أنباء الجامعة
[ التحرير ]
في دورته العاديّة المنعقدة يومي السبت والأحد: 20-21/ شعبان 1432هـ = 23-24/يوليو 2011م انتخب مجلس شورى الجامعة أحدَ أبناء الجامعة القدامى فضيلة الشيخ أبا القاسم النعماني البنارسي حفظه الله رئيسًا لها.
واستبشرت الأوساط العلميّة والدينية كلُّها في شبه القارة الهنديّة بانتخابه فضيلته رئيسًا للجامعة نظرًا لإتقانه لجميع العلوم الشرعيّة وامتلاكه لمؤهلات الخطابة والكتابة، إلى جانب ما يُمَيِّز شخصيتَه بين العلماء المعاصرين المُتَخَرِّجِين من الجامعة من الصلاح والتقوى، ورزانة العالم الديني، و وقار الصالحين، والوجاهة الطبيعيّة التي فطره الله عليها، التي زادها بهاءً وسنًا وسناءً نورُ الورع والزهد الذي يعلو وجهَه بالسهر في الليل وإحياء الليالي ومناجاته ربَّه في خلواتها الهادئة. وقد أسْعَدَه الله بالزهد في الشهرة والظهور الكاذب، وخزنِ لسانه إلاّ فيما يعنيه، وتوزيعه الدقيق لأوقاته وشغلها كلها بما يرضي الله وينفعه وينفع الناس فيمكث في الأرض «وأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (الرعد/17) وهي العناصر والأرصدة الإيمانية والخلقية الأساسيّة التي لابدّ منها لأيّ عالم يتحمّل مسؤوليّة رئاسة وإدارة مثل هذه الجامعة الإسلاميّة الفريدة في العالم التي أُسِّسَتْ على التقوى من أوّل يوم، فأضفى الله عليها من المحبوبيّة مالم تُرْزَقْه أيّةُ مؤسسة تعليميّة في العالم سبقتها أو لحقتها في التأسيس. الزهدُ في الدنيا والرغبةُ في الآخرة إلى جانب التضلّع من العلوم الشرعيّة والإخلاص في العمل والسهر على مصالح الأمة الإسلاميّة وما إلى ذلك من المزايا هي التي كانت السلاح الأمضى الذي ظلّ يمتلكه كلُّ الذين تَسَلَّموا زمامَ رئاسة وإدارة هذه الجامعة التي تُعَدُّ المرجع الإسلامي الأكبر لمسلمي شبه القارة الهنديّة.
من هنا يُعَلِّق المسلمون في الهند عليه آمالاً كبيرة، ويَتَوَقَّعُون أن الجامعة ستشهد على عهد رئاسته ازدهارًا كبيرًا وتطورًا واسعًا على جميع الأصعدة التعليميّة والتربويّة والبنائيّة إلى جانب الحفاظ على روحها الدينية الفريدة الشاملة التي تُمَيِّزها عن جميع الجامعات الإسلاميّة في داخل الهند وخارجها، وهي التي ضَمِنَت لها المَرْجِعِيَّةَ والحبَّ والشعبيَّةَ والثقةَ المُطْلَقَةَ لدى الشعب المسلم في هذه القارة، الذي إليها يستند، وعليها يعتمد، وبها يَنْتَصِر في جميع المعارك، التي يخوضها فيما يتعلق بالعمل بالدين، والتمسّك بشعاره، والبقاء عليه، والإبقاء على شخصيته الدينية وهويّته الإسلاميّة.. وتلك الروحُ هي العبارةُ عن «الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند» التي سمعتُها المطبقةُ العجيبةُ لاترجع إلى سعةٍ في المباني، وشموخٍ في القاعات، وتَمَدُّدٍ في المحيط، وكثرةٍ في القباب والمنارات، لاتحظى بها هي – دارالعلوم/ ديوبند – بمثل ما يحظى به كثير من الجامعات العصريّة في الهند وخارجها. وإنما ترجع عظمتُها إلى روح التمسّك بالثوابت الدينية التي لاتقبل عليها أيَّ مساومة مهما كَلَّفَها ذلك ثمنًا باهظاً لايُحْتَمَل.
