كلمة العدد
أهلّ علينا شهر رمضان المبارك كعادته كل عام؛ ولكنه يهلّ علينا منذ أعوام ونحن نعيش آلاما وأشجانًا ومآسي وفواجع في كثير من أقطار الدنيا، وقوى الشر كلُّها تصطلح على احتوائنا وصهرنا في بوتقة شهواتها ومطامعها وأحلامها، وتبذل لذلك محاولات ومؤامرات لا أول لها ولا آخر، وتُنَفِّذُ فينا جميعَ أنواع عمليات الإهانة وانتهاك الأعراض والإبادة العرقية واستلاب الأراضي والتهجير من الأوطان والتشريد الجماعي ونهب لقمة العيش والاستعباد السياسي والاقتصادي.
وذلك لأننا فقدنا معنى الإرادة: إرادة التغيير لظروف الوهن والانقياد والاستسلام إلى القوة والإباء والانتصار، إرادة التغيير في داخل أنفسنا وخارجها معًا.
إلى جانب أننا قد فقدنا معنى التقوى في حياتنا الفردية والجماعية، تلك التقوى التي هي السبب الأساسي لنزول النصر الإلهي الذي يخلق الانتصارات ويهزم قوى الشر والكفر والطاغوت.
إنّ صيام رمضان في الحقيقة مدرسة ربّانية يقيمها الإسلام كل عام لتربيتنا العملية على التقوى والإرادة والجهاد للنفس وترويضها على الصبر وتغيير المألوفات وتهذيب الأخلاق وتطهير العادات من أكدار المادية وعوائقها.
حيث إن الصيام يعوّد الإنسان على مقاومة مقتضيات الغريزة الحيوانية من طعام وشراب وشهوات، وبالتالي تُقَوّى إرادته على مألوفاته وعاداته، وقوةُ الإرادة هي القاهرة على تطهير نفس الإنسان والسير به إلى الجهة المطلوبة. والحياةُ كلّها إرادةٌ والإنسانُ عبارة عن الإرادة، الخيرُ ليس إلاّ إرادة، كما أن الدين ليس إلاّ عبارة عن الصبر المتواصل على الطّاعة وصبر النفس عن المعصية. والصيامُ هو القادر والكفيل بإيجاد معاني الصبر في الإنسان من خلال امتناعه عن شهوة البطن وشهوة الفرج بنية التقرّب إلى الله عزّ وجلّ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ومن هنا سمّى نبينا صلى الله عليه وسلم رمضان «شهر الصبر» حيث قال: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كلّ شهر يذهبن وحر الصدر» رواه أحمد في «مسنده» (5/363، ح:23070) وحر الصدر: غشّه و وساوسه.
وقد جعل الله عزّ وجلّ غاية الصوم هي التقوى، وما أدراك ما التقوى؟! إن التقوى معلم بارز من معالم الإسلام، ولها الباع الطويل والدور الأساسي في بناء الإنسان وتسديده وترشيده في طريق الحياة؛ فيحظى بالسعادة كلها في الحياة وينال الخير كلّه بعد الممات.
فقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:183).
فصرحت الآية الكريمة أن الغاية الأساسية من الصيام هي التقوى التي هي عماد الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومؤمّل السلامة في حالي الخير والشر معًا، وفي السراء والضراء على السواء، وإنّها باب من أبواب الجنة، وإنّها توقظ القلوب، وتنوّر الأبصار، وتحيي البصائر والضمائر، وتراقب الإنسان في خلوات الليالي الهادئة، وفي الصحارى المقفرة، وفي الأمكنة المطمئنة التي لا داعي فيها ولا مجيب.
