كلمة المحرر
المسلمون في الهند لا يواجهون اليوم قضيةً أو قضيتين أو ثلاثًا؛ ولكنهم يواجهون قضايا لاتُعَدُّ. ولا تُحَلّ لهم قضيّة ما نادرًا، إلاّ ويُجْعَلُون يُحَاصِرُهم قضايا تَتْبَعُها قضايا. إنّهم كالجنديّ أرْغِمَ أن يحارب على جبهات فُتِحَتْ ضدَّه في كلِّ جانب، والجبهاتُ كلُّها حَسَّاسة حَرِجَة لايمكن تجاهلُ أيٍّ منها؛ لأنّ كلاًّ منها مصيريَّةٌ، لو أَغْفُلُوها لعَانَوْا أضرارًا لا تُـحْصَىٰ في دينهم ودنياهم. شَغْلُهم بالدفاع عن أنفسهم على جَبَهَات كثيرة مُتَعَمَّدٌ من قبل الطائفيِّين المتطرفين المُعَادِين لعلمانية البلاد وسلامتها و وحدتها، والكارهين للانسجام والتناغم الطائفيّ بين شَتّى طوائف الشعب، وعلى رأسها الطائفتان الكبيرتان: الهندوس الذين يُشَكِّلُون الأغلبيةَ الساحقةَ والمسلمون الذين يُشَكِّلون الأقلية الكبرى في البلاد.
قبل استقلال البلاد زَرَعَ الاستعمار الإِنجليزيّ روحَ الكراهية بين الطائفتين عملاً بمبدإ «فَرِّقْ تَسُدْ» والمشكلةُ الكبرى التي زرَعَها الاستعمارُ كانت الاضطرابَ والصدامَ الطائفيَّ الذي كان يَحْدُث بين الطائفتين من وقت لآخر؛ ولكنّه – الاضطراب – تَكَاثَرَ وتَفَاقَمَ واتَّصَلَ فيما بعد الاستقلال بحيث صار رُوتِينِيًّا، ظلّ يُفَجَّر من قبل الطائفيين ولاسيّما المنتمين إلى مُنَظَّمَة «آر إيس إيس» التي فَرَّخَت وباضت مع الأيام بشكل خطير؛ فكانت لها فروعٌ ومنظماتٌ تابعة كثيرة.. ظلّ يُفَجَّر لحصد أرواح المسلمين ونهب مُمْتَلَكَاتهم وهتك حُرُماتهم واغتصاب فَتَيَاتهم وكسر عِظَام شبابهم وتشريدهم من منازلهم وربما من مدنهم وقراهم. وكانت تُسْتَهْدَف بذلك المناطقُ التي كانوا ينهضون فيها شيئًا ما اقتصاديًّا، حتى يُجْعَلُوا عالة على غيرهم أَذِلَّاءَ مُهَانِين فاقدين كلَّ حرمة اجتماعيّة إلى جانب حصد أرواحهم وهتك أعراضهم.
وكانت الحال على هذا المنوال إذ صَعَّدُوا – الطائفيّون – حَرَكَةَ احتلال وهدمِ المسجد البابري الأثري الشهير في مدينة «أجودهيا» المُقَدَّسَة لدى الهندوس بولاية «أترابراديش» واحتشدوا في يوم 6/ديمسبر 1992م بعدد مئات الآلاف بالمدينة، وسَوَّوْا المسجدَ بالأرض على مرأى ومسمع من العالم ومن الحكومة الهندية والشعب الهندي، وأقاموا مكانه، معبدًا هندوسيًّا «مُوَقَّتًا» واحتفلوا باليوم الذي هدموا فيه المسجد كيوم العيد الأكبر الذي لايوجد مثيلُه في تاريخهم الدينيّ، وفي اليوم التالي 3/ديسمبر 1992م فَجَّرُوا الاضطرابات الطائفيّة في طول البلاد وعرضها، لشَغْلِ المسلمين المفجوعين المكلومين عن الاحتجاج ضدّ هدم المسجد، فقتلوا من خلالها منهم عددًا لا يُـحْصَىٰ، وحاكموا منهم عددًا كبيرًا، وتناولوهم بأنواع من التعذيب والإيلام ونهب الأموال، والزجّ بهم في السجون.
