الفكر الإسلامي

بقلم:        نور عالم خليل الأميني ، رئيس تحرير المجلة

          الذين اعتمدوا كل الاعتماد على روايات كتب التاريخ من المُغْرِضِين منا نحن المسلمين، والمُبْغِضِين للإسلام من الرافضة والخوارج، قد رَكِبُوا متنَ الشطط؛ إذ صَوَّرُوا الصحابة في غير صورتهم الأصيلة، وأبرزوهم مُتَعَادِين فيما بينهم، مُتَخَاصِمِين على السلطة والحكم، مُتَهَافِتِين على الأغراض الخسيسة والمنافع الدنيوية.

       نهض فريقٌ منهم فوَجَّهَ إلى سيِّدنا علي وأولاده بل البيت الهاشميّ كلِّه جميعَ التهم التي لايمكن أن تُوَجَّه إلا إلى صَرْعَى الأهواء، وعبيد الأغراض، وطَمَّاعِي حطام الدنيا. وذلك باسم تأييد سيدنا معاوية وابنه يزيد؛ ولكنهم قليلون. ونهض فريق منهم – وهو كثير العدد من الشيعة وقليل العدد من أهل السنة – فأنكر لمعاوية وعثمان – رضي الله عنهما – وإخوانهما من الصحابة – رضي الله عنهم – كلَّ فضل، وألصق بهم كلَّ عيب، وسحب عنهم كلَّ ثقة، وأساء معهم الأدبَ كلَّ الإساءة، وكاد ينكر لهم شرف الصحبة  – ونعوذ بالله من ذلك – لولا مخافتهم من الناس على أنفسهم، أو على وجاهتهم الدنيوية ومنافعهم المادية.

قوم نَصَحَةٌ بعضُهم لبعض:

       على حين أنهم كانوا في الواقع متراحمين فيما بينهم، مُتَوَادِّين، مُتَعَاطِفِين، مُتَرَاصِّين كالبنيان يَشُدُّ بعضُهم بعضاً، إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَىٰ له سائرُ الجسد بالحمى والسهر – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم – وقد صَوَّرَهم القرآن فقال: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾(1) ولم تعرف البشرية عَبْرَ تاريخها الطويل أخوّةً أصدق من أخوّتهم، وتعاوناً أثمر وأطيب وأخلص من تعاونهم.

       وقد صدق علي – رضي الله عنه – عندما قال لأبي سفيان – وقد دخل أبوسفيان عليه وعلى العباس بعد ما بايع الناس أبابكر، ولم يبايعه لحينئذ علي والعباس – «لولا أنّا رأينا أبابكر لذلك أهلاً ما خلّينا وإياها، يا أبا سفيان، إن المؤمنين قوم نَصَحَةٌ بعضُهم لبعض، إن المنافقين قوم غَشَشَةٌ بعضُهم لبعض، مُتَخَاوِنُون وإن قربتْ ديارُهم وأبدانُهم»(2).

       والمتقربون إلى الشيطان والحكام هم الذين شَوَّهُوا التاريخَ، وأوهموا الناسَ بأن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يكونوا إخواناً في الله رحماء بينهم، متعاونين على الخير، بل كانوا أعداءً فيما بينهم يحقد بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ولا يتحرّج بعضُهم من أيّ تآمر ضدّ بعض. يقول محبّ الدين الخطيب: «لقدكذبوا، وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما، وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق، والخير»(3) وقال: «إن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة، هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وإن الأخبار التي تُشَوِّهُ سيرةَ الصحابة وتُوْهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس، هي التي رواها الكَذَبَةُ من المجوس الذين تَسَمَّوا بأسماء المسلمين»(4).

نماذج لأخوتهم الصادقة:

       أجل إنهم كانوا رحماء بينهم يحب بعضهم بعضاً كما يحب نفسه وأهله؛ لأن الله عز وجل ألَّف بين قلوبهم، وجعلهم إخواناً أصفياء، يدل على ذلك حياتُهم التي عاشوها في الطاعة لله ولرسوله وفي المعاملة الأخوية والعلاقة المتبادلة.

       * أما علي رضي الله عنه فلا أدل على إكرامه لإخوانه الصحابة وأصدقائه الخلفاء الثلاثة بالذات، أنه سمّى أبناءه بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان وأن أم كلثوم الكبرى بنت علي رضي الله عنه، كانت زوجةً لعمربن الخطاب، وولدت له زيداً ورقية، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب سَمَّىٰ أحدَ بنيه «أبابكر» وابنه الآخر«معاوية»(5).

       وعندما حاصر الناس عثمان، ومنعوه الماءَ، فأشرف على الناس، فقال: أفيكم علي؟. قالوا: لا. قال: أفيكم سعيد؟ قالوا: لا، فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ علياً به فيسقينا ماءً؟ فبلغ ذلك علياً، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماءً، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، وبلغ علياً أن عثمان يراد قتله، فقال للحسن والحسين اِذْهبَا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تَدَعَا أحدًا يصل إليه(6).