وإنها تنحت من الإنسان، إنسانًا سويًّا مرضيًّا لدى الخالق عزّ وجلّ في عاداته وأخلاقه ومعاملاته، فإذا كان حاكمًا راعيًا فهو راعٍ شَعُورٌ بالمسؤولية نحو رعاياه وشعبه وبلده، وإذا كان محكومًا فهو عارف بحقوقه وحقوق البلد والمواطنين، وإذا كان مُعلّما فهو معلم مجتهد مثابر، وإذا كان تلميذًا فهو تلميذ مخلص مطيع وفيّ، وإذا كان تاجرًا فهو تاجر صدوق، وإذا كان عاملا فهو عامل قوي أمين.. وكذلك فهو إنسان مطلوب في كلّ ناحية من نواحي الحياة، يقدر على إعطاء دوره عن طواعية ورضاً، وفي إتقان وإحكام وفي جد وإخلاص، لا يغشّ ولا يخون ولا يتكاسل أو يتواكل.
ولكون التقوى ذات هذه المكانة الجليلة في حياة المسلم جعلها الله عزّ وجلّ غرضًا شاخصًا من أغراض دعوة الأنبياء عليهم السلام، وركّز عليها كتابُه الأخير الخالد المهيمن على كتبه كلّها تركيزًا كبيرًا، فجاءت الدعوة إليها في الآيات 106 و 108 و 110 و 124 و 142 و161 من سورة الشعراء على ألسنة كلّ من سيّدنا نوح وسيّدنا هود وسيّدنا صالح وسيّدنا لوط عليهم السلام، وفي الآية 16 من العنكبوت على لسان أبي الأنبياء سيّدنا إبراهيم عليه السلام.. وأكّد الله تعالى أنّ الدعوة إلى التقوى تبنّاها جميع الأنبياء من قبل سيّدنا ونبينا محمّد صلى الله عليه وسلم فقال:
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰبَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوْنِ﴾ (النساء:131).
* * *
وهناك كثير من الناس يثيرون شكوكاً في قدرة إحداث الصيام هذه التقوى وتلك الإرادة وذاك الصبر، وهذا التوازن السلوكي والانضباط العملي والفكري في المسلم، نظرًا لواقع كثير من الصائمين اليوم الذين يُمْضُون الشهر كلّه في الصيام وتبنى مظاهره؛ ولكنهم لا يتغيرون عما كانوا عليه من قبل!!.
وذلك كمثل كثير من الناس الذين يحارون في أمر معظم المصلين الذين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وقد أكّد الله عزّ وجلّ في صريح قوله أنها تنهى عن ذلك فقد قال عزّ من قائل:
«إنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَر» (العنكبوت:45).
فليعلم هؤلاء أن جميع العبادات التي فرضها الله تعالى على عباده لها تأثيرها في تحقيق الغايات التي أرادها سبحانه من ورائها، والعبادة التي لا تحقق الغاية المرجوة منها فإنما هي هيكل العبادة وليست حقيقتها؛ لأنه عزّ وعلا لا يكذب، ولأنه هو أعلم بأحوال عباده، ولأنه لم يفرض عبادة إلا وهو أودعها حكماً ومصالح وآثارًا.
وإذا لم تحقق العبادة الغايةَ التي أشار إليها الله عزّ وجلّ فمعنى ذلك أنها لم تُؤَدَّ بآدابها وشروطها، وبالجدّ والإخلاص، والإيمان والاحتساب؛ فإذا كانت الصلاة لا تنهى المصلّي عن الفحشاء والمنكر فإن ذلك يعني بالتأكيد أنه لم يُوَفِّهَا حقَّها من الإتقان والإحسان الّذي أشار إليه رسولنا صلوات الله وسلامه عليه بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». رواه البخاري من طريق أبي هريرة (50) و (4777).
وإذا كان الصيام لا يُكْسِبَ صاحبَه التقوى وقوةَ الإرادة والانضباطَ السلوكي والإقلاعَ عن المعاصي والتقيّدَ بالطاعات ومكارم الأخلاق وحسن العادات، فذلك لا يعني إلا أنه لم يكن في صيامه صادرًا عن الإيمان والاحتساب اللذين أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه» رواه البخاري (38) و (2014) ومسلم (760) من طريق أبي هريرة. وأنّه لم يراع في صيامه ما أمر صلى الله عليه وسلم بمراعاته إذ قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري (1903) وأبوداود (2362) من طريق أبي هريرة. وإذ قال: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنّما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك، فقل إنّي صائم إنّي صائم» و قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم رواه ابن خزيمة (1996) وابن حبان (3470) والحاكم (1/431، ح:1570) من طريق أبي هريرة. وروى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر» رواه ابن خزيمة (1997) وابن حبان (3472) من طريق أبي هريرة).
