الفكرالإسلامي
بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
قد تأكّدتِ الحاجةُ إلى التجويد لحدٍّ قد تذهب العربيةُ بمخالفته وعدم الالتزام به، ولما خَرجَتْ لفظةٌ من العربيّة، لم تَبْقَ من القرآن، ولـمّا لم يُقْرأ القرآنُ في الصلاة فكيف صَحَّت. وربّما تستغرب قولي بأنّ عدمَ مراعاة التجويد يُؤَدِّي إلى خروج اللفظةِ من العربيّة؛ لكنّي أُثْبِت ذلك بالدليل: الكلُّ يعلم أنّ كلاًّ من العربية والفارسيّةِ والأرديّة لغةٌ مستقلّةٌ، وكلٌّ منها تمتاز في خواصّها عن الأخرى، فكما أن صحّةَ التلفّظ شرطٌ لكون لفظةٍ ما فارسيَّة أو أرديّة، كذلك صحّةُ التلفّظ شرطٌ لكون لفظةٍ ما عربيّةً. مثلاً: أنت تُسَمِّي بالأردية نسيجاً ما «گاڑها» – بالگاف الهندية والراء الهنديّة «ڑ» والهاء التي تجيء مختفية ولا تُقْرَأ في وضوح – (ومعنى الكلمة «الثخين» بالعربيّة) فلو قالها أحد «گارا» – بالكاف الهندية والراء العربية والألف – لقلتَ: إنّه أَخْطَأَ، لأنّ «گارا» إنما يتكوّن من التراب بعد بَلِّه بالماء أي «الطين» ولا يُسَمَّىٰ أيُّ صنف من النسيج «گارا» فكذلك لابدّ أن تفهم أنّ كلمةً ما في العربيّة إذا كانت بـ«التاء» وقرأتَها بـ«السين» أو «الصاد»، أو كانت بـ«الحاء» وقرأتَها بـ«الهاء» فإن التلفّظ بها سيتغيّر وبالتالي سيتغيّر المعنى. وقد عَلِمْتَ من ذلك الحاجةَ إلى صحّة الألفاظ. والآن أقول فيما يتعلّق بـ«الصفات»: في الأرديّة كلمةٌ وهي «پَنْكهَا» – بالپاء الهندية، والنون الساكنة والكاف العربيّة والهاء العربيّة – وتُؤَدَّى الكلمةُ مختفيةً نونُها، وكذلك هناك كلماتٌ فارسيّةٌ وهي «رَنْگْ» و«سَنْگْ» و«جَنْگْ» لاتُؤَدَّى إلاّ بخفاء النون، فلو أَدَّى أحدٌ الكلمةَ الأولى «پَنْ كها» بإظهار النون، أو أَدَّى «رَنْگْ» «رَنْ گ» بإظهار النون لا بإخفائها، لقلتَ: إنّ الكلمةَ لم تَعُدْ فارسيّةً أو أرديَّةً وإنما صارت مُهْمَلَةً؛ ولكن قولك هذا يُلْزِمُك أن تُسَلِّم أنّ كلمةَ «پنكها» إذا خرجت من الأرديّة بإظهار النون وأنّ كلمة «رنگ» خرجت من الفارسيّة بإظهار النون، فالكلمة العربيّة التي تقتضي إخفاءَ النون وجب عليك أن تُسَلِّم أنّها لم تعد عربيّة بإظهار النون، فهل تظلّ تصرّ على عدم الحاجة إلى التجويد.
تعلّمُ التجويدِ فرضٌ:
أمّا إني فإني أقول بأنّ تعلّم التجويد فرضٌ؛ لأنّ القرآن في العربيّة؛ فقراءتُه بالعربيّة فرضٌ، والتلفّظ بكلمة عربيّة حسب مُقْتَضَى العربيّة لا يَتَأَتّى بدون التجويد، فافْتَرَضَ تعلُّمُه. يا سادة! مهما لم تهتمّوا بهذا الأمر لضعف همتكم، فإنّ الحاجةَ إلى التجويد شديدةٌ جدًّا. والمؤسف أنّ المسلمين لايهتمّون به؛ لأنّه ليس فيه في الظاهر منفعة دنيويّة، ولو فُرِضَ قانونيًّا أنّه لا يُوَظَّف إلاّ من قرأ القرآن صحيحاً صحة كاملة، لعكف اليوم جميعُ حاملي شهادة «B. A.» و «M. A.» على تعلّم التجويد وأصبحوا مُقْرِئِين. إنّنا نصنع كلَّ شيء للحصول على حطام الدنيا، فالأعذار التي تُطْرَح إنما هي حِيَلٌ.