       ولما حاصر الناس بيتَ عثمان، بعث علي الحسنَ ومولاه قنبرًا وأمرهما بمنع الناس عن الدخول على عثمان، ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه، وشُجَّ قنبر مولى علي ولم يتمكن الناس من الدخول على عثمان من ذلك الباب الذي كان عليه الحسنُ، وتسوّروا عليه الجدارَ من خلفه، ودخلوا عليه، وقتلوه وهو يتلو القرآن(7).

       وتواتر عن علي – رضي الله عنه – أنه كان يقول على منبر الكوفة: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر» روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهًا، ورواه البخاري وغيره، وكان – رضي الله عنه – يقول: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاّ ضربتُه حد المفترى»(8).

       وقال فيهما: «ما بال أقوام يذكرون سَيِّدَيْ قريش، وأَبَوَيِ المسلمين، بما أنا متنزه منه، ومما يقولون بريء، وعلى ما يقولون مُعَاقِب، فوالذي فلق الحبةَ، وبرأ النسمةَ لايحبهما إلا كلُّ مؤمن تقى، ولا يبغضهما إلا كلُّ فاجر غوي، أخوا رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحباه ووزيراه» (أسد الغابة: ج3، ص:164).

       ولما بلغت الجرأة والفجور باثنين من المتسممين بسموم عبد الله بن سبأ، ويقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله – فنالا من أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أمر علي – رضي الله عنه – القعقاع بن عمر – رضي الله عنهما  بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وأن يُجَرِّدَهما من ثيابهما ففَعَلَ. وكان ذلك بعد وقعة الجمل(9).

       وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته عن رضا وطواعية نفس، وظل من أعظم أعوانه على الحقّ، وكان يذكره بالخير، ويثنى عليه في كل مناسبة(10) ولما ثَقُلَ أبوبكر: أشرف على الناس من كُوَّة، وقال: يا أيها الناس، قد عهدت عهدًا أترضونه؟ قالوا: قد رضينا ياخليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال علي: لن نرضى إلا أن يكون عمر(11).

       وخطبتُه – علي رضي الله عنه – التي ألقاها يومَ وفاة أبي بكر، وخطبتُه الأخرى التي ألقاها يومَ استشهاد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يبدي فيهما حزنَه العميق عليهما، وانطباعاته الحارّةَ عنهما لتدلاّن على صدق الإخلاص والحبّ اللذين كان ينطوي عليهما قلبُه لصديقيه: أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ومن شاء فليقرأهما في كتب الطبقات والسير(12).

       وصرح السيد أمير علي الشيعي الهندي (1849-1928م) صاحب كتاب «مختصر تاريخ العرب» باللغة الإنجليزية (A Short History of the Saracens) فيما كتبه عنه: أنه وافق على خلافة أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأطاعه أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم برحابة صدر»(13).

       وأكد وليم ميور «أن عليًّا هو الذي كان يرد على رسائل أبي بكر بوجه عام»(14).

       * وأما أبوبكر رضي الله عنه فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث – رضي الله عنه – قال: «صلى أبوبكر العصر، ثم خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله على عاتقه، وقال: بأبي شبيهٌ بالنبي – صلى الله عليه وسلم  لاشبيهٌ بعلي، وعلي يضحك»(15).

       * وأما عمر – رضي الله عنه – فقد قال الحسين بن علي  رضي الله عنه – : «أن عمر قال لي ذات يوم أي بنيّ! لو جعلت تأتينا وتغشاناً؟ فجئتُ يوماً وهو خال بمعاوية، وابنُ عمرَ بالباب لم يُؤْذَنْ له، فرجعتُ فلَقِيَنِي بعد، فقال: يا بُنَيَّ! لم أرَكَ أتيتنَا؟ قلتُ: جئتُ وأنتَ خالٍ بمعاوية، فرأيتُ ابن عمرَ رجع فرجعتُ، فقال: أنتَ أحقُّ بالإذن من عبد الله بن عمر، إنما أنْبَتَ في رؤوسنا ما ترى اللهُ، ثم أنتم، و وَضَعَ يده على رأسه»(14).

       وروى ابن سعد عن جعفر الصادق بن محمد الباقر عن أبيه علي بن الحسين، قال: لما قدم على عمر حُلَلٌ من اليمن، فكسا الناس، فراحوا في الحُلَل، وهو بين القبر والمنبر جالس، والناسُ يأتونه فيُسَلِّمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن والحسين من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطّيان الناس وليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صار بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا يأميرالمؤمنين، كسوت رعيتَك فأحسنتَ، قال: من أجل الغلامين يتخطيان الناس وليس عليهما منها شيء، كبرت عنهما وصغرا عنهما، ثم كتب إلى اليمن أن ابعث بحلتين للحسن والحسين، وعَجِّلْ، فبعث إليه بحلتين، فكساهما»(17).

