كلمة المحرر
بينما البوذيون في «ميانمار» – بورما – بتواطؤ كامل أو تجاهل مغرض شنيع من حكومتها عاكفون على تصفية المسلمين في البلاد كلها من خلال ألوان الويلات التي يصبّونها عليهم، إذ أقدم الاتحاد الأوربي على رفع الحظر المفروض عليها عنها، بحجة أن الوضع لم يعد فيها كما كان من ذي قبل. وقد احتج المسلمون في شبه القارة الهندية صارخًا ضدّ الاتحاد الأوربي على اتخاذه هذه الخطوةَ التي تُعَدُّ حقًّا تشجيعًا للحكومة الميانماريّة على تقتيل المسلمين وتشريدهم وعلى القضاء على كيانهم في البلاد، الأمر الذي تقوم به الحكومة من خلال تكاتفها مع البوذيين في البلاد.
بدأ البوذيون تعذيب المسلمين من ولاية «أراكان» التي كانوا يُشَكِّلُون فيها نسبة كبيرة، و زرعت عوائق ومتاريس متنوعة في طريقهم إلى الحياة، فحيل بينهم وبين رحلتهم إلى خارج البلاد، وحُرِمُوا الجنسيّةَ والبطاقةَ الشعبيّةَ وبطاقةَ الهويّة، وعُزِلُوا اجتماعيًّا، وسُلِبُوا جميعَ تسهيلات التجارة، وكسب لقمة العيش، والتعليم والدراسة، والأعمال الخيرية.
ثمّ صَعَّدُوا عمليّات تعذيب المسلمين وإبادتهم الجماعيّة، مستغلين حادث اغتصاب فتاة بوذية، وقع في شهر يونيو 2012م، لا يُدْرَىٰ من كان وراءه؛ ولكن البوذيين عن تعمد وتخطيط حَمّلوا مسؤوليته ثلاثةً من الفتيان المسلمين، ليتخذوا ذلك نقطةَ انطلاق نحو صبّ الويلات بأنواعها على المسلمين وتنفيذ خطتهم المدروسة نحو القضاء على الكيان الإسلامي في البلاد كلّها أو تهجيرهم من أرجائها، فاستحلّوا كلَّ نوع من الاعتداء عليهم بدءًا من عملية إرهاب رهيب نفّذوها في جماعة دعوية كانت في جولة دعويّة تتكون من عشرة مسلمين، قتلوهم عن آخرهم في وحشية منقطعة النظير.
ثمّ وسّعوا العملية الإرهابية ضد المسلمين في أرجاء البلاد كلّها، ولم يكتفوا بتقتيل المسلمين وتشريدهم وإجلائهم وانتهاك حرمات النساء المسلمات واغتصابهن الجماعي ومقاطعتهم على جميع الأصعدة؛ بل هدموا المساجد والمدارس ومعاهد التعليم الإسلامي وأشعلوا الحريق في منازل المسلمين أو هدموها وسَوَّوْها بالأرض، وصادروا ممتلكاتهم وعقاراتهم وأراضيهم الزراعيّة واحتلّوها، ولاحقوهم حتى في مخيمات اللجوء، فأفادت المصادر العليمة مؤخرًا أنهم أحرقوا بعض المخيمات بمن فيهم من اللاجئين ولاسيّما النساء والأطفال والمسنين الذين احترقوا أحياءَ عن آخرهم. كما أفادت المصادر العليمة أن البوذيين ربما يحاصرون المسلمين في قراهم أو أحيائهم السكنية في المدن، ويصارحونهم بأن الطريق الوحيد إلى الحفاظ على أنفسهم أن يهدموا بأنفسهم مساجدهم ومدارسهم ومنازلهم أو يشعلوا فيها الحريق بأيديهم، ويتخلّوا عن عقاراتهم و أراضيهم وممتلكاتهم، فيضطرّ المسلمون إلى العمل بمطلبهم إنقاذًا لأنفهسم وأعراض فتياتهم.
وقد أشعلوا – البوذيون – الحريق في مدرسة إسلامية يوم الاثنين: 1/أبريل 2013م = 19/جمادى الأولى 1434هـ ، مما أدى إلى موت نحو سبعين طالبًا صغارًا بالإضافة إلى احتراق عدد كبير منهم.