اختلافُ العلماء فيما بينهم وواجبُنا نحوَه:
إنّه لسؤال صعبٌ للغاية يُقْلِق المسلمين اليومَ؛ حيثُ يرون العلماء يختلفون فيما بينهم اختلافاً شديدًا، فهذا يقول بحرمة شيء وآخر يقول بجوازه، وهذا يقول بأن هذا الشيء سنّةٌ وذاك يقول بأنه بدعة، فمن الذي يعملون بقوله ومن الذي لايعملون بقوله أو يعملون بأقوال الجميع، وهذا غيرُ ممكن، أو يُرَجِّحُون قول أحد على الآخر، فما هو العلّةُ التي يُرَجِّحُون بها قولَ أحد على الآخر. فقَرَّرَ البعضُ أن يرفض أقوالَ الجميع ولا يعمل بأحد منها. يا سادة! إني لا اعتراضَ لديَّ على هذا القرار؛ ولكنّه يُؤْسِفُنِي أنّه عند ما حَدَثَ نفسُ الموقف فيما يتعلّق بالخبراء المتخصصين في الشؤون الدنيوية، لماذا لم تتخذوا القرار نفسه؛ لماذا أطعتم واحدًا منهم مُفَضِّلِين إيّاه على غيرهم؛ فكثيرًا ما يحدث أن الأطباءَ يختلفون في علاج مريض، فهذا يُشَخِّص أنّه مصاب بمرض كذا، وذاك يُشَخِّص أنّه لَحِقَ به مرضُ كذا، وكلٌّ يُصِرّ على صواب رأيه وما تَوَصَّل إليه، ويقول بأن العملَ بأي رأي طِبِّيٍّ آخر قد يُؤَدِّي إلى خطر كبير على حياة المريض، فلم لم تتركوا العملَ هناك بآراء كلّ من الأطبّاء، قائلين: إنّه من المُؤْسِفِ أنّ الأطبّاء لا يتفقون على علاج؛ فبعلاج من نثق؟ فنلدع المريضَ يمت، ولن نتلقى علاجَه من أحد. لماذا تُفَضِّلُون هناك رأيَ طبيبٍ من الأطبّاء، وتَتَلَقَّوْن العلاجَ منه؟.
وكذلك لماذا لاتُعَامِلُون هذه المعاملةَ نفسَها مع محاميكم أي المعاملة التي عاملتموها مع العلماء. ألا يكون اختلاف بين المحامين؟ إنه يكون فعلاً؛ ولكنكم تُفَضِّلُون أحدَهم على الآخرين، ولا تتركون الجميعَ. فهل لديكم جوابٌ عن هذا السؤال؟.
وها أنا ذا أردّ عنكم بدوري على هذا السؤال، وهو شيء دقيق. وهو أن هناك شيئين: أحدهما ما يُعْتَبر ضروريًّا، وثانيهما ما لا يُعْتَبر ضروريًّا؛ فالأمور التي تُعْتَبر ضرورية لا تُتْرَك لأي خلاف وَقَعَ فيها، وإنما يُفَكِّر فيها الإنسانُ بعقله ليتوصّل إلى حيلة من الحيل، ورغمَ الاختلاف يُرَجِّح الشيءَ على الآخر. أما الأمور التي لا تُعْتَبَر ضروريّة، فتُتْرَك في حالة وقوع الاختلاف فيها، ولا تُتَحَمَّل صعوبةُ تفضيل أمر على الآخر عن طريق الدراسة والتأمل.