وبعد الحادث بأعوام أدركوا أنّ المسلمين قد «احتملوا» الحادثَ ولم يُرَ من قِبَلِهم احتجاجٌ أو تظاهرٌ على مستوى البلاد يُشَكِّل ضغطاً على الحكومة وردعًا للمنظمات الهندوسية التي ساهمت مُتَكَاتِفَةً في هدم المسجد وَتَبَاهَتْ بذلك في طوال البلاد وعرضها، فتَقَدَّمُوا خطوةً إلى الأمام، وتَعَلَّمُوا من الصهاينة – الذين تَوَطَّدَتِ الصلاتُ بينهم وبينهم خلالَ تلك الأعوام بنحو مُدْهِشٍ للغاية – طُرُقًا أكثرَ فعّاليَّةً وأشدَّ إيلامًا وأوفى نكاية بالمسلمين: أجسامهم وضمائرهم وأَسَرِهم وأفرادِ بني جنسهم ودينهم، فهَمَسُوا في آذانهم أن يتعلّموا صناعة القنابل، والقيام بالتفجيرات، وتحميل مسؤوليتها الشبابَ المسلمَ، ثم اعتقالهم العشوائي، والزجّ بهم في السجون، ومحاكمتهم طويلاً عريضًا، وإضاعة أعمارهم وفُرَص حياتهم الثمينة في السجون والمُعْتَقَلاَت، حتى إذا خرجوا منها بعد تبرئة ساحتهم قضائيًّا، تكون قد ضَاعَتْ أعمارُهم، وانهزمتْ أُسَرُهم نفسيًّا وتَحَطَّمَتْ داخليًّا، وضَاعَتْ اقتصاديًّا بعد بذل الشيء الكثير من أموالها في سبيل المحاماة عن شبابها الذي اتُّهِمَ بالإرهاب والتفجير والخروج على البلاد.
وفي البداية كانوا يستهدفون الشبابَ المسلمَ دونما انْتِقَاء، ثم عمدوا إلى الشباب المسلم المُثَقَّف ثقافةً عاليةً ولاسيّما ثقافةً مهنيةً مثل الطبّ والهَنْدَسَة والكمبيوتر، حتى لايقدر هؤلاء الشباب على مزاحمة الشباب الهندوسيّ في المناصب العالية الحكومية أو غير الحكوميّة وحتى لايقدروا على النهوض اقتصاديًا واجتماعيًّا.
إن الاعتقال العشوائي للشباب المسلم من شتّى أرجاء البلاد بتخطيطٍ ودراسةٍ، ثمّ الزجَّ بهم في السجون وإبْقَاءَهُم وراء الزِّنْزَانات دونما محاكمة أو خلال محاكمة طويلة، وتناولَهم بالتعذيب لانتزاع الشهادات منهم بأنّهم ضالعون في العمليّات الإرهابيّة والتفجيرات، ثم إطالةَ إبقائهم في السجون حتى بعد تبرئه ساحتهم قضائيًّا، وبعد إصدار المحاكم لقرارات إطلاق سراحهم عاجلاً، وذلك بحجة اتخاذ ترتيبات بَيْرُوقَراطِيَّة لازمة لإطلاقهم، مشكلةٌ كبرى يُعَانِيها المسلمون في الهند اليوم، اعْتَصَرَتْ كثيرًا من قواهم العقليّة والفكريّة والقياديّة والاقتصادية والسياسيّة، وجَعَلَتْهُمْ حَيَارَىٰ على اختلاف مدارس فكرهم ومذاهبهم الفقهية، وضَاعَفَتْ مشاكلَهم الأخرى الكثيرة التي ظلّوا – ولا يزالون – يعانونها منذ وقت طويل دون أن يجدوا لها حلاًّ مُقْنِعًا، يُسَهِّلُ عليهم طُرُقَ العيش في وطنهم كمواطنين يَفْرُغُون لخدمة وطنهم وأمتهم ودينهم، ويقطعون أشواطَ التقدّم والازدهار، ويَبْنُون ذواتَهم ويَصْقُلُون صفاتِهم لتقديم خدمة أكثر نفعًا للعباد والبلاد. [التحرير]
(تحريرًا في الساعة :3010من الليلة المتخللة بين الأربعاء والخميس: 5-6/جمادى الأخرى 1434هـ = 17-18/أبريل 2013م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1434 هـ = يونيو – يوليو 2013م ، العدد : 8 ، السنة : 37