وبما أنّ فضيلة الشيخ أبا القاسم النعماني أمضى في الجامعة زمنًا غير قصير – مدة ست سنوات متتاليات – أيّام الدراسة فتَشَرَّبَ روحَها هذه، وتَخَرَّج منها وهو مصطبغٌ بصبغتها الدينية الأصليّة. وقد ظلّ أيّام التحصيل طالبًا مثاليًّا مُجِدًّا يُشار إليه بالبنان، لاجتهاده في الدراسة وانصرافه إليها عن جميع هموم الحياة ومشاغلها الكثيرة ومُغْرِيَاتِها المختلفة، إلى جانب ذكائه الموهوب الذي أعانه على الرسوخ في العلم واكتناه القضايا العلميّةِ بسرعة، والتقالط دقائقها بسهولة. وقد كانت مخايلُ السعادة تلوح على محيّاه زمنَ الدراسة، وتَفَرَّسَ فيه أساتذته وزملاؤه في الدراسة ومعاصروه مِن طلاب الجامعة الخيرَ والرشدَ، وتَكَهَّنُوا بأنّه سيكون له شأن يُذْكَر في مستقبل الأيّام. وكان أستاذه المربي الكبير ومُعَلِّمُ العربيّة العبقريّ فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي رحمه الله (المتوفى 1415هـ/1995م) يثق به كثيرًا ويحبّه حبًّا بالغًا ينمّ إعجابه بتلميذه السعيد وبصلاحه ونجابته وعكوفه على الدراسة، فعَيَّنَه أيّام الدراسة معتمدًا للنادي الأدبي الذي كان أكبر الاتحادات الطلابيّة في الجامعة، وكان حقًّا جامعةً داخل الجامعة، تأخذ طلابَها بجميع ما يحتاجون إليه في زمنهم الدراسي وفيما بعده إثرَ التخرج خلال خوضهم معركةَ الحياة التي لاينتصر فيها المرأُ بمُجَرَّد العلم الغزير يُتْقِنه، والذكاء الكبير يُوْهَب له، وإنما ينتصر فيها بكثير من الخِبَرَات الشاملة التي تُعَلِّمه كيف يُرَابِط على كل ثغر من ثغور الحياة وبأيّ أسلوب وأيّ سلاح يُجَابه المشكلات الحياتية. وقد كان فضيلة الشيخ النعماني موضعَ حبّ جميع طلاب الجامعة، من خلال تعامله الحسن معهم، يجانب طلاقة وجهه، ولين جانب، ومُحَيَّاه الوضّاء، الذي كانت ترقص عليه دائمًا ابتساماتٌ عريضةٌ لاتنتهي، فلم يُرَ قطُّ مُقَطَّبَ الجبين عَابِسَ الوجه، ولم يُعْرَفْ عنه إعجابٌ بالنفس أو «نَرْجَسِيَّة» يُصَاب بها كثيرٌ من الطلاب المُجِدِّين الذين تنقصهم السعادة الطبيعيّة والصلاح الصادق والتوفيق الإلهي الذي يضمن السدادَ ويُجَنِّب «سكرَ الانتصارات». وقد كنّا من الطلاب المُعْجَبين به وبصلاحه، وإعجابُنا لم يكن نابعًا من فراغ، وإنما كان مصدرَه تجربتُنا له عن كَثَب؛ حيث تَعَلَّمْنا عليه وهو طالب بقسم الإفتاء بالجامعة مبادئَ اللغة العربيّة الحديثة؛ إذ نَدَبَه لذلك أستاذنا وأستاذ الجيل فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانويّ رحمه الله؛ حيث كان يندب للتدريس بـ«الصف الابتدائي العربيّ» أحدَ تلاميذه المُجِدِّين المُتْقِنِين الصالحين النُّجَبَاء، الذي يقع عليه خِيَارُه، وقد كان رحمه الله يَتَمتَّع ببصر دقيق بالرجال، فكان اختيارُه لأحد لمُهِمَّةٍ ما دليلاً على أنه يمتاز عن غيره في الصفات التي لابدّ منها للقيام بالمهمة.