وتلك قاعـدةٌ تتبعها الطبيعـةُ البشريّــةُ. و وفقاً لها جــرى العمـلُ ههنا؛ حيث إنّ الإنسان فيه شيئان: الــروحُ والإيمانُ، فالـروحُ التي هي أحبُّ لديه من الإيمان، لم يترك جميعَ أسباب صحّتها و وقايتها رغم وقوع الاختلاف فيها، وإنما عَمِلَ هناك بالمبدإ القائل بأنّ أهلَ الفضل والاختصاص يختلفون لا مَحَالَـةَ، فلا يجوز أن ننزعج؛ بل نُعْمِلُ في شأنهم عقولَنا ونستشير مُحِبِّينا؛ ونتأكّد من هو أَحْذَقُ الأطبّاء من هؤلاء، فنختاره لتلقّي العلاج. أما الإيمانُ فليس أحبَّ لديه، فعندما يقع الاختلاف بين العلماء، لايُعْمِل عقلَه، ولا يُوَظّف التفكير والتأمل، ولا يسوغ له أن يتحمّل هذا الجدَّ.
لوكان الإيمان أحبّ لديكم:
أيها السادة! لو كان الإيمانُ أحبّ لديكم لاخترتم لدى الاختلاف بين العلماء من هو أكثر علماً وخبرة، كما تختارون لدى الاختلاف بين الأطبّاء من هو أكثر حذقًا وبراعةً؛ ولكنّ المؤسف أنّ الإيمان ليس بحبيب لديكم، فتركتم جميعَ العلماء؛ لأنّهم قد اختلفوا. ولا نقول إن هذا الاختلاف ليس فيه أيُّ ذنب على العلماء، بل الذنبُ يعود عليهم أيضاً، وسأحيطكم علماً فيما بعد من هم الذين يعود عليهم الذنبُ في هذا الشأن؛ ولكنّي أودّ أن أشكوكم وأصارحكم أن تركَ الجميع لهذا الاختلاف رأيٌ خاطئ ورأيٌ أَخْرَقُ يدلّ على أنّ الإيمان ليس بحبيب لديكم. ونظرًا لهذا الإختلاف قد يشير بعضُ الناس على العلماء بأنه يجب عليهم أن يَتَّفِقُوا؛ لأنّ عدمَ الاتفاق أمر سَيِّء، فنسائلكم: هل اللّااِتفاق شيءٌ سَيِّءٌ على الإطلاق؟ أوهناك تقييد؟. إذا كان اللااِتفاق على الإطلاق جريمةً، تُحَوِّلُ كلَّ فريق مجرماً، فإنه يجب على المحاكم إذا رَاجَعَها مُدَّعٍ أو مُدَّعًى عليه ورفعا إليها دعوى، أن تعتبرهما مجرمَين وتُصْدِر بشأنهما العقابَ، قبل تحقيق الدعوى؛ لأن رفع الدعوى من فريق، وإنكارها من فريق آخر، أثبت اللااِتّفاقَ بينهما، الذي هو جريمةٌ على الإطلاق، فكان كلٌّ من المدَّعِي والمُدَّعَى عليه مُجْرِمَيْنِ.
ولو سلكتِ المحاكمُ هذا المسلكَ، لكنتم أول من يخالفها، وتصيحون في العالم كلّه بأنه ما هذا الإنصاف الذي جَعَلَها تعتبر كلاًّ من الفريقين مجرماً مُدَاناً مستحقًّا للعقاب، قبل أن تتناول الدعوى بالتحقيق والدراسة؟. فلو سَأَلَكم ههنا أحدٌ: فماذا كان عليها أن تصنع، لعدتم عندئذ عقلاءَ وتقولون: كان عليها أن تُحَقِّق أن المُدَّعِي والمدَّعَى عليه اللذين يختلفان ويعملان باللااِتّفاق من هو منهما على الحق ومن هو على غير الحق، وأن تنتصر لأهل الحقّ، وتعاقب من ليس له حقّ.
فها هو ذا قد ثبت بحكمكم أن اللااِتفاق ليس جريمةً على الإطلاق؛ بل الجريمةُ هو اللااِتفاق عن غير حقّ. أما اللااِتفاق عن حقّ فليس بجريمة. فإذا صار هناك فريقان في قضية ما، لا يُعْتَبَر كلٌّ منهما مجرماً، وإنما المجرمُ هو الذي يختلف عن غير حقّ. أما الذي يختلف عن حق فليس بمجرم.
