الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية الكبير معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
ويقف عمر مع سعد بن أبي وقاص موقفاً مثل موقفه مع غيره، لا يحابيه ولا يداجيه، فإن صح ما قيل بأنه هدد عمر أن يدعو عليه، وسعد معروف باستجابة الله دعاءه، فإن عمر رد بقوة إيمان، مبني على ثقته بعدل الله، ومنطلق من تأكده من أن ما أقدم عليه هو في سبيل رضى الله، رد ردًّا عبقريًّا على سعد، والقصة كالآتي:
«قال سعد لعمر، حين شاطره ماله:
لقد هممت!
فقال له عمر: لتدعو الله عليَّ؟
قال: نعم.
قال: إذاً لا تجدني بدعاء ربي شقيًّا(1)»(2).
ولقد أقلق عمر التطور الاجتماعي الذي بدأت تباشير فجره تطل على المدن الإسلامية، خاصة المدينة، وأزعجته بعض مظاهر هذا التطور، وشمر ساعده لمقابلة السيئ منها، ولعل أحد أبرز هذه الجوانب جانب اللغة، واللحن فيها؛ وقد بدأ ينتشر بسرعة لم تعهدها مجتعات مكة والمدينة، وهاتان المدينتان فيهما من الأحباش في الجاهلية، من لم يبد أنه كان مصدر خطر، مثل الخطر الذي جاء بعد الفتوح الإسلامية، وكثرة الرقيق من فارس والروم وأفريقيا. وقد أدرك عمر – رضي الله عنه – مدى خطورة تدهور اللغة نتيجة هذا المظهر الجديد، وكان له مواقف اتسمت بالحزم أمام اللحن في اللغة، خاصة إذا جاء ذلك من شخص يقوم بعمل من أعمال الدولة، ومن القصص التي تروى عنه في هذا، القصة الآتية:
«كتب كاتب الأشعري:
من أبو موسى.
فكتب إليه عمر: انظر كاتبك فاجلده سوطاً.
وروي: أقسمت عليك لما ضربت كاتبك سوطاً»(3).
والسباحة والرماية وركوب الخيل أنواع من الرياضة البدنية، التي امتدحها الإسلام، وحث على مزاولتها، ففيها بناء العقل، وتقوية البدن، وحماية النفس، وحراسة الوطن؛ ولهذا لا غرابة أن يمر عمر بن الخطاب في وقت ازدهرت فيه الرماية، بشباب نصبوا لهم غرضاً، وأخذوا يصوبون إليه أقواسهم، ويطلقون سهامهم، فالتفت إليهم، ولكن عمر ذهل عن الرمي، لخلل عرض أمامه، وصك سمعه، وهو لحن الرماة، والقصة كما يلي:
«مر عمر – رضي الله عنه – على رماة غرض، فسمع بعضهم يقول لصاحبه: أخطيت وأسيت.
فقال: مه، فإن سوء اللحن أشد من سوء الرماية»(4).
ورغم أني أميل إلى أن القصة الآتية منحولة، وقيلت لصالح عمرو بن العاص، في وقت كان هناك من يناوئه، ومن يعضده؛ لأنه ليس هناك ما يجعل عمرًا خيرًا من غيره في إتقان اللغة، أمَّا إن أريد بها الفأفأة، وعدم استقامة اللسان، فعمر أبعد من أن يهزأ بخلق الله. على أي حال نوردهـا هنا على أنها عن الخطأ في اللغة، وأن فيها روح عمر – رضي الله عنه – وحرصه على اللغة:
«لحن رجل عند عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال:
أشهد أن الذي خلقك وخلق عمرو بن العاص لواحد»(5).
ولعل عمر – رضي الله عنه – كان ينظر إلى اللحن على أنه كسل عقلي، فمرتكب اللحن كان عليه أن يتعلم فلا يلحن، وأن يزن القول قبل أن يقوله، ويدخل في اللحن عند عمر إثم الخطأ في الكتابة مثل ما حدث في القصة الآتية:
«كتب كاتب عمرو بن العاص إلى عمر، ولم يكتب لها سيناً، (أي بسم الله)، فضربه، فقيل له:
فيم ضربك عمر؟
قال: ضربني في سين»(6).