       وعن أبي جعفر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما أراد أن يفرض للناس بعد ما فتح الله عليه، وجمع ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – : ابدأ بنفسك، فقال: لا والله، فبدأ بالأقرب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن بني هاشم رهط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفرض للعباس ثم لعلي، حتى والي بين خمس قبائل حتى انتهى إلى بني عدي بن كعب.. فكتب من شهد بدرًا من بني هاشم، ثم من شهد بدرًا من بني أمية بن عبد شمس، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض الأعطيات لهم، وفرض للحسن والحسين لمكانهما من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (18).

       وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يستشير علياً ويقبل آراءه، ولما استشاره عمر بمناسبة الحرب ضد الإمبراطورية الرومية، أشارعليه ببقائه هناك وإرسال ضابط محنك لقيادة الجيش، وكذلك خالفه على أن يتّجه إلى ميدان القتال بمناسبة معركة حاسمة ضد القوات الفارسية ونهاه عن ذلك(19).

       وقال العلامة شبلي النعماني في كتابه «الفاروق» باللغة الأردية، حول عنوان «رعاية الحقوق والآداب بين الآل والأصحاب».

       «إن عمر – رضي الله عنه – لم يكن يبتّ برأي في مهمات الأمور قبل أن يستشير علياً – رضي الله عنه – الذي كان يُشِير عليه بغاية من النصح ودافع من الإخلاص، وكان قد حاول أن يوليه قيادةَ الجيش في معركة «نهاوند»(20)، إلا أنه لم يوافق عليه، ولما سافر إلى بيت المقدس، استخلفه في جميع شئون الخلافة على المدينة، وقد تمثل مدى الانسجام والتضامن بينهما حينما زوجه علي – رضي الله عنه – من السيدة أم كلثوم التي كانت بنت فاطمة – رضي الله عنها – »(21).

كل رواية لاتطابق صورتهم الحقيقية فمكانها القمامة

       هذه أمثلة عديدة تدل على مدى ما كان يتمتّع به مجتمعُ هؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم – صنائع الدعوة الإلهية، وخريجي المدرسة النبوية، من الحب الصادق، والإخلاص الفائق، والثقة المتبادلة، والتآخي الصافي المنقطع النظير، وكلُّ رواية لاتطابق هذا الواقعَ الذي عاشوه، وهذه الصورةُ التي كانوا عليها والتي نصّ عليها القرآن الكريم، والروايات المتواترة، والآثار والأخبار الصحيحة الموثوق بها، فهي مردودةٌ مرفوضة، مكانها صندوق القمامة أو سلّة المهملات؛ لأنها إساءة الظن في نجاح التربيـة النبويـة، وإنتاج الرسالة الإلهية، وإثمار الدعوة المحمدية، ونجاح جهود النبي الأعظم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – : التي بذلها في صنع جيل الدعوة المثالي.

*  *  *

الهوامش:

الفتح: 29.

ابن السمان في الموافقة، نقلاً عن «أبو بكر الصديق» لعلي الطنطاوي.

خاتمة «التحفة الاثنى عشرية» ص: 308.

المصدر نفسه، ص: 312.

المصدر نفسه، ص: 309.

تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص: 159 و 160 (نقلا عن صورتان متضادتان).

المصدر نفسه .

خاتمة «التحفة الاثني عشرية» ص: 310.

المصدر نفسه ، ص: و – ز.

خاتمة «مختصر التحفة الاثنى عشرية» ص: 311.

شهيد المحراب عمر بن الخطاب، ص: 63، ط: مصر.

ولاسيما الطبقات الكبرى لابن سعد، ج3، ص: 370، ط: دار صادر – بيروت.

A SHDRT HISTORY OF THE SARACENS, OP. CIT. P.21. (نقلاً عن «صورتان متضادتان» ص: 45).

ANNALS OF THE EARLY CALIPHATE, CIT. P. 123 (نقلاً عن المصدر السابق).

كتاب المناقب من صحيح البخاري، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ج1، ص133، وكنز العمال لعلي المتقي بن حسام الدين البرهان فوزي، ج7، ص105، بسند صحيح.

كنزل العمال؛ ج7، ص 106.

كتاب الخراج للإمام أبي يوسف، ص: 24-25.

الترجمة الإنجليزية لكتاب نهج البلاغة (PEAK OF ELOQUENCE, BOMBAY,1979, P.57).  (نقلاً عن صورتان متضادتان).

مدينة في إيران جنوبي همذان، وتولى قيادة هذا الجيش العظيم الذي خاض معركة حاسمة مع الفرس سدينا النعمان بن مقرن رضي الله عنه، ولما وقع شهيدًا على أرض المعركة خلفه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (الأميني).

صورتان متضادتان، ص: 50.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذو القعدة 1433 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2012م ، العدد : 11 ، السنة : 36

Related Posts