اختلاف العلماء:
فاعتبارُكم لاختلاف العلماء جميعَ الفرقاء المختلفين مجرمين رأيٌ غير صحيح وموقفٌ خاطئ. وغيرُ صحيح أن تقولوا للجميع أن يتفقوا بينهـم؛ بل الأحسن أن تُـحَقِّقُوا أنّه من هو منهم على الحق ومن هو على غير الحق، فاعتبروا من هو على غير الحق مجرماً، أما إرغامُ من هو على الحق على الاتفاق مع من هو على غير حقّ، فلا يعني إلاّ أن يفارق الحقَّ إلى غير الحقّ، وهو أمر لا يقبله عاقلٌ، فهذا القدرُ من شكواي لكم بَقِيَتْ وهي أنكم تُشِيرون على جميع العلماء بالاتفاق بينهم قبل إجراء التحقيق بينهم. أمـا العلماءُ فإنني كذلك أشكوهم؛ ولكنني لا أشكو منهم إلاّ من هو على غير حقّ. فلو قلتم: إن الفريق الثاني من العلماء هو الآخر معذور في الاتفاق؛ لأنه أيضاً يرى موقفَه صحيحاً ويرى نفسَه على الحق، ويرى أن ما ذهب إليه برأيه هو الحقّ. لقلتُ: إنّ مثل هذا الاختلاف رحمةٌ ولا يرجى منه أن تحدث الفتنة والشغب. فها هم الأئمة الأربعة، إنما يختلفون عن فهمهم ورأيهم؛ ولكنهم رغم ذلك يتفقون ولا يطعن أحد في أحد؛ بل كلٌّ منهم يعتبر الآخرَ مُـحِقًّا فيما ذَهَبَ إليه. ولو كان الاختلاف مثلَ هذا لما وَقَعَ المسلمون في مشكلة ما يشاهدها الكل بأم أعينهم، وإنما الاختلاف اليوم نشأ من الحرص على المادة.
السبب الأساسيّ في الاختلاف:
ولذلك أقول لو أنّ أهل الحق كان لديهم مبالغ كبيرة، وأجروا لهذه الفرق كلِّها التي تختلف فيما بينها، رواتبَ، لارتفع الخلاف كلُّه في يوم واحد، فالاختلافُ كلُّه نَشَأَ من الحرص على المادة و وسائل إشباع المعدة. فهناك من يُرَكِّز على الاحتفال بمولد النبي – صلى الله عليه وسلم – وآخرُ يُرَكِّز على أداء طقس «الفاتحة»وثالثٌ يُرَكِّز على القيام بطقس «تيجيه» أو «اليوم العاشر». كان هناك عالم مبتدع ينادي كثيرًا بالبدع والخرافات ويناصرها، قال له واحدٌ من المسلمين: إنك تقول بكون الاحتفال بالموالد وبأداء طقس الفاتحة سنّةً وتُؤَكِّد على ذلك كثيرًا، وتذمّ من يمنع من ذلك، فلماذا تقرأ نساؤك و نساءُ أمثالِك كتابَ «بهشتي زيور» (حلى الجنة)(1) ومن حكمة الله، وما أعظم شأنَه أن جميع المسلمين يقترحون الكتاب لنسائهم مهما كان انتماؤهم إلى مذهب أو مدرسة، فكان النساء في بيت ذلك العالم أيضاً يقرأنه. فأشار العالم المبتدع إلى بطنه وقال صريحاً: إن الاختلاف كلَّه مَرْجِعُه إلى هذا؛ وإلاّ فإنّ الحقَّ هو الذي جاء في «بهشتي زيور».
وقد رأيتُ في مدينة لكهنؤ – عاصمة ولاية «يوبي» – أنه يُؤَدَّىٰ طقسُ الفاتحة على كلِّ نوع من الأطعمة مُفْرَدًا، ثم طلبوا إليّ أن أتحدّث معهم في موضوع الدين، فقلتُ لهم: إن الامتحان فيما يتعلق بكون الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – أو أداء طقس الفاتحة سنةً أو بدعةً، إنّما ينعقد إذا امتنعتم عن دفع أي مكافأة إلى العالم الذي يقوم بأداء طقس الصلاة على النبي أو أداء طقس الفاتحة، قولوا له: أن يُكثِر من ذلك ويُؤَدِّيَ هذه الطقوس على كلِّ من الصحون، ولكن لاتمنحوه أيَّ شيء من الحلاوى أو المكافأة الماليّة اللتين تقدمونهما إليه مرتين، فسترونه يروح يعتبر ذلك بدوره بدعةً. وفعلاً عَمِلَ بذلك أناسٌ منهم؛ فما وسع القائم بطقس الفاتحة إلاّ أن راح بقول مساء ذلك اليوم: في الواقع إن يبدو من الفضول أن يُؤَدَّى طقس الفاتحة مفردًا على كل صحن وعلى كل نوع من الأطعمة، وإنما يكفينا ذلك مرة واحدة؛ فقلتُ في نفسي: إنه سيبدو ذلك لك حقًّا بعد ما حدث ما حدث.