وقد اتّصل حبلُه اتصالاً قويًّا مباشرًا بالشيخ الكبير المحدث الجليل شيخ جيلِ الصلحاء في العصر الأخير في الهند محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي رحمه الله المهاجر إلى المدينة المنورة والمتوفى بها والمدفون بجنة البقيع (المتوفى 1402هـ/1982م) ليتربّى عليه في التزكيه والإحسان، وكان آنذاك طالبًا في صف «مشكاة المصابيع» في الحديث وهو صفّ يُعْتَبَرُ موقوفًا عليه لصف «دورة الحديث الشريف» الذي يجري فيه في الجامعة تدريسُ جميع دواوين الحديث المعروفة من الألف إلى الياء بما فيها كتب الصحاح الستة. مما يدلّ على الصلاح الذي فُطِرَ عليه والذي دعاه إلى الاتصال المباشر بهذا الشيخ الكبير وملازمته حتى يتعلّم آدابَ العبادة ويتذوّق الذكرَ والتلاوةَ ويتعلّم سليقةَ الاِطِّراح على عتبة الرحمن، التي يبقى مُتَعَرِّيًا عنها كثيرٌ ممن يتعلمون فقط حرفَ العلم ولا يُوَفَّقُون ليتشرّبوا روحَه التي إنما هي عبارة عن العمل وتذوّقه واعتياده بحيث إذا فاته حينًا يتململ تململ السمك أُخْرِجَ من الماء.
ثم اتّصل وهو طالب بقسم الإفتاء بالجامعة بأحد العلماء الصلحاء المتخرجين على الشيخ محمد زكريا وهو الشيخ الصالح الورع الزاهد المفتي الأكبر بالجامعة محمود حسن الكنكوهي رحمه الله (المتوفى 1417هـ/ 1996م) لأنه رأى أن صحبة هذا العالم الصالح وملازمتَه أسهل عليه من صحبة وملازمة الشيخ محمد زكريا؛ لأن الشيخ محمود كان أستاذه في الإفتاء في الجامعة، فكان مستأنسًا إليه كثيرًا، وعليه تخرج وتربّى في الصلاح والإحسان والعبادة، حتى صار شامًّا بين العلماء الصالحين في الهند عمومًا والعلماء الورعين المنتمين إلى الشيخ المربي المفتي محمود حسن خصوصاً.
تخرج الشيخ النعماني من الجامعة وبيده سلاحا العلمِ والصلاحِ، فخاض معارك الحياة بنجاح أيِّ نجاح، بَدَأَ حياتَه العمليّة الميدانيّة مدرسًا في إحدى المدارس الكبرى بمدينته العريقة «بنارس» Banaras التي سُمِّيت رسميًّا منذ سنوات بـ«وارانسي» Varanasi وشمسُ صيته ترتفع بسرعة غير عاديّة في كل من مجالات التدريس، والكتابة والخطابة، والتزكية والإصلاح؛ فصار من الفقهاء المُتْقِنِين، والمُحَدِّثِين الموثوق بهم، والكتاب البارعين باللغة الأرديّة ذوي الأسلوب المنفرد، والخطباء المَصَاقِع في موضوعات الدين. أمّا بالنسبة إلى الإصلاح والتزكية فقد عُرِفَ بأنه أحد العلماء الصالحين المُرَبِّين في الهند، وموضع حبّ وتقدير لدى جميع الصالحين في شبه القارة الهندية. وظلنا نُسَرّ سرورًا لا حدَّ له ونحن نسمع عن سُمْعَتِه الطيبة، وشهرته الواسعة، وجَدِّه الصاعد، وحَظِّه السعيد ونحن – المعاصرين له في الدراسة في الجامعة – نعمل أساتذةً في شتى مدارس الهند، حتى صار كاتب السطور أستاذًا بالجامعة وصيتُه الطيِّب يقع باستمرار في أذنيه وآذان جميع معارفه من العلماء، إذ سمعنا عام 1991م/ 1411هـ أنه انتخب عضوًا في مجلس شورى الجامعة وفي مجلسها التنفيذي، فقلنا: إن الرجل المناسب وُضِعَ في المكان المناسب وأن المنصب الرفيع عُيِّن له من هو مُؤَهَّلٌ له وجدير به، وقد أَجْمَعَ أعضاءُ المجلسين على أنه وَفَّى حَقَّهما من الخدمة، وظلّ موضع ثقتهم وتقديرهم بل إعجابهم، حتى جرى على ألسنتهم وألسنة أساتذة ومنسوبي الجامعة أنه مهما كان أصغر سنًّا من عدد من أعضاء المجلسين؛ ولكنه أكبر علمًا وفهمًا و وقارًا وصلاحًا من كثير منهم، ولكونه كاتبًا قديرًا وُكِّل إليه وحده، منذ انتخب عضوًا في مجلس شورى الجامعة، كتابةُ تقارير جميع دورات المجلس؛ لأنّه يعرف مكانَ الإيجاز والإطناب، وقيمةَ الكلمة وقامتَها، وموضعَ استخدامها، وأسلوب الصياغة الدقيقة التي بها وحدها تُعْرَفُ رفعةُ كتابةٍ ما و ضَعَتُها.