ويبدو أن عمر توقع أن يكون هذا العمل بدءًا لخطأ سوف يقدم عليه الكتاب، وهو كسل منهم في كلمة مهمة، فأراد أن يكون الجزاء موجعاً، حتى يكون فيه رادع لمن تسول له نفسه في أن يستهين، وينهج النهج نفسه، وقد صح حدس عمر؛ لأنه سوف يتبين من نص آخر أن الأمر استفحل، ووصل إلى زمن عمر بن عبد العزيز، وقد اختار عمر بن عبد العزيز عقاباً آخر، غير الذي أوقعه عمر بكاتب عمرو بن العاص، وهذه هي القصة:
«كتب عامل لعمر بن عبد العزيز من مصر كتاباً بغير سين، فأمره بالقدوم عليه، ودفع إليه كتابه، وقال:
اِجعل «لبسم» سيناً، وارجع إلى مصرك»(7).
ويختلط تواضع عمر – رضي الله عنه – بحبه للمسلمين، ورعايته لهم، وسهره في النظر فيما يصلح شأنهم، فلا يأنف من أي عمل فيه شيء من ذلك، والأمثلة على هذا كثيرة، ومنها:
«قيل إنه لقط عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نواة من الطريق، وأمسكها بيده، حتى مرَّ بدار قوم، فألقاها في الدار، وقال: يأكلها داجنهم»(8).
لم يرفع عمر نفسه من لقط النوى يمر به، ويعرف أن النوى يفيد الأغنام في بيوت الناس، فهو يلتقطها من الطريق، فيلقيها حيث ينتفع بها، فهو لم يخرج عن طريقه، ولم يجهد نفسه فوق طاقتها، ولكنه استفاد من سيره، وانتفع بوقته، وكسب من الله أجرًا على التقاط ما جاء بنفع، فأرضى ربه، ثم أرضى نفسه، وأرضى الناس.
والدين حث على التقاط الأذى من طريق المسلمين، إبعادًا للأذى، أما رفعه عن الطريق جلباً للنفع فثوابه – بلا شك – أكثر.
لهذا وأمثاله من الأعمال المضيئة أزرى عمر – رضي الله عنه – بالخلفاء من بعده، فلم يصل إلى ما وصل إليه أحد، وأصبح مضرب المثل في الكمال في الحكم والعدل والتواضع والنزاهة والحزم واليقظة.
والقصة الآتية تعطي صورة ذات أبعاد مختلفة في مقدرة عمر على سلوك طرق الخير للمحتاج من أبناء أمته، وتري مسارب فكر عمر الخيِّرة، وطرق الولوج إلى ما يجعل عمر فريدًا في حكمه:
«قال سعيد بن المسيب وأبو سلمة:
كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أبا العيال، ويسلم على أبوابهن، ويقول:
ألكنَّ حاجة، وأيتكن تريد أن تشتري حاجة؟
فيرسلن معه بحوائجهن، ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده.
وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعهن بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن، ويقول:
أزواجكن في سبيل الله، وأنتن في بلد رسول الله، إن كان عندكن من يقرأ، وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن، ثم يقول:
الرسول يخرج من يوم كذا وكذا، فاكتبن حتى تبعث كتبكن.
ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة، ويقول:
هذه دواة وقرطاس، فادنين من الباب حتى أكتب لكنَّ.
ويمر على المغيّبات، فيأخذ كتبهن، فيبعث بها إلى أزواجهن»(9).
لقد حرص عمر على ألا يُفرَّط في حق المجاهدين، فهو يتابع أمور أهلهم بنفسه، حتى يطمئن المقاتل والمرابط، إلى أن أمر أهله بيد أمينة؛ وعمر يقوم بهذا بنفسه، ليطمئن على مستوى الخدمة التي يريدها لأهل الغائبين، وليبعد الشبهة عنهن، وليبعد الطامع فيهن، ذا النية السيئة؛ وعمر معروف عنه النباهة في توقع ما قد يأتي به أمر ما من زلل، وما يقود إليه من خطل، فهو يحسب حساب الأمر قبل أن يقع، ويسد باب الذريعة قبل أن ينفتح على مصراعيه، فيصعب حينئذ قفله، وإن أمكن إغلاقه فبجهد وتضحية. وسبق أن قال، عندما رأى بعض الناس يكثر الجلوس عند المغيبات، وهن الزوجات اللاتي غاب عنهن أزواجهن: «إن المرأة لحم على وضم»، ومنع جلوسهم عندهن(10).