والخطر أكيد أن تمتد عمليات العدوان إلى بلاد مجاورة فيها أغلبية غير إسلامية وأقلية إسلاميّة، كما تعدّت إلى «سريلانكا» حيث بدأ البوذيون يفعلون مع المسلمين مثل ما فعله البوذيون في بورما، كما أن هناك مخاوف من الردّة العامّة التي قد تنتشر بين عوام المسلمين الذين لايطيقون أن يحتملوا في سبيل دينهم ما قد يحتمله العلماء والمثقفون بالثقافة الدينية، ويخاف أن يجرب رجال الأغلبية غير الإسلامية مع المسلمين في البلاد المجاورة ما يصنعه البوذيون في «بورما».
ولا شكّ أن بعض الدول العربية والإسلامية صنعت بعض ما كان الواجب عليها تجاه الأشقّاء في العقيدة في «ميانمار»؛ ولكنه لم يُغْنِ غناءً في شأن المصائب الرهيبة التي يعيشها المسلمون في «ميانمار» و«سريلانكا» أيضًا. وإن الصمت العربي والإسلامي تجاه هذه المجزرة الرهيبة التي تقام ضدّ المسلمين فيهما يُعَدُّ جريمة كبرى لن يغفرها التاريخ.
ويشكل المسلمون في «ميانمار» نحو 20٪ من سكان البلاد في بعض الإحصائيات، وفي مصادر أخرى كبيانات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أي) تعدادهم لا يتجاوز 4٪ فقط.
ويتركز وجود المسلمين، الذين يُعرفون باسم الروهينغيا، في شمال إقليم راخين (أراكان سابقًا) وهم من الأقليات العرقية التي لا تعترف بها السلطة، وتعتبرهم مواطنين مهاجرين غير شرعيين، بينما تصفهم الأمم المتحدة بأنهم إحدى أكثر الأقليات تعرضًا للاضطهاد في العالم.
ويرجع دخول الإسلام إلى أراكان (راخين حاليًّا) إلى القرن السابع الميلادي مع قدوم التجار العرب المسلمين إليها، ثم تتابعت الوفود الإسلامية إليها من أنحاء المعمورة، فأقبل عدد كبير من الأهالي على اعتناق الإسلام.
وينحدر شعب الروهينغيا – وفق رئيس المجلس الإسلامي بـ«ميانمار» الحاج يو آي لوين – من مسلمي ولاية «أراكان» بالهند، كما كانت هناك أجناس عرقية أخرى اعتنقت الدين الإسلامي، وأكثر هذه الأجناس شعبية هم مسلمو «ميانمار» الذين عرفوا باسم باتي (اسم شخص) وكانوا يقطنون وسط «ميانمار» حيث توجد عاصمتها القديمة «ماندالاي».
وهناك أيضًا المسلمون المنحدرون من الصين، وقد عرفوا باسم «بشوس» و«ماليس»، وكانت الجزيرة بأكملها مكتظة بالمسلمين الذين يوجدون بها حتى هذه اللحظة، فهم منتشرون في جميع أنحاء البلاد ولا ينتمون إلى عرق واحد، بل إلى أعراق مختلفة ارتضت الإسلام دينًا.
وكوَّن شعب الروهينغيا مملكةً دام حكمها 350 عامًا من 1430م إلى 1784م، فقد شكلت أول دولة إسلامية عام 1430م بقيادة الملك سليمان شاه، وحكم بعده (48) ملكاً مسلمًا على التوالي، وكان لهم عملات نقدية تتضمن شعارات إسلامية مثل كلمة التوحيد.
وفي عام 1824م احتلت بريطانيا «ميانمار» وضمّتها إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية. وفي عام 1937م جعلت بريطانيا «ميانمار» مع «أراكان» مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها بالإمبراطورية آنذاك، وعُرفت بحكومة «ميانمار» البريطانية.
واجه المسلمون الاستعمار الإنجليزي بقوة مما جعل بريطانيا تخشاهم، فبدأت حملتها للتخلّص من نفوذ المسلمين باعتماد سياساتها المعروفة (فرَّق تَسُدْ) فعَمَدَتْ إلى تحريض البوذيين ضد المسلمين، وأمدّتهم بالسلاح حتى أوقعوا بالمسلمين مذبحة عام 1942م ففتكوا خلالها بحوالي مائة ألف مسلم في «أراكان». وكان دستور عام 1948م يعتبر الروهينغيا وبقية مسلمي البلاد الذين ينحدر أسلافهم من الهند وبنغلاديش، مواطنين بورميين إلى أن انتقلت مقاليد السلطة إلى العسكر في انقلاب عام 1962م.