إن الصيام – إذا أُحْسِنَ أداؤه – قال فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «قال الله عزّ وجلّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (رواه البخاري (1904) واللفظ له ومسلم (1151) كلاهما من طريق أبي هريرة. وفي رواية للبخاري «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» (1894).
وقال فيه صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلاّ باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً» رواه البخاري (2840) ومسلم (1153) واللفظ لمسلم. من طريق أبي سعيد الخدري.
وذلك هو الصوم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:
«ثلاثــة لا تُــرَدُّ دعــوتُهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر و دعوة المظلوم يـرفعها فوق الغمام وتُفْتَحُ لها أبوابُ السماء ويقــول الـرب – عز وجل – وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين» (رواه الترمذي (2526) واللفظ له وابن حبان في صحيحه (3419) من طريق أبي هريرة.
ومعنى قوله: (كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم) أن ابن آدم يستطيع الرياء العملي في جميع الأعمال، وأما الصوم فلا يقبل الرياء فهو خالص لله تعالى، ولذا ضاعف تعالى الجزاء عليه، مع أنه هو المجازي على كل عمل.
* * *
إن الصيام يتحقّق فيه من مراقبة الله تعالى في الخلوة والجلوة ما لا يتحقّق في غيره، ويُكْسِبُ الصائم الخشيةَ منه والإخلاص له بقدر أكثر مما يمكن أن تُكْسِبَه أيةُ عبادة من العبادات المفروضة والنافلة. وبما أن الإخلاص عمل قلبي مجرد لا يمكن أن يطّلع عليه أحد سوى الله عزّ وجلّ، ولذلك ضاعف الله أجره إلى حيث لا يعلم مقداره إلا هو. فقد جاء في رواية ابن ماجة من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى ما شاء الله. قال الله: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (رقم الحديث: 1638) أي أجزي عليه جزاءً كثيرًا بدون تعيين المقدار. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: «إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰبٍ» (الزمر/80) وإذا كان «الصبر» في الآية عامّة فإنها تشمل الصيام كذلك إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه: «الصيام نصف الصبر»(1745).
وإذا اجتمعت التقوى والصبر والاحتساب مع الإيمان فإنها تصنع المعجزات وتحقّق الانتصارات وتجلب السعادة في الدنيا والآخرة، والنجاح في كلّ معركة في الحياة، لأن المسلم يتغلب بذلك أولاً على نفسه الامّارة بالسوء فيتدرب على التغلب على الأعداء، لأنه إذا قدر على نفسه يمكن أن يقدر على غيره، والذي انهزم في وجه الشهوات والمغريات لا يمكن أن يكسب معركة في وجه العدو، لأنه أشبه بفاقد الشيء وأنى له أن يقدر على إعطائه لغيره.
ومن هنا استطاع المؤمنون الأولون أن يحقّقوا أعظم الانتصارات في معاركهم الفاصلة مع العدو رغم قلة العَدَد والعُدَد وكثرة العدو في العتاد والمعدات وعدد المقاتلين؛ ففي رمضان كسبوا معركة بدر الكبرى وفتح مكة ومعركة عين جالوت، إلى كثير من الانتصارات التي حققها المسلمون عبر التأريخ الإسلامي وهم صائمون أقوياء الصلة بالله أتقياء منه راجون رحمته وخاشون عذابه، وصابرون محتسبون.
ونحن اليوم بأمس الحاجة أن نعود إلى سيرتهم في الصيام والقيام وجميع العبادات، لكي نعود ننتصر على الأعداء الذين تألّبوا اليوم علينا في كل مكان.
نور عالم خليل الأميني
nooralamamini@gmail.com
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37