من ثم عندما تُوُفِّي رئيس الجامعة الرجل الصالح فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن رحمه الله يوم الأربعاء: غرة/ محرم 1432هـ = 8/ديسمبر 2010م تَطَلَّعَ العلماءُ المحبون للجامعة من الصلحاء والمتضلعين من علوم الشريعة إلى أن يُقَلَّد منصبَ رئاسة الجامعة الشيخُ النعماني؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس هناك عالم مُنْتَمٍ إلى الجامعة أو مُتَخَرِّجٌ منها أو مُحِبٌّ لها حريصٌ على خدمتها أجدرَ منه بهذا المنصب وأكثرَ أهليَّةً له منه، ولذلك بَادَرَ أعضاءُ مجلس شورى الجامعة إلى تعيينه قائمًا بأعمال رئاسة الجامعة في مساء 2/محرم = 9/ديسمبر، وقد شغل حفظه الله المنصب عن أهليّة سُجِّلت، ليوم 4/صفر 1432هـ = 9/يناير 2011م؛ حيث عقد المجلس الاستشاري للجامعة دورته العاديّة في 5-6/صفر = 10-11/ يناير، وعَيَّنَ الأعضاءُ بالأغلبية فضيلة الشيخ غلام محمد الوستانوي رئيسًا للجامعة، وشغل فضيلة الوستانوي المنصب ليوم 23/فبراير = 19/ ربيع الأول، ثم عقد مجلس شورى الجامعة اجتماعًا طارئًا له في اليوم المذكور: 23/ فبراير = 19/ ربيع الأول، واختار فضيلة الشيخ النعماني قائمًا بأعمال رئاسة الجامعة مُجَدَّدًا، واستمرّ فضيلته يقوم بمسؤوليته هذه ليوم السبت: 20/ شعبان 1432هـ = 23/ يوليو 2011م؛ حيث عقد المجلس دورته العادية يومي السبت والأحد: 20-21/ شعبان = 23-24/ يوليو، وأقال فيها فضيلةَ الشيخ الوستانويَّ من منصب الرئاسة، واختار فضيلةَ الشيخ النعماني رئيسًا للجامعة مستقلاً ذا صلاحيَّات كاملة؛ لأنّه رأى أن الأخير أقدر على إدارة مثل هذه الجامعة العريقة التي مضى على تأسيسها قرن ونصف قرن، والتي كانت الوسيلة الوحيدة بعد الله عز وجلّ للإبقاء على الكيان الإسلامي في الهند؛ حيث حالت دون تكرار ما حَدَثَ للمسلمين في «إسبانيا» وأَفْشَلَ محاولات الاستعمار الإنجليزي للقضاء على الإسلام والمسلمين في هذه الديار الواسعة التي حَكَمَها المسلمون وَحْدَهم نحو ألفِ سنة، وطَزَّوا حواشيَها بالفضائل والمكرمات والبطولات، والحضارة والمدنيّة الإسلاميّة.
ويحلو لنا بهذه المناسبة أن نثبت فيما يلي موجزًا من ترجمة حياة فضيلة الشيخ النعماني البنارسي حفظه الله في ضوء ما أفادنا به فضيلته:
هو (فضيلة الشيخ) أبوالقاسم بن محمد حنيف بن المقرئ نظام الدين، وُلِدَ يوم 14/ يناير 1847م الموافق 22/صفر 1366هـ بحيّ «مدنبوره» Madanpura أحد أحياء مدينة «بنارس» Banaras وسُمِّيَت المدينة فيما بعد بـ«وارانسي» Varanasi ، والحيُّ أغلبيّةُ سكانه مسلمون؛ فهو ذوثقافة إسلاميّة، وهو ثالث أبناء أبويه؛ حيث وُلِدَ لهما قبله شقيقان له، مات أولهما رضيعًا، وثانيهما: أبوالهاشم لايزال حيًّا يُرْزَق، وللشيخ النعماني شقيقان آخران وشقيقتان أخريان، وكلّهم أحياء يمارسون نشاطهم في الحياة. أما والداه فقد سبق أن تُوُفِّيا رحمهما الله تعالى.
