الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ جمال سلطان
الأدب هو وجدان الأمة، بمعنى كونه الوعاء الإنساني، الذي تصب فيه العصارة الروحية الوجدانية التي تفرزها كافة الفعاليات المكونة للبناء الاجتماعي، من دين وعقيدة، وتاريخ وتراث، وقيم خلقية وإنسانية، ومفاهيم ثقافية ومعرفية، ونظم تشريعية حياتية، إذ إن هذه الفعاليات تنصهر – تلقائيّاً – في وجدان الأديب المبدع، لتنعكس على نتاجه الفني، الذي يختزل لنا كل هذه المكونات المتعددة والمتشعبة، في معالجاته الإبداعية، من خلال الموقف أو الحديث، أو الرمز أو الاستلهام، أو حتى المعمارية الفنية للجنس الأدبي الذي يرتضيه.
ومن ثم، فقد برزت قضية الأدب، في الواقع الإنساني الجديد، لتحتل مكانتها الهامة والريادية، على مستويات عديدة، فمن جهة أصبحت تملك مكانتها الذاتية المتميزة، بوصفها تعبيرًا عن حاجات إنسانية روحية وفطرية خالدة، ومن جهة أخرى أصبحت تمثل أحد الروافد الأساسية والدقيقة، لمناهج البحث في العديد من العلوم الإنسانية، كعلم التاريخ، وعلم الاجتماع وعلم السلوك «الأنثر بولوجيا» وعلم النفس بتشعباته التخصصية المختلفة وغير ذلك من العلوم.
وهذه المكانة الجديدة والمتميزة للأدب، في المسار الإنساني الحديث، قد جلبت بطبيعة الحال، مزيدًا من الاهتمام بالأبحاث والدراسات المتعلقة به، وأصبح البحث الأدبي أكثر شمولية وأبعد غورًا، وأدق منهجاً، مما أنتج العديد من المفاهيم الجديدة لوظيفة الأدب، والقيم النقدية والفلسفية المرتبطة بذلك، بل أدى إلى ظهور مناهج جديدة للبحث الأدبي، فرضت نفسها على دراسات الأدب، وكراسيه في مختلف الجامعات الكبرى في العالم، وعلى رأس هذه المناهج الجديدة، منهج «الأدب المقارن».
والأدب المقارن منهج أدبي علمي بالغ الخطورة، أصبحت له مكانته المرموقة في اهتمامات الأمم المتقدمة، وله مجلاته المتخصصة، وله أيضاً جمعياته الدولية المشبوهة في أحيان كثيرة، مثل منظمة «حرية الثقافة»، التي كانت تشرف على اصدار مجلة «حوار» الأدبية اللبنانية في العالم العربي، «الجمعية الدولية لتاريخ الآداب الحديثة»، التي أسسها الفرنسيان «بالدنسبرحه»، و«فان تيجم».
ولقد أصبح لهذا المنهج الجديد، ميزانيات سخية، ترصدها العديد من الدول الأوروبية، بعضها يرصد من مؤسسات تابعة لوزارات الخارجية! وهذا كله مما يؤكد على خطورة هذا المنهج الجديد، الذي يهتم بدراسة آداب الشعوب المختلفة، ويبحث في تطورات تاريخها الأدبي، والمؤثرات الحضارية المختلفة التي توجه مساره، وترصد البناء النفسي للمجتمعات من خلال نتاجاتها الأدبية، وتحاول استخلاص خرائط «عقلية» و«نفسية» للمنوذج الإنساني في هذه المجتمعات، من غير أن تخفي أنها تهدف بذلك إلى التقريب بين الشعوب، أو التفاهم الإنساني، أو تذويب الغرور القومي، أو رفع لواء الإنسانية، وغير ذلك من الشعارات التي أصحت – كما لا يخفى – ذات حساسيات بالغة، و رصيد تجريبي مشبوه، في واقعنا المعاصر.
