دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذة مه جبين أختر(*)
فوائد تلك الأمثال والحكم فيها
تبرز الأمثال المعقول في صورة المحسوس الذي يدركه العقل ببساطة وسهولة كما ضرب الله مثلا لحال المنفق رياء؛ حيث لايحصل من ذلك الإنفاق على شيء من الثواب فقال تعالى ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا/ البقرة:264﴾ فكما أن المطر على صخور أو أرض صخرية لايمكن الانتفاع منه وإنبات نبات على صخور جبلية مستحيل، هكذا المنفق رياء لاينتفع من جوده وإنفاقه مطلقا، بل يذهب كل ما أنفق هباء منثورا دون حاصل وجدوي.
وعلى عكس ذلك ضرب الله مثلا آخر للمنفق في سبيل الله مخلصا له نيته حيث يعود عليه ذلك الإنفاق بخير كثير فقال تعالى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ/ البقرة:261﴾. وكذلك يضرب المثل لمدح الممثل له كما ضرب الله المثلين لمدح الصحابة نقلا عن التوراة والإنجيل فقال تعالى ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ/ الفتح:29﴾ فكان حال الصحابة هكذا، فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلا، ولكنهم أخذوا في النحو وأصبحوا أقوياء تدريجيا حتى استحكم أمرهم فهزموا كفار جزيرة العرب ثم تجاوزوا حدود الجزيرة وامتدت قواتهم إلى الخارج فأبعدوا قيصر وكسرى من بلدانهما وتم استيلاؤهم وسيطرتهم على الشام ومصر وإيران واليمن حتى وصلوا إلى تركيا وعديد من دول افريقيا الشمالية وغيرها فامتلأت القلوب إعجابا بهم.
وعلى عكس ذلك هناك العديد من الأمثال ضرب الله انتقادا وهجوا وذما للكفار وأهل الكتاب وخاصة اليهود منهم فقال في سورة الجمعة تذميما وتذليلا لليهود ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لايهدي القوم الظالمين﴾.
ويتضح من هذا المثل أن الذي يتحمل كتاب الله ويعمل به ويقوم بتنفيذ أحكامه هو يجري كالفرس السابح، على عكس شخص أو قوم يحمّل المسؤولية لاتباع أوامر الله وأحكامه وتنفيذها، عن طريق رسل الله وكتبه ثم يتهرب ويتجنب عن تحمل تلك المسؤولية فهو يصبح كالحمار الذي يحمل أسفارا ومجلدات صخمة للعلوم والأحكام المؤولة والتفسيرات الخاطئة المحرفة دون الوصول إلى روح تلك الأحكام ودون الإدراك بما هو المطلوب من تلك الأحكام والأوامر.
ومع الأسف الشديد فقد أصبح حالنا هكذا، لقد ابتعدنا كذلك إدراك الروح الحقيقي والمعنى الصحيح لكتاب الله المنزل لنا، وأصبح معظم علمائنا كعلماء بني إسرائيل يقرءون المجلدات الضخمة والأسفار الكبيرة دون الوصول إلى أصول دين الإسلام وروح العقيدة ومطالبها الصحيحة، فلذلك صار وضع الأمة الإسلامية كوضع الأمم السابقة حتى أصبحنا غثاء كغثاء السيل.
وهناك أمثال أخرى ضربها الله تعالى في القرآن حول أهل الكتاب وخاصة عن اليهود، ويجب علينا دراستها في ضوء أوضاع المسلمين الحالية الراهنة للعبرة والاستفادة بها فقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال (لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ومن بين تلك الأمثال قوله تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا…/الأعراف:175، 176﴾ فهذا مثل يقال إنه ضرب لشخص كان يدعى بلعم بن باعور؛ ولكن في الحقيقة قد ضرب ذلك لكل قوم وشخص يكذب بآيات الله. وفي الحديث المذكور آنفا عدة نقاط هامة يجب أن نفكر حولها ومنها ما هو المقصود بكلمة جحرضب فهل دخل أحد من أهل الكتاب جحرضب أو ذلك مثل يضرب عاديا في العرب، وما هو المقصود بحذو النعل بالنعل في رواية وشبرا بشبر وذراعا بذراع في رواية أخرى، وكيف ينبغي أن يدرس هذا الموضوع علميا وتجريبيا، وكيف نقارن بين أوضاع الأمم السابقة في عصورها المختلفة في أيام ازدهارها وسقوطها ويتم ذلك في ضوء تعاليم الكتاب والسنة فإن كثيرا من الآيات والأحاديث تلقى الضوء على ذلك.