وكانت العادة في بيته في الأغلب الاكتفاء بالدراسة الابتدائية، وكان حفظه الله هو الأول الذي تجاوزها إلى ما فوقها وأكمل المشوار التعليميّ بتوفيق الله عز وجل، وقد أنهى الدراسة البدائية في بيته على والدته وعلى جدّه من الأب الشيخ المقرئ نظام الدين، وكانت الدراسة مشتملة على القاعدة البغدادية لتعليم حروف الهجاء الأبجدية العربية مفردة ومركبة والقرآن الكريم بالنظر ومبادئ الأردية والحساب وما إلى ذلك. وكان الجد الشيخ نظام الدين مقرئًا بارعًا، وخطّاطاً مُتْقِنًا، عاش صحبةَ العلماء الصالحين، حريصًا على الدراسة والمطالعة، وكان يهتمّ بالتربية الدينية وكان يأخذ بها أبناءَ الأسرة كلهم، فكان له سلطة دينية عليهم جميعًا.
بعد المرحلة المذكورة من الدراسة التحق بمدرسة قديمة في حيّه قامت عام 1900م/1318هـ اسمها «جامعة إسلامية مدنبوره» وبدأ فيها دراسته من الصف الثاني للمرحلة الابتدائية النظاميّة. بعدما اجتاز الصف الرابع من المرحلة الابتدائية بعلامات ممتازة تطلع أبناء أسرته والمسؤولون في المدرسة أنه يَتَأَهَّل أن يستمرّ في الدراسة في المرحلة التالية وهي مرحلة الدراسة العربيّة، فأُلْحِق بالصفوف الفارسيّة التي لابدّ من اجتيازها في الديار الهنديّة لبدء الدراسة العربيّة، ثم دخل الصف الأوّل من الدراسة العربيّة. وبعد ذلك انتقل إلى مدينة «مئوناث بهانجان» Mau Nath Bhanjan إحدى المدن الشهيرة بالجزء الشرقي من ولاية «أترابراديش» والتحق بمدرستها الشهيرة بـ«دارالعلوم مئو» وانتظم في الصف الثاني من الدراسة العربيّة؛ ولكنه عندما علم أنه فاتته دراسة بعض الكتب المدرجة في مقررات الصفّ الأول من الدراسة العربيّة حسب المنهج الدراسيّ في هذه المدرسة، هبط برضى من نفسه إلى الصف الأول من الدراسة العربيّة مما أعانه بشكل ملموس على إتقان أهليّته؛ حيث أعاد دراسة كتب النحو والصرف والتمرن على قواعدهما، الأمر الذي جعله يفوز في امتحانات جميع المراحل الدراسيّة بالدرجة الأولى، بل فاز في الامتحان النهائي للصف الأخير من الدراسة العربية الشرعية، المعروف بـ«دورة الحديث الشريف» بالمركز الأول وبعلامات ممتازة؛ لأن التمكن من قواعد العربية ومبادئها هي الركيزة الأساسيّة للتعمق في جميع الفنون التي يدرسها الطالب من الصف الأول إلى الصف الأخير من مراحل التعليم الديني الشرعي العربيّ لدينا في شبه القارة الهنديّة. وبعدما اجتاز الصف الثاني العربي حدث هناك ثورة في هذه المدرسة لخلافات بين المسؤولين فيها، فغادرها إلى مدرسة أخرى بالمدينة اسمها «مفتاح العلوم مئو» والتحق بها عام 1381هـ وانتظم في الصف الثالث من الدراسة العربيّة. وبما أنّه كان قد قَرَّرَ أنه سيرتحل منها بعد اجتياز الصف الثالث إلى «الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند» فأتم خلال مكثه بها دراسةَ بعض الكتب الأخرى التي كانت مدرجة في مقررات الصف الرابع الذي كان يودّ الالتحاق بها – دارالعلوم / ديوبند – فيه، حتى لاتضيع سنة من سنواتها الدراسيّة.
على كلّ ففي شوال 1382هـ التحق بالجامعة – دارالعلوم / ديوبند – في صف «كنز الدقائق» – كتاب شهير في الفقه الحنفي – وقد كان من سعادته أن عامه الدراسي الأول بالجامعة كان العام المائة للجامعة؛ حيث أسست يوم 15/ محرم 1283هـ ففي 15/ محرم 1383هـ كان قد مضى على تأسيسها مائة عام. وكان العام الدراسي الأول الذي أمضاه فضيلة الشيخ النعماني هو عام 1382-1383هـ، لأن العام الدراسيّ في الجامعة وفي جميع مدارس وجامعات شبه القارة الهندية الأهلية الإسلامية يبتدئ من شوال وينتهي في شعبان.
