلى الجامعة للمشاركة في هذا المؤتمر والتي لبّاها مدير الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند فضيلة الشيخ المفتي أبو القاسم النعماني حفظه الله فقام بالرحلة إلى تركيا مع مرافقين له، نرى أن هذه الدعوة ستكون بداية اتصال شامل موسع متصل بين دارالعلوم/ ديوبند ومسلمي تركيا بإذن الله العلي القدير الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1434 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2013م ، العدد : 11 ، السنة : 37


(*)      الأستاذ بالجامعة الإسلامية، دارالعلوم/ديوبند.

Related Posts