الفكر الإسلامي
بقلم : فضيلة الشيخ / محمد عبد المجيد زيدان
لقد صنع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على عينه وأحاطه برعايته، وشمله بلطفه ورحمته، وخصه بعميم فضله وكرامته، وأدبه فجمع له رفيع الخصال ونهاية عظمة الأخلاق، فكان صلى الله عليه وسلم الفضائل مجسمة والمكرمات مجتمعة والخير خالصاً، والحق قويّا واضحاً. فمن الفضائل الإلهية الممنوحة له صلى الله عليه وسلم جمال وجهه، وإشراق طلعته، وحسن شكله، وكمال هيبته، وتناسق أعضائه، وتناسب أجزائه، واتساع عقله ورجاحته، وبعد نظره وأصالته.
روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه»، ومن كلام الإمام علي – رضي الله عنه وكرم الله وجهه – في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد.. إلى أن قال: من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله مثله ولابعده» ﴿ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (سورة الجمعة، الآية:4)، ولهذا قال مادحه:
خُلِقْت مبرءًا من كل عيب
كأنك قد خُلِقْت كما تشاء
أما الفضائل المكتسبة والصفات العظيمة والأخلاق الكاملة فرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جميعها الإمام يقتدى به، والأسوة الحسنة نتأسى بخلقه ونتشبه بأدبه، فهو النبع الصافي للأخلاق والنور الساطع بالكمال والجلال وإذا شهد الناس للرجل بالخير فصدقوا فهو من الخيرين، فإذا شهد له التقاة الصالحون فهو من الكاملين فما بالك بمن شهد له رب العالمين وأحكم الحاكمين وسماه قومه قبل رسالته «الصادق الأمين» قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القلم الآيتان: 3-4).
ولقد عرف صلى الله عليه وسلم فضل الله عليه وافتخر به، فقال عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسن تأديبي، ونشأت على أحسن الكمالات» لذا فإن مناقبه صلى الله عليه وسلم تستعصى على الإحصاء وصفاته النادرة المبهرة تأبى على الحصر.
لقد كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم استجابات نفسيةً وقوليةً وعمليةً لما يوحى إليه ربه في القرآن كما تجليها السيدة «عائشة» أم المؤمنين – رضي الله عنها – حينما سئلت عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فتقول: كان خلقه القرآن، أما تقرأ قول الله عز وجل ﴿وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القلم الآية: 4).
وتقول عنه أيضاً: «ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: «لبيك».
وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «خياركم أحسنكم أخلاقاً».
لقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم السبب المباشر في إسلام الكثيرين، وفي خبر الجلندي – ملك عُمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – لما بلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، قال الجلندي: «والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِبُ فلا يبطر ويُغْلَبُ فلا يضجر، ويفى بالعهد وينجز الموعود وأشهد أنه نبي» حتى من هداهم الله إلى الحقيقة فوضعوا خلاصة فكرهم المستنير في خدمة البشرية من أمثال «فولتير»، قال عن الإسلام الذي جاء به هذا النبي العظيم: «إن كثيرين اعتنقوا الإسلام وهم بعيدون عن بلاده وغزواته وفتوحاته» وقال «غاندي» عن نبي الإسلام: «إن نبي الإسلام هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند» ومن أجبر «نهرو» ليقـول عـن الرسول صلى الله عليه وسلم: «فاقت أخلاق نبي الإسلام كل الحدود ونحن نعتبره قدوةً لكل مصلح، يودّ أن يسير بالعالم إلى سلام حقيقي» ومن ذا الذي أجبر «ليو تولستوي» ليقول عن نبي الإسلام: «لا يوجد نبي حظي باحترام أعدائه سوى النبي محمد صلى الله عليه وسلم مما جعل الكثرة من الأعداء يدخلون الإسلام» وهذا «جان جاك روسو» يقول: «الرجال أمثال «محمد» يملكون كل أمور الحياة؛ لأنهم يصنعون الحياة السوية» هؤلاء وأمثالهم كثير مَنْ دفعهم كي يدلوا بشهاداتهم في حق الإسلام ونبي الإسلام بوضوح وعقلانية ودون تزييف وافتراء؟ سؤال نوجهه لعداء الإسلام ونبيه في الغرب الذين تقطر كتاباتهم كرهاً للإسلام والمسلمين، نقول لهم فتشوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ودين محمد صلى الله عليه وسلم في كتابات كتّاب ومفكرين منصفين هم أقرب إليكم بحكم الدين والهوية الجغرافية والتاريخية.