مطلب شرعي:
وإذا كان البحث العلمي الدقيق، والمتابعة المختبرية، قد برهنا على فعالية هذه الأبحاث الأدبية المقارنة، والقيمة البالغة، التي توفرها الجهود المبذولة فيها، من حيث القدرة على خلق جسر وجداني بين الأمم، يخترق خصوصيات حضارية وثقافية للأمم، وينقل مؤثرات متعددة، عقلية ونفسية وحضارية، وأيضاً من حيث القدرة على الكشف عن البناءات النفسية الدقيقة للمجتمعات، وغير ذلك من المردودات العملية الهامة.
فيمكننا أن نقرر – إذن – أن العمل على ايجاد «نهج للأدب الإسلامي المقارن»، هو مطلب اسلامي شرعي أصيل، وسوف لن تعوزنا النصوص المستفيضة، في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، التي تلفتنا إلى معان هامة، تحسم هذه المشروعية.
قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (سورة الحجرات/13)، فإذا كان الخطاب «بالتعارف» قد وجه «للناس» عامة، فكيف إذا كانوا أصحاب دين الله الواحد، وأبناء حضارة إنسانية مشتركة؟
وقد قال الحكيم العليم: «إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (سورة الحجرات/10) والأخوة، تقتضي وحدة الشعور – ضرورة – وهو ما يعبر عنه التشبيه النبوي الدقيق: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى «رواه مسلم».
والجسد، يقتضي «الحس المشترك»، الذي يربط أقصى أطرافه ببعضها، ويوحد المشاعر والأحاسيس.
ولعله من أدقّ التعبيرات عن هذه الحال، ما جاء في الحديث النبوي الشريف: «الارواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» رواه مسلم، فتعارف الأرواح ائتلاف وتناكرها اختلاف، فهل يبقى بعد ذلك ريب، لذي عقل وبصيرة، في حجم الخسارة التي يمكن أن تعود على الجسد الإسلامي الاجتماعي الكبير، من جراء إهمالنا هذا «الجسر الروحي والوجداني» الهام، والذي يربط بين شعوب الأمة، ومواطنها المختلفة، والذي يمثل منهج «الأدب المقارن» آلته العلمية الضابطة، والدافعة لفعالياته؟!
أهداف الأدب الإسلامي المقارن:
يمكننا أن نحدد ستة أهداف رئيسية لمنهج الأدب الإسلامي المقارن، نرى أنها كافية لشحذ الهمة نحو إنفاذ هذا المشروع العلمي الكبير.
الهدف الأول: وهو تعميق الشعور بوحدة الأمة المسلمة، بوصف ذلك مطلبًا شرعيًّا من جانب، ومن جانب آخر، بوصفه شرطاً ضروريًّا لأية نهضة حضارية إسلامية جادة وفاعلة وواعية.
الهدف الثاني: دراسة الظاهرات التاريخية المختلفة، التي مرَّ بها المجتمع المسلم، بدقائقها العميقة والخفية، وذلك من خلال المتابعة الفاحصة للنتاجات الأدبية المواكبة لتلك الظاهرات. وهي أحد ما يعرف لدى المؤرخين بـ«المصادر التاريخية المساعدة»؛ حيث تعتبر أدق المصادر تعبيرًا عن طبيعة الظاهرة التاريخية، لتميزها بالتلقائية والانفعال المباشر، البعيد عن التكلف والتركيب المنسق والمتعمد، الذي يشوب أعمال المؤرخين المحترفين.
الهدف الثالث: التعرف عن كثب، على خفايا علل التحولات الاجتماعية، التي واكبت مسار هذه المجتمعات المسلمة، والتي أنتجت – على الزمن – حالة التفتت والتشرذم .
الهدف الرابع: التعرف الدقيق على المسار النفسي والوجداني لمختلف شعوب الأمة، في لحظتنا الحضارية الراهنة، مما يمهد السبيل لترميم صدع البناء النفسي للمجتمع، في دقة وعمق، وبث روح الفاعلية نحو نهضة الأمة وبعثها.
الهدف الخامس: رصد الاختراقات التي أحرزتها الغزوات الثقافية والفكرية والأدبية، في فلكنا الثقافي والأدبي، بما يتيح لنا حصرَها من جانب، واستخلاص منافذها وأساليب عملها في التكوين العام للإنسان المسلم من جانب آخر، تمهيدًا لعلاج ذلك كله بصفة جذرية.