ومن بين الأمثال المذكورة مفصلة في القرآن الحكيم مثلان ضربهما الله للكلمة الطبيبة والكلمة الخبيثة فقال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ/ إبراهيم: 24-26﴾، وهناك فرق واضح بين الشجرة الطبيبة والشجرة الخبيثة، الأشجار الطيبة تزرع بالقصد والنية وتنمو بعد جهد وصيانة على خلاف ما يحدث بالنسبة للأشجار الخبيثة فإنها تنبث وتنمو بنفسها دون قصد وإرادة، ولا تؤتى ثمارها لينتفع بها شخص أو حيوان ومعظمها ذات أشواك ومذاق مر ولذلك قال تعالى إنها تنبت بنفسها وتذبل وتنتهي بنفسها وتجتث من فوق الأرض بسهولة ليس وراءها جهد وإرادة ومشقة مثلا السب والشتم والغيبة والنميمة والكذب هي تنبعث بنفسها تلقائيا في نفوس ضعيفة لاتنفع المجتمع ولا تحمل حكمة أو صلاحية لتُذكر وتُحلل وتكتب وتُسجل فمالها من قرار، بل هي تنبعث وتخرج من الأفواه ثم تنعدم وتتحلل بسرعة وسهولة، على عكس الكلمات الطيبة فإنها تحتاج إلى الدراسة والتعلم والتحليل والتفكير والتجربة ثم تنطق وتكتب وتسجل وتحفظ فهي تنفع السامع والقارئ، وفي كل مرة ولو بعد قرون وبعد آلاف السنين كشجرة طيبة تؤتى ثمارها كل حين وفي كل فصل، فإن أصلها وجذرها ثابت وفروعها عالية للغاية فهي لا تجتث من فوق الأرض، بل يتم الحصول على ثمارها بعد الطلوع والصعود على السوق والوصول إلى فروع تلك الشجرة وأفنانها وأغصانها.
والجدير بالذكر أن مفسري بعض الفرق الإسلامية وغيرها يعنون بالشجرة الطيبة المذكورة في هذه الآية أسرة الأنبياء الكبار مثلا أسرة سيدنا إبراهيم عليه السلام أو أسرة سيدنا يعقوب عليه السلام أو أسرة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم فيعتقدون أن جذور هذه الأسر ثابتة في الأرض ولكن فروعها وغصونها تصل إلى السماء فيقوم منهم رجال الإصلاح والخير حينا بعد حين. وعلى كل حال فإن الطيبة سبب للصلاح والبقاء والاستمرار والدوام وإن الخبث والشر سبب للفساد والفناء والانقطاع وعدم الاستمرار، فهذان المثلان واضحان غاية الوضوح يفهم كل شخص المقصود بهما ويستفيد من فحواهما.
وكذلك ضرب الله مثلا بشخص مملوك لايقدر على شيء من الإنفاق والقيام بأعمال الخير والفلاح للمجتمع، وبشخص آخر حر صاحب مال وخير فإنهما لايستويان في نشر الخير وبث الفلاح والصلاح في المجتمع، وكذلك ضرب تعالى مثلا بالرجلين أحدهما أبكم لايستطيع أن ينطق وأن يعرب عما يضمره في صدره، وأينما يرسله سيده لا يأتي بالنتيجة، وهناك شخص آخر يسيطيع الإعراب عن كل ما يريد ويضمر في قلبه وهو صاحب قدرة ونفوذ، فيقوم بتنفيذ أحكام الله وهو مهتد بنفسه لسواء السبيل ويمشي على الصراط المستقيم، ويهدي الآخرين إلى ذلك السبيل ويأمرهم بالعدل والحق، فإنهما لايستويان أبدا فقال تعالى بالنسبة للشخصين الأولين ﴿ضَرَبَ الله مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ/ النحل:75﴾.
وقال تعالى كذلك بالنسبة للشخصين الآخرين ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ/ النحل:76﴾.
وفي سورة النحل أيضًا أمر الله المسلمين بإيفاء عهودهم وبعدم نقض أيمانهم ثم ضرب مثلا بالمرأة العجوز التي كانت بمكة وكانت خرقاء للغاية، كانت تغزل شيئا ثم كانت تنقضها أنقاضا وتقطعها قطعا فهكذا لا تكونوا أيها المؤمنون حمقى بأن تعدوا وتحلفوا ثم تقوموا بنقض أيمانكم فتصبحون مثل تلك العجوز الخرقاء، فيضرب الله تعالى هذا المثل ويأمر المسلمين بتوكيد عهودهم وينهاهم عن أن يكونوا مثلها فيقول ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا/ النحل:91-92﴾.
وكذلك ضرب الله المثل في سورة النحل أيضًا حول وضع أهل مكة فإنهم كانوا في أمن ورخاء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يأتي لهم رزقهم من كل مكان، وكانوا في رفاهية وغنى من كل شر أو سوء ولكن حين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وقاموا بتكذيبه وإيذاء من آمن به بدل الله بأمنهم ورفاهيتهم الخوف والجوع فقال تعالى ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ/ النحل: 112-113﴾ فإن مكة كانت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لايخاف كما قال تعالى ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا/ القصص:57﴾ وبعد أن كفروا بنعم الله وأنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقاموا بإيذائه وإزعاجه فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف نتيجة كفرهم وجحودهم للحق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة ذهب الأمن والرفاهية من أهل مكة فلم يستقروا ولم يطمئنوا حتى حدثت عدة معارك ووقعت العديد من الوقائع والحروب بين كفار مكة والمسلمين المستقرين في المدينة حتى وقعت غزوة الأحزاب والخندق حاسمة وفاصلة بينهما وانهزمت الأحزاب من المشركين واليهود والمنافقين أمام قوة قاهرة لله الواحد القهار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إثر غزوة الخندق: الآن نغزوهم ولا يغزونا.