إن كثيراً من آيات القرآن الكريم تصف شمائله الظاهرة وشيمه العالية صلى الله عليه وسلم، يصف الله تعالى لين جانبه وسماحة نفسه وشدة عطفه على أمته فيقول سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (سورة آل عمران الآية: 159)، ويصف حرصه على هداية الخلق وألمه وحزنه لضلالهم ورأفته ورحمته بمن آمن به واتبعه فيقول سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التوبة الآية: 128)، يبين الله أن رسالته كانت رحمةً للخلق جميعاً، رحمةً للمؤمن بالهداية ونعمة الإسلام، ورحمةً لمن لم يؤمن برفع الانتقام الدنيوي من خسف ومحق وريح صرصر وصيحة مهلكة وغرق بالطوفان ورحمته بما نشرته من علم وحكمة ومباديء أخذتها كثير من الأمم، ففازت بها في الدنيا وفهمت بها الحياة فهماً صحيحاً غير أنها لم تؤمن فحرمت الهداية الروحية قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إلَّا رَحمةً لِلْعٰلَمِيْن﴾ (سورة الأنبياء الآية: 107) ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنٰكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ (سورة الأحزاب الآيتان: 45، 46). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خلقه وأدبه وفضله ونبله. ورسولنا العظيم بين لنا وظيفته التي بعثه الله بها، وصرح بأنها الاتقاء بالخلق في مدارج الكمال الأخلاقي فقال: «إنما بُعِثْتُ لأتمّم مكارم الأخلاق». ونحن ملزمون بطاعته مأمورون باتباعه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾ (سورة النساء الآية: 64)، والمؤمن الصادق هو المقتدي بالرسول المتأسي به المتبع لكل ما جاء به ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (سورة آل عمران الآية:31). وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (سورة الأحزاب الآية:21). فأخلاقه صلى الله عليه وسلم جذبت العباد وهدت صفاته الخلق للإسلام، فجدير بنا أن نذكر دائمًا أخلاقه، فنحن في الأخلاق فقراء، بل ماحلون، ونتذاكر أدبه الراقي فقد ساءت الآداب، نتحدث عن بره وكرمه، فقد عز الكريم وضاع البائس واليتيم، وعن صلابته في الحق وقد سكت صوت الحق، وعن سهولته في المعاملة وقد خربت الذمم وانحطت العزائم، نحيي النفوس ونوقظ الهمم، فالحوادث تنذرنا والخطوب تقرعنا والفتن تكتنفنا ولا خلاص إلا بخلق متين وأدب مكين ورسولنا هو المثل الأعلى والمنهج القويم وصدق من قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فجدير بنا ونحن نحتفل بذكرى مولده الشريف أن نتذاكر حياته وكفاحه وقيادته ورحمته ومواقفه؛ لأن حقيقة التأسي به تبدو في اتباع عزائمه والسير على هديه في مواقف البطولة التي استطاع فيها أن ينتصر على أعداء مجتمع الحق والعدل والخير الذي أقامه. المجتمع الذي أعطى لكل ذي حق حقه، فليكن احتفالنا بذكرى المولد النبوي استذكارًا لأيام الرسول صلى الله عليه وسلم وما أكثرها وتطبيقاً عمليًّا لما جاء به وما عاش من أجله ومات في سبيله. فقد كان مثالاً لكل الفضائل التي ينبغي للإنسانية أن تتحلى بها وأعطي من سيرته الشريفة قدوةً للتحرر الفكري والتسامح الأخلاقي والعمل الجدي الذي لايعرف الكلل والفتور. وسار في حياته كلها على مبدأ الشورى في معاملة أصحابه وغير أصحابه لينهج للإنسانية نهجاً كريماً في السلوك والمعاملة الحسنة. كان مثال العطف الكريم والتسامح الصادق واليسر مع نفسه ومع الناس، رقيق العاطفة يتألم لألم الناس ويفرح لفرحهم، كريماً في ماله، عطوفاً في قلبه؛ لأن دعوته تعادي التزمت الممنوع والرجعية المدمرة والجمود الفاتك والتدين الكاذب وتحض على كرائم الأعمال والتحلي بفضائلها وعلى الأمل وما يبعثه في النفس من شجاعة وقدرة وثبات؛ لأن الانقباض واليأس يعميان البصيرة ويسدان طرق النجاح في وجه المتسم بهما وما الحياة إلا منحة غالية للإنسان لا ينبغي أن نضيعها في التجهم والعبوس؛ ولهذا كان يقول: «إن الله يكره المعبس في وجوه إخوانه» ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «الهوا والعبوا فإني أكره أن يُرى في دينكم غلظة» ويقول صلى الله عليه وسلم: «يسّروا