الهدف السادس: استثمار التنوع والتعدد الإبداعي وفق قاعدة حضارية واحدة في إثراء آداب شعوب الأمة، تمهيدًا لاحياء حركة نهضة عالمية للأدب الإسلامي، يتبوأ بها مقام الريادة في المجتمع الإنساني الكبير.
ملاحظات مؤسفة:
كثيرًا ما يتردد في ضمير الباحث المسلم سؤال، بعد طول تجواله في حركة الأدب الحديث، وارتباطات آداب الأمة بغيرها من الأمم، والسؤال هو: هل ثمة تواطؤ شيطاني مقصود ومنظم لعزل المشاعر الإسلامية عن بعضها، ومنعها أن تلتقي وتتفاعل؟ والا فما هو المنطق المعقول إنسانيًّا، الذي يبرر عمليات الإلحاح المستمرة على ربط الشعور الإسلامي مجزءًا بين شعوبه بمحورية المدنية الأوروبية وآدابها، المختلفة معه في القاعدة الحضارية، وفي الرصيد التاريخي، والنفسي والديني، في حين يفرض ستارًا من العزلة بين آداب هذه الشعوب وبعضها البعض، رغم اشتراكها في قاعدة حضارية واحدة، وتراث واحد، وتاريخ واحد، ودين واحد؟! بل أكثر من ذلك غرابةً، كيف يستوي في منطق العقول – ومن قبلها الضمائر – أن تكون معرفة المثقف العربي المسلم المعاصر – مثلاً – بشاعر الهندوس «طاغور»، أكبر وأدق من معرفته بشاعر الإسلام الكبير «محمد إقبال» وكلاهما من موطن واحد، وجيل واحد؟! هل هو تواطؤ مقصود وخفي، يهيمن على نشاطنا الأدبي والثقافي بوجه عام؟ والأمر لم يكن في شعوب الأمة المختلفة في نظامها اللغوي وحسب، بل كانت العزلة تفرض – ولما تزل – حتى على أبناء اللغة الواحدة، فقد حدث في أثناء الصراع الحضاري الشامل بين فرنسا وبين المسلمين في الجزائر والمغرب العربي، والذي كان الأدب العربي الإسلامي، يمثل أحد محاوره الهامة والخطيرة، حدث أن كان أدباء المشرق العربي – في ذلك الحين – يتنازعون أمرهم في أولويات التبعية الأدبية لهم، إلى المدرسة الانجليزية الأدبية، أم إلى المدرسة الفرنسية، كما كانت التراجم الأدبية والأسفار والبعثات على قدم وساق، في حين اختفى تماماً، أي أثر للواعج وآلام المسلمين وأدباء العربية في الجزائر والمغرب العربي، مما أفزع «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، فبعثت بكتاب إلى الصحف المصرية والمشرقية عامة، تذكرها فيه بـ«أن العربية لم تمت – بعد – في الجزائر المسلمة»؟!
ولا تزال هذه العزلة المشينة، مضروبة – إلى حد كبير – بين أدباء المشرق العربي وأدباء المغرب العربي، والصلات الأدبية لكليهما بتيارات الأدب الأوروبي، أوفر وأعمق، من صلاتهما – وهما أبناء الحضارة الواحدة – ببعضهما!
جهود مشكورة .. ولكن!
لا يمكننا في هذا المقام أن نغفل بعض الجهود المشكورة التي قام ويقوم بها أفراد تحرك فيهم الحس الحضاري الراشد، وحاولوا أن يقدموا لنا من خلالها إطلالة واعية على آداب الشعوب الإسلامية؛ لكن هذه الجهود، إذا قيست بحجم مثيلاتها التي نقلت إلينا تيارات الأدب الأوروبي، قديمه وحديثه على السواء بالغة الضعف.