ومن أهم الأمثال وأضخمها المذكورة في كتاب الله ما ورد في سورة الكهف من محاورة الرجلين أحدهما كان غنيا ذا ثروة صاحب الجنتين، وكان الثاني فقيرا ولكن شكورا لأنعم الله وقنوعا على وضعه المسكين فجرى الحوار بينهما، فكان صاحب الجنتين معجبا بنفسه معتزا ومفتخرا ومستهزيا لوضع صاحبه الفقير، فقال له معتزا بنفسه ومكابرا عليه: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، ثم دخل جنته متمردا وكفورا لنعمة الله عليه قائلا إن هذه النعم كلها لن تفنى ولن تبيد نهائيا ولا أزال أتمتع بها للأبد وطيلة الحياة، وأين الساعة والموت؟ ولو حدثت وانتهت هذه الدنيا بالساعة لأجدن منقلبا أحسن من هذا عند ربي لأني من أحباء الله وأنت شخص فقير لا قيمة لك عند الله، فقال ذلك المسكين: أتكفر بخالقك الذي خلقك من نطفة حقيرة ثم سواك رجلا ذا قوة وثروة فإني لن أستطيع أن أشرك بربي أحدا ولن أكفر بأنعمه فيمكن أن يعطيني ربي أحسن جنة وأكثر ثروة منك، ثم حدث أن لم تثمر جنتاه في تلك السنة مطلقا، فتحسر ذلك المتكبر على خسارته المالية وخيبة مآله في ذلك العام، فأصبح قائلا يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. فذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة الكهف بغاية الإيجاز والإعجاز حيث يقول ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لاقُوَّةَ إِلا بِالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لله الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا / الكهف: 32-44).
ونعتقد بأن الحديث المذكور بعينه قد حدث مرة على الأقل فذكره القرآن ولكنه يحدث مرارا وتكرارا في كل زمان ومكان لأن هناك أشخاصا أثرياء وأشخاصا فقراء في كل بيئة وفي كل عصر، فالأولون يتفاخرون ويتباهون على الآخرين، ويستحقرونهم لأجل ثروتهم ونعيمهم ويدّعون بأنهم هم الصالحون العاقلون، وهذا يحدث ويتكرر دائمًا، وبعد فترة يتغير ذلك الوضع وربما ينعكس وينقلب فيتحول ذا ثروة الأمس من فقراء اليوم وفقير الأمس ثريّ اليوم ولكن الإنسان الجهول لايفكر ولا يعتبر، وفي عصرنا قد تدهور الوضع للغاية فأصبح الكفر والتمرد والعصيان رمزًا للثروة، وأصبح الإيمان أو الاعتقاد السليم الصحيح رمزا للبأساء والفقر، وطاغوت اليوم يتباهى ويتبجح على أهل الإسلام والإيمان، ويدعوهم إلى التمرد والعصيان فأصبح العدد الكبير من أهل الإسلام يعتقدون بأن الحياة المادية والرفاهية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة الدنيوية هي الأساس للفوز والفلاح فيجب عليهم دراسة سورة الكهف والاعتبار بقصصها وأحكامها وحكمها وعلى رأسها المثل المذكور فإن المسلمين في العالم هم كالرجل الفقير المذكور ههنا، والكفار هم أصحاب الجنتين وأصحاب الثروات الكبيرات الهائلات وهذه فتنة العصر.
وبعد ذلك ضرب الله تعالى مثلا آخر مباشرة يعظ المسلمين وينصحهم فقال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا/ الكهف: 45-46﴾ والهشيم بمعنى اليابس، وهكذا تحولت الأرض جنة للكافر وجحيما للمسلم، فينصح الله المؤمنين بأن المال والبنين زينة الحياة الدنيا الفانية، والأعمال الصالحة هي الخالدة الباقية وهي خير ثوابا وعاقبة.
وهكذا الأمثال القرآنية تحمل في طيها وضمنها معاني واضحة وأحكاما وحِكما نادرة نافعة في هذه الحياة وعقباها، فقد ضرب الله هذه الأمثال للترغيب والترهيب وللاتعاظ والاعتبار فيقول الله تعالى ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ / العنكبوت:43﴾. وقال تعالى كذلك ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ / الزمر:27﴾ وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا/ الكهف:54﴾.
وعلى كل حال فإن الأمثال القرآنية ليست أمثالا عادية بل إنها مملوءة بالحق والحقيقة والحكمة تحتاج إلى الدراسة الدقيقة والمعاينة المتكررة والتفكير العميق والتحليل المحايد، فنطلب من الله أن يوفقنا للاستفادة المطلوبة بها والاستنارة اللازمة اللائقة بها، وأن يفتح أبواب الحكمة والعلم لقراء كتابه الحكيم ودارسيه والمستفيدين به ولله الحمد أولا وآخرا.
* * *
* *
(*) رئيسة قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العثمانية، حيدر آباد، الهند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35