ولا تعسّروا وبشّرو ولا تنفّروا» لذا فإن الإكثار من التخويف والتهويل ليس عادةً إسلاميةً، وإنما تسربت للمسلمين عن طريق أديان أخرى وغذاها بعض الدعاة، حتى ألف خطباء الجمعة أن يكثروا منها في خطبهم بدلاً من أن يفتحوا للمسلمين أبواب الرجاء ويحضوهم على الانصارف عن الرذائل، والله تعالى يقول: ﴿إنَّه لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إلَّا الْقَوْمُ الكافرون﴾ (سورة يوسف الآية:12)؛ لأن اليأس انتحار للقلب وقاتل للأمل ولا يسلك طريقه إلا العاجزون لذا فإنه لا يليق بالمؤمنين ذوى النفوس الكبيرة ولله در القائل:
وإذا القلوب استرسلت في غيها
كانت بليتـها على الأجسـام
فاليأس شر قاتل يترك أثره على الصحة العامة، فلا ينبغي أن يفسح له المجال حتى يتسرب إلى القلوب وقد صدق من قال:
شعر العواقب يأس قبله أمل
وأعضل الداء نكس بعد إبلال
والمرء طاعـة أيام تنقـله
تنقل الظل من حال إلى حال
ويقول ربنا في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء» ويروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (سورة آل عمران الآية: 128). فترك الدعاء عليهم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختار آلام نفسه فيتحمل شرور المنافقين صابراً محتسباً، روي البخاري عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة أو بئس ابن العشيرة فلما جلس، تلطف النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله رأيت الرجل قلت كذا وكذا ثم تلطفت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة متى عدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ شره» كما روى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «أخاف على أمتي زلة العالم وجدال المنافق» لأن من خليقته صلى الله عليه وسلم أنه كان لين العريكة حميد المعاملة، تدفعه مكارمه لأن يتحمل في ذاته، ويصبر في نفسه، لقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام لا يحقق أهدافه إلا إذا كان المسؤولون عنه لا يحملون نفسية التاجر، وإنما يحملون نفسية الخادم المسؤول عن حفظ ما اؤتمن عليه؛ ولهذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم تولية أصحاب الحرص الذي يطلبون المنصب لوجه المنصب وقال: «إنا لا نولى هذا من سأله ولا من حرص عليه» لأن حقوق الأمة يجب أن تحفظ ولا تحفظ إلا بحسن اختيار القادة الذين يتولون مصالح الناس.
لقد جاء صلى الله عليه وسلم فأحدث انقلاباً لوضعية البشرية قاطبةً، غيَّر مجرى التاريخ بالعقيدة والشريعة التي جاء بها فلم يتخذ مبدأ: «من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» وإنما عوضه بمبدأ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (سورة البقرة الآية: 194) ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلى اللهِ﴾ (سورة الشورى الآية: 42). احترم إنسانية المرأة ومنحها الحرية في مجال العمل والرزق والكسب بالطرق الشريفة، وخير مثال نساء عصر النبوة فقد ضربن بسهم وافر في العمل والصبر والمثابرة ومعاونة أزواجهن، الشيء الذي حفظه التاريخ لهن بإكبار وإعجاب، والمرأة زينة المنزل وبهجة الأسرة برقتها ولطفها وحنانها وهي التي تشيع الفرح والبهجة والسرور في المنزل بين أولادها وأهلها جميعاً وقد أوصى بها الرسول الكريم فقال: «ما أكرم المرأة إلا كريم ولا أهانها إلا لئيم وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً ولا أحب أن أكون لئيماً غالباً» لهذا يجب أن ندرس الإسلام وتاريخه والسيرة والنبوية الشريفة بدقة وتمعن ونسير على هديها ليس بواسطة المتشبعين بأفكار غريبة، وإنما بواسطة من أشبعوا بالثقافة الإسلامية المتحررة ونهلوا من مناهلها الصافية وتذوقوا أسرارها وعلموا أن الآيات التي جاءت في القرآن الكريم للزجر كان زجرها من أجل مصلحة العباد، ولإبعاد النفوس عن غوايتها وفحشها وظلمها وشرورها؛ ولذلك نجد القرآن في آياته الزجرية لا يكتفي بالزجر وإنما يحض على العمل الصالح والأخلاق الفاضلة ليظهر للمسلم الفرق بين الغواية والضلال والهدي والصلاح.