ورغم أني غير متأكد من صحة القصة التالية إلا أنها إذا كانت موضوعة، فقد راعى واضعها أن تمثل جانباً من جوانب تواضع عمر، وحرصه على نفع الناس، والقيام على مصالحهم بنفسه:
«أسلم أعرابي في أيام عمر بن الخطاب، فجعل عمر يعلمه الصلاة، فيقول:
صل الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والصبح ركعتين.
فلا يحفظ، ويعيد عليه فلا يحفظ، بل يجمع الأربع ثلاثاً، والثلاث أربعاً، فضجر عمر، فقال:
إن الأعراب أحفظ شيء للشعر فقال: (رجز):
إن الصلاة أربع وأربع.
ثم ثلاث بعدهن أربع.
ثم صلاة الفجر لا تضيع.
أحفظت؟
قال: نعم.
قال: اِلحق بأهلك»(11).
ولعمر بعض قصص مع الصغار تدل على تواضع، وعلى أنه يرى أهميتهم للمستقبل، ويجب إعطاؤهم الثقة، وتلزم العناية بهم، ومن هذه القصص القصة الآتية:
«روى زيد بن أسلم عن أبيه، قال:
مرَّ بي عمر، وأنا وعاصم بن عمر نتغنى غناء التصبب، فقال: أعيدا.
فأعدنا.
فقال: مثلكما مثلُ حماري العبادي، قيل له اي حماريك أشر؟ قال: هذا، ثم هذا!»(12).
اجتذبته جلسة الصغار، ولعله تذكر شبابه، وأحب أن يعرف مقدرتهما في هذا الفن، فلما سمع غلبته صراحته، فأصدر عليهما حكمه العادل القاسي، ولعله أراد وعظهما عن الغناء بطريق غير مباشر.
وتواضعه لم يفقده هيبة الناس له، وتحرجهم من الخطأ أمامه، أو اعتماد الزلل، أو اختيار الانحراف، وجاءت الهيبة نتيجة صراحته، وحزمه، وعدم تراخيه في إحقاق الحق، وأخذه للفقير من الغني، وللضعيف من القوي، إنه لايهمل في حقوق الرعية، ولا يتساهل مع من أهملها.
والقصة التالية تُري شيئًا من هذه الهيبة:
«قامت امرأة إلى عمر – رضي الله عنه – فقالت:
يا أبا غفر، حفص الله لك!
فقال: ويحكِ ما تقولين؟
قالت: صلعت من فرقتك»(13).
إن صلعة عمر ليست هي التي أربكت المرأة، وإنما عمر وسيرته، وما استجمعته من ذلك هو الذي سبب لها الفرق، فخلطت بين حروف الكلمات، فقدمت ما هو مؤخر، وأخرت ما هو مقدم.
ورغم عطفه على الصغار، وتحننه إليهم، وهم يلعبون في الأزقة والأسواق، إلا أن بعضهم يهابه إلى الحد الذي يجعله يفر بمجرد أن يرى عمر مقبلاً، فمن يضمن أن عمر يوافقهم على اللعب، ولا يحاسبهم، لقد فروا إلا واحدًا وهذا عذره:
«مر عمر بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير، فعدا الصبيان، ووقف عبد الله، فقال له عمر:
مالك لا تذهب مع الصبيان؟
فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجن إليك فأخافك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسعه لك.
فقال عمر: أي شيطان يكون هذا»(14).
* * *
الهوامش:
مأخوذة من الآية الكريمة: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾. (مريم:4)
البيان والتبيين: 3/377.
ربيع الأبرار: 1/634، قارن هذا بما ورد مطولاً في «تنبيه الألباب: 90».
ومثل هذا ما يروى عن عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه –: تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل، فقال شرطي على رأسه: قم فقد أوذيت أمير المؤمنين. فقال عمر: أنت والله أشد أذى بكلامك هذا منه، ربيع الأبرار: 1/622، البصائر: 8/90.
ربيع الأبرار: 1/618.
ربيع الأبرار: 3/297.
ربيع الأبرار: 3/297.
سراج الملوك: 247، عيون الأخبار: 1/378.
سراج الملوك: 396.
البيان والتبيين: 2/191.
المنتقى: 99.
عيون الأخبار: 1/443.
ربيع الأبرار: 1/646.
عيون الأخبار: 2/215، محاضرات الأدباء: 25، ربيع الأبرار: 1/662، البصائر: 4/71.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذو القعدة 1433 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2012م ، العدد : 11 ، السنة : 36