أيها السادة! أصدقكم أنكم إذا فرضتم الحظرَ على دخل القوم، فسيقولون بأنفسهم: إن هذه البدع كلّها التي أحدثوها لغو لا طائلَ من ورائه؛ لأنّها في الحقيقة حِيَلٌ لكسب لقمة العيش. في السنة التي اشتدّ فيها الطاعون، لاحظتُ أنّه كان قد تَوَقَّفَتْ قراءةُ الحمص وأداء طقس قراءة الفاتحة وطقس «تيجه» وطقس «اليوم العاشر». ولما انتهت وطأةُ الطاعون قلتُ لهؤلاء القوم الذين كانوا يصنعون ذلك كلَّه: يا أيها السادة المحترمون! لماذا كانت قد اختفت ظاهرة قراءة الحمص والفاتحة وأداء طقس «تيجه» و «اليوم العاشر» وغير ذلك. فما وَسِعَه إلاّ أن قال: أما والله قد كانوا في شغل شاغل عن ذلك كلّه، من أجل مصيبة الطاعون التي دهمتهم جميعًا. قلتُ لهم: إنّ الأعمال التي شُطِبَتْ، اِعلموا أنها لم تكن من الدين، وإنما كانت شغلَ الفرصة. أما الأعمال التي ظلّ الناس يتمسّكون بها حتى في وقت المصيبة القليلة الفرصة هذه، فكانت من الدين؛ فما نَبَسُوا ببنتِ شَفَةٍ.
مضرّة طقس «الفاتحة» الـمُتَّبَع:
وكذلك قال لي أحدٌ من سكان القرية: ما الحرجُ في الفاتحة، وإنما فيها المنفعة؛ حيث يصل ثوابُ قراءةِ السور إلى الموتى؟ قلت له: إن هذه المنفعة لا تخصّ الأطعمةَ، وإنما تتحقق كذلك عن طريق النقود والروبيات والملابس، فهلاّ قرأتَ الفاتحةَ على نقود وثياب باسم الله تعالى؟ ما قرأت قطّ. قلتُ: لماذا ما قرأتَها وكان ليصل ثوابُها إلى الموتى، لأن ثواب قراءة السورة حاصلٌ في هذه الصورة هي الأخرى. فعاد يقول: يا شيخُ! قد فَهِمْتُ السرَّ في ذلك، وأنت صادق فيما تقول.
أيها السادة! إن هذه الحبائل كلَّها ابْتُكِرَت لكسب الدخل، فلو أُوقِفَتْ مكافآتُ هؤلاء القائمين بطقوس الفاتحة والاحتفال بالموالد؛ لقالوا مثلَ ما نقول. وإن هذا المجلس الذي تحدثتُ فيه عن أمور الدين لم أطرح فيه تحقيقاً ودراسةً حول السنة والبدعة، وإنما اكتفيتُ بإجلاء أمور بسيطة يتبيّن منها بسهولة كل أحد ما هو الحقّ وما هو غير الحقّ.