ولا شك أن عبء البحث في هذا الميدان لا يتحمله الباحث وحده، وإنما تتحمله – وبقدر أكبر – المؤسسات الرسمية والشعبية في الدول الإسلامية، والتي من واجبها دعم الأبحاث، وتنشيطها أدبيّاً وماديًّا، وإتاحة المناخ الملائم للانطلاقة الكبيرة فيه، وذلك أن مثل هذه الأبحاث، تحتاج إلى الخطة المتكاملة، والمنهج العلمي المنضبط، والجهود المتضافرة والمنسقة، وذلك مما لا يغني فيه المجهود الفردي مهما كان حجمه.
إن منهج الأدب الإسلامي المقارن، ينبغي أن يتوجه إلى الدراسة الشاملة، لآداب الشعوب الإسلامية، فيبحث مراحل تطورها عبر التاريخ، وظاهراتها الفنية والموضوعية، ثم يبحث في «معمارية» العمل الفني الإبداعي، كقضايا «الرمز» الشعري، والأسطورة، والاستلهامات التراثية، محلية وعالمية، والموقف الأدبي، والحس الجمالي، والاتجاهات النفسية، والمذهبيات الاجتماعية، وجدليات التفاعل مع البيئة المحلية، ثم يتوفر – كذلك – على البحث النقدي التشريحي، فيبحث في مثل قضايا المرأة في الأدب، الغرب في الأدب، القضية الإسلامية، ونحو ذلك، حتى نستطيع أن نحقق الأهداف المرتجاه من هذا المنهج الجديد.
مقترحات وآمال:
ونستطيع – في الختام – أن نقدم بعض المقترحات والآراء التي خلصنا بها بعد جهدنا «المحدود» في تتبع مشكلات الأدب الإسلامي المعاصر:
أولاً: تأسيس كرسي تخصصي في جامعاتنا ومعاهدنا العليا، للأدب الإسلامي المقارن، غير مندمج في غيره، ككرسي الآداب أو اللغات الشرقية، حتى نتيح له أكبر قدر ممكن من التركيز والفاعلية.
ثانياً: وضع خطة إسلامية متكاملة، ومرتكزة على إمكانيات مادية مناسبة، لترجمة النتاجات الإبداعية الإسلامية المعاصرة، لتيسير انتقالها بين شعوب الأمة بلغاتها المختلفة، وكذلك ترجمة أبحاث ودراسات متخصصة، منتقاة حول هذه النتاجات.
ثالثاً: عرض نماذج مترجمة مختارة، لأدباء إسلاميين، قدماء ومعاصرين، من الشعوب الإسلامية المختلفة في مناهج الدراسة الثانوية – أو قانون الإلزام بوجه عام – لربط الشبيبة، بالمكونات الروحية الوجدانية لإخوانهم في الأقطار المختلفة، وهذا المطلب، تحرص على تحقيقه معظمُ الأمم الأوروبية، فطلبة المدارس الثانوية في فرنسا – على سبيل المثال – يدرسون كبار أدباء الغرب، من غير الفرنسيين، ويتعرفون على مدى ارتباطهم بالأدب الفرنسي، مع شرح نصوص أدبية مترجمة، وبيان معطياتها الحضارية الفنية.
رابعاً: تنشيط المنتديات الأدبية الإسلامية الجادة، واعدادها بصورة دورية، ورصد الجوائز التشجيعية، معنوية ومادية، للإبداعات الإسلامية الراقية، وفي هذا المجال يقع لوم كبير على كل من المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم «ايسيسكو»، والمنظمة العربية «اليسكو».
خامساً: إصدار مجلات متخصصة في الأدب الإسلامي المعاصر، تصدر بأكبر قدر من اللغات الإسلامية ذوات الانتشار، واللغات الحية الأخرى.
إنها دعوة مفتوحة، لأدباء الأمة ونقادها وباحثيها، ومفكريها وعقلانها ومخلصيها، لإثراء الحوار حول هذا المطلب الإسلامي الهام، وتعميق البحث في جوانبه المختلفة، وهي دعوة مفتوحة أيضاً، لحكومات الدول الإسلامية؛ لكي يقوم كل منا بقسطه المفروض من تنشيط ذلك الجسد الحضاري والإنساني الهام.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35