لقد أعطى الله سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم كل أسباب الشرف والرفعة والكمال الإنساني ومع ذلك كان متواضعاً في غاية التواضع، فعن أنس – رضي الله عنه – أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهونكم الشيطان أن محمد بن عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل» (رواه أحمد ص21ج22 الفتح الرباني) – لقد كان يفضل مجالس الفقراء ويجيب دعوة العبد استجابةً لقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِيْن﴾ (سورة الحجر الآية: 88). ويجلس بين أصحابه مختلطاً – فلا يتخير مجلساً يترفع عليهم – بل يجلس حيث انتهى به المجلس، لهذا وغيره مما لا يتسع المقام لعرضه كلف الله المؤمنين بالاستجابة له على كل أحوالهم حتى في أثناء الصلاة وذلك لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (سورة الأنفال الآية: 24). وفرض الله على المسلمين حبه بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (سورة التوبة الآية:24).
قال القاضي عياض عقب هذه الآية: فكفى بهذا حضّاً وتنبيهاً ودلالةً وحجةً على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرّع تعالى من كان ماله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوْا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِه﴾ (سورة التوبة الآية: 24). ثم فسقهم بتمام الآية وأعملهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله ومن وجوب محبته تمام طاعته وكما يقولون:
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
لتكن شريعته وسنته هي الطريق التي تختارها القلوب عقيدةً وتنطلق بها الأعضاء عملاً وليترسم كل مسلم طريقة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويحسن به الأسوة ويكون في ضميره وواقع عمله نعم القدوة يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (سورة الأحزاب الآية:21).
وهذه هي الثمار الطيبة للمحبة والطريق السوي للمحبين الذين يظفرون بصحبته يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ قوماً على أعمالهم حشر معهم يوم القيامة» وإن من لوازم المحبة الصادقة الملتزمة للطاعة وكمال الأسوة أن يبذل المحب ذات نفسه فداءً لإمامه وقائده وحمايةً للمبادئ التي خالطت قلبه وملكت مسالك فكره قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ (سورة التوبة الآية:120).
إن الإسلام ورسوله العظيم يتعرضان لحملة تشويه كبيرة وسوء فهم من مختلف وسائل الإعلام الغربية، فصدمة الرسوم الكاركاتيرية الفاحشة في صحف غربية فاجرة وتكريم «سلمان رشدي» صاحب رواية آيات شيطانية من ملكة بريطانيا وما أقبلت عليه «سويسرا» من منع إقامة المآذن مع أن المستقر عليه في دساتير العالم قاطبةً أن حرية العقيدة وأداء الشعائر الدينية وما يتعلق بها من مظاهر أمر مباح للإنسانية جمعاء، كل ذلك يكشف بجلاء عن التمييز الديني العنصري الذي هو صنوان للديكتاتورية الفكرية في الشأن الديني رغم تشدقهم بالحديث عن المساواة والتسامح وحقوق الأقليات وحرية الشعائر وحوار الأديان وحقوق الإنسان وقد صدق من قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفي على الناس تعلم
فاليوم نضح الإناء بما فيه وأبت خلائقهم إلا أن تطلق بأعناقها وبانت سوءاتهم وتجلى كذبهم وخداعهم وتبدي لكل ذي عينين نفاقهم وزيف شعاراتهم، وكانت حملات الانتصار لنبي الأمة ودين الإسلام في مختلف أقطار العالم الإسلامي وكان على الأمة أن تستثمر هذه الأحداث لمصلحتها وألا تكون أفعالها رد فعل فقط سريعاً ما تنطفئ جذوتها، فهذه فرصة لإيصال الإسلام إليهم وأن نكسبهم إلى جانب قضايانا، وأن نعيد لهم الصورة الحقيقية لهذا الدين العظيم وذلك بتوجيه الدعوة إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الطيبة، وتوضيح سيرة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإيضاح ما يكنه نبينا إلى إخوانه المرسلين وإلى أهل الكتاب، مع تخصيص صفحات يومية في وسائلنا الإعلامية على شكل ملاحق تخصص لعرض كامل لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد يكون ذلك سبباً لتهيئة المناخ لانتشار دعوة الإسلام إلى كثير من أصقاع الدنيا التي لم تعرف حقيقة هذا الدين العظيم وصفات نبيه الذي جاء رحمةً للعالمين.
سلام على المبعوث رحمةً للعالمين الذي جمع من الفضائل أكملها وأتمها وأحسنها ومن المواقف والشدائد ما جعله صاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود وخير قدوة لخير أمة ورّث البشرية كلها أشرف ميراث من الدين والفضيلة.. وقد صدق قول الحق تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التوبة الآية:128) اللهم اجعل من هذه الذكرى العطرة مشعل هداية وباعث خير وهادي بركة وسبيل عز ونصر للإسلام والمسلمين.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ، العدد : 4 ، السنة : 36