الاختلاف على الإطلاق ليس مثار شكوى:
وبالجملة، فإني كنتُ أقول: إنّ الاختلاف مطلقاً ليس مثار شكوى، بل الواجبُ أن تُحدِّدَ أولاً الحقَّ، ثم انظر من هو على الحقّ من العلماء المختلفين فيما بينهم، ومن هو على غير الحقّ. وبذلك يحصل التفريق بين الـمُحِقّ وبين غير الـمُحِقّ. وأدلّ في هذا الصدد على طريق سهل: وهو أن الناس على قسمين: بعضهم مُثَقَّفُون متعلّمون ولو باللغة الأرديّة، وبعضهم أمّيّون. فأمّا الطبقة الأولى فطريق تحقيق الحق لهم أن يقرؤوا مُؤَلَّفَات العلماء من الفريقين، ولكن يجب أن يقرؤوها قراءةً حياديّةً مدفوعين بروح الإنصاف لا قراءة انحيازيّة؛ فلا يكون لديهم روح الانحياز والانتصار لطائفة من الطائفتين؛ لأن الإعجاب المُسَبَّقَ بواحدة منهما تجعلهم يستجيدون ويستطيبون كلّ ما كتبوه في مُؤَلَّفَاتهم؛ لأنّ عين الرضا عن كلّ غيب كليلة، وتحقيق الحقّ لايتم بهذا الطريق، وإنما الطريقُ إليه أن تُقْرَأ كتبُ كلتا الطائفتين بخلوّ الذهن وعن غير انحياز لإحداهما وعن روح الإنصاف وعن إيمان بأن المعاملة بينه وبين الله تعالى. فلو وضعتَ ذلك نُصب عينيك، وكنتَ ناشدًا للحقّ وحده، لتجلّى الحقّ وانبلج إن شاء الله تعالى في ذهنك بصورة عفويّة.وإذا تجلّى كونُ شيء حقًّا وكون إحدى الطائفتين عليه، فلا تتعلّق إلاّ بها وحدها، ومنها تعلّم أمورَ الدين وصراط الله المستقيم؛ ولكن لا تتناول الأخرى بالملام والسباب؛ لأن الإساءة إلى أحد لا تُحَقِّقُ لك الإحسانَ ولا تُسَبِّب لك الخيرَ. كما قال الشاعر الفارسي: لا تَصِفْ أحدًا بالسوء مهما كان مسيئًا، فإنه وإن كان مسيئًا لا يصلك منه سوءٌ. وإن وَصَفَك أحدٌ بالسوء فلا تَصِفْه به أيضًا. وقال الشاعر الأردي الشيخ محمد إبراهيم المتلقب بـ«ذوق» في شعره:
«إذا كنت محسنًا لن تكون مسيئًا يا «ذوقُ» إنما المسيء من يُسَمِّيك مسيئًا، وإن كنت مُسيئًا فإنه يصدق في وصفك بالمسيء، فلماذا تستاء عندما يقول لك: إنّك مسيء؟!».
مجالسة العلماء:
هذه الطريقة كانت لمن قد تعلّموا، أما الذين لم يتعلموا فلهم أن يلازموا عالمين لأسبوع من أسابيع فرصهما التي سيطّلعون عليها إذا استفسروهما، وأن يجالسوهما فيه، وأن يستمعوا لهما وأن يلاحظوا أن أيًّا منهما أشدّ مواظبة على المسائل الدينية الـمُتَّفَق عليها، وأن مجالسة أي منهما تترك عليهم تأثيرًا، وأن يلاحظوا نوعَ هذا التأثير. فإذا وجدوا أيًّا منهما أن مجالسته تُرَغِّب في الآخرة، وتُحَرِّض على عبادة الله، وتُكَرِّه إليهم معصيةَ الله وتُخَوِّفُهم منها، و وجدوا مُعْظَمَ الذين يعايشونه على حالة دينيّة طيّبة، فليختاروه، وإيّاه يسألون عن قضايا الدين، وأن يتردّدوا إليه من وقت لآخر، وإن هذا الأسلوب مفيد جدًّا للمثقفين كذلك؛ لأن مجالسة أيّ عالم تُطْلِعُ من أحواله الحقيقية على ما لا تُطْلِع عليه الكُتُبُ والـمُؤَلَّفَاتُ وحدَها، فلو أنّهم أيضاً اختاروا الأسلوبَ نفسَه لكان أحسنَ وأنفعَ لهم.
* * *
(1) كتاب شهير باللغة الأردية السهلة يتضمن ما تحتاج إليه النساء وعامة المسلمين من مسائل الدين. ألّفه العلاّمة الشيخ أشرف علي التهانوي – رحمه الله – وقد تلقاه المسلمون: في شبه القارة الهندية بقبول وتداول ينقطع نظيره بالنسبة إلى أيّ كتاب في الدين أو في الموضوعات الإسلاميّة. وقد تكون على رأس الكتب الدينية الأكثر مبيعًا في القارة الهنديّة. (المترجم)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1434 هـ = أبريل – يونيو 2013م ، العدد : 6-7 ، السنة : 37