وما لبث أن تدنت وضعيتهم بموجب دستور عام 1974م الذي لم يعترف بهم مواطنين أصليين. فكان أن حُرم معظم الروهينغيا والمسلمون الآخرون المواطنة واعتبروا من ثم أشخاصاً بلا وطن أو من البدون، إذا استعرنا تعبير أهل الخليج العربي.
وتمخضت موجات العنف والإجراءات الصارمة من قبل الدولة وما تلاها من ألوان القمع وصنوف الاضطهاد عن هجرة مئات الألوف وربما مليون ونيف من مسلمي «ميانمار» إلى بنغلاديش المجاورة في ستينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
ومن الفظائع التي تمارس على المسلمين هناك أن الحكومة العسكرية تجبرهم على العمل القسري لدى الجيش أثناء التنقلات أو بناء ثكنات عسكرية أو شق طرق، وغير ذلك من الأعمال الحكومية، أو في بناء الطرق والسدود سخرة دون مقابل.
أما على الصعيد السكاني فإن الحكومة ما زالت تقوم بإحداث تغييرات جذرية في التركيبة السكانية لمناطق المسلمين، فلا توجد أي قرية أو منطقة إلا وأنشأت فيها منازل للمستوطنين البوذيين سلّمتهم السلطة فيها. ومنذ عام 1988م قامت الحكومة بإنشاء ما يسمى «القرى النموذجية» في شمال «أراكان» حتى يتسنّى تشجيع أُسَر البوذيين على الاستيطان في هذه المناطق.
وتفرض الحكومة شروطاً معينة فيما يخص الزواج من المسلمين أو بينهم، فهناك قانون الزواج الذي يشترط موافقةَ الدولة على الزواج وبدفع مبلغ عال مقابل ذلك وغالبًا ما تدفع الرشاوي لقاءَ هذا الإذن، وقد يتأخر الإذن سنوات، وتصل عقوبة الزواج بغير إذن إلى السجن عشر سنوات.
وقد أخذت معاناة المسلمين الروهينغيا منحى جديدًا مع تطبيق قانون الجنسية الجديد في «ميانمار» عام 1982م. فبموجب هذا القانون حُرم المسلمون تملكَ العقارات وممارسة أعمال التجارة وتقلد الوظائف في الجيش والهيئات الحكومية.
كما حُرموا جميعَ الحقوق الإنسانية الطبيعية والأساسية مثل حق التصويت بالانتخابات البرلمانية، وتأسيس المنظمات وممارسة النشاطات السياسية.
ولم تكتف السلطات في «ميانمار» بتبني إجراءات جديدة بحق المسلمين؛ بل مضت في تطبيق الخطط القديمة ضدهم لإرغامهم على ترك العقيدة الإسلامية، وإجبارهم على مغادرة بلدهم.
ولا يُسمح للمسلمين باستضافة أحد في بيوتهم ولو كانوا أشقاء أو أقارب إلا بإذن مسبق، أما المَبيت فيُمنع منعًا باتًا، ويعتبر جريمةً كبرى ربما يُعاقَبُ عليها بهدم منزله أو اعتقاله أو طرده من البلاد هو وأسرته.
ويُحرم كذلك أبناء المسلمين مواصلةَ التعلُّم في الكليات والجامعات، ومن يذهب للخارج يُطوى قيدُه من سجلات القرية، أما إذا عاد فيُعتقل عند عودته، ويُرمى به في غياهب السجون.
ولا يسمح للمسلمين بالانتقال من مكان إلى آخر دون تصريح، والذي يَصعُب الحصول عليه. كما يتمّ حجز جوازات السفر الخاصة بالمسلمين لدى الحكومة، ولا يُسمح لهم بالسفر للخارج إلا بإذن رسمي، ويُعتبر السفر إلى عاصمة الدولة (رانغون) أو أية مدينة أخرى جريمةً يُعاقب عليها. [التحرير]
(تحريرًا في الساعة 11 من يوم الخميس: 13/جمادى الأخرى 1434هـ = 25/أبريل 2013م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37