في شعبان 1387هـ اجتاز الشيخ الامتحان النهائي لنيل درجة الفضيلة في الشريعة الإسلاميّة، وهو امتحان الصف الأخير من الدراسة العربيّة الذي يُعْرَفَ في شبه القارة الهندية بـ«دورة الحديث الشريف» وفاز في الامتحان بالدرجة الأولى وبالمركز الأول؛ حيث نال 485 علامة من مجموع 500 علامة، علماً بأن السقف النهائي للعلامة في كل كتاب أو مادة كان أيامئذ خمسين (50) ولم تكن مائة (100) كما هو المُتَّبع بشأن العلامات في جميع الجامعات والمدارس الرسميّة في الهند وفي العالم كله. والجدير بالذكر أن الجامعة أيضًا قَرَّرَتْ ونَفَّذَتْ ماهو المُتَّبَعُ في العالم، فَحَوَّل الخمسين إلى المائة بدءًا من الامتحان النصف السنوي للعام الدراسي 1431-1432هـ الموافق 2010-2011م .
وقد أمضى حفظه الله العام الدراسي التالي منذ شوال 1387هـ حتى شوال 1388هـ المشتمل على 12 شهرًا كاملاً في الجامعة ملتحقًا بقسم الإفتاء والتدريب على استخراج المسائل والإجابات الفقهيّة عن الاستفتاءات الواردة من أرجاء العالم إلى الجامعة. وأثبت في هذا القسم هو الآخر، باجتهاده في الدراسة، وإطاعة أساتذته، ومواظبته على القيام بالمسؤوليات الدراسيّة إلى جانب حفاظه على العبادات والفرائض الشرعيّة أنه طالب مثالي، وأن مجال خدمة الدين والدعوة ينتظره بفارغ الصبر. وقد صَدَّق عملُه ونشاطُه فيما بعد أن تكهنات الأساتذة والزملاء بشأن مستقبله الزاهر كانت صائبةً مائة في المائة.
والجدير بالذكر أن العهد الذي تعلّم فيه الشيخ النعماني في الجامعة كان خيرَ العهود الأخيرة بالنسبة إلى عهدنا هذا الذي تفتقد فيه مُعْظَمَ ما كانت تتمتع به من الخيرات والبركات ومُقَوِّمَات السعادة الغامرة؛ فقد كان يرأسها آنذاك العالم الهندي الفريد المقرئ محمد طيب (المتوفى 1403هـ/1983م) حفيد مؤسسها الإمام حجّة الإسلام في هذه القارة الشيخ محمد قاسم النانوتوي رحمه الله (المتوفى 1297هـ/1880م).
وكان الشيخ محمد طيب قد جَمَعَ الله فيه المزايا الكثيرة التي لايجمعها إلاّ في عالم عامل يريد به خيرًا، ويريد أن يظهر على يديه الخير الكبير ويقيضه لأداء مهمة جليله.. المزايا التي ظل يتوارثها أخلاف مشايخ الجامعه من أسلافهم، من التعمق في الكتاب والسنة، إلى الصلاح المضروب به المثل، إلى مؤهلات الخطابة والكتابة الفذة، إلى مواهب تبليغ الدعوة والرسالة، إلى لسان ذرب بليغ في الخطاب والموعظة وشرح رموز الدين وطرح قضايا الكتاب والسنة، إلى مكارم الأخلاق التي يسع بها المسلمُ جميعَ الناس، إلى الحلم والكرم الذي يفتح به أقفال القلوب.
وكان رئيس المجلس التعليمي أيامئذ العالم الفطن الذكي المحدث المتفقه الشيخ العلامة محمد إبراهيم البلياوي رحمه الله (المتوفى 1387هـ/1967م) المضروب به المثل في قوة الذاكرة والذكاء غير العاديّ، الذي كان يحلّ به مسائل علمية عويصة بإشارته البارعة ونكته الدقيقة، وكان يتكلم في الفصول الدراسية دائمًا بكلمات قليلة المباني كثيرة المعاني، وكان مهوى أفئدة الأذكياء العباقرة من تلاميذه وتلاميذ الجامعة كلهم. وكان يتبَاهى كلُّ من يتعلم أو يستفيد منه بأنه تعلّم على العلامة البلياوي.
وكان يرأس شياخةَ الحديث أيامئذ في الجامعة المحدث العبقري الأخير في الجامعة الشيخ فخر الدين المراد آبادي رحمه الله (المتوفى 1392هـ/1972م) الذي كان حقًّا حلقة أخيرة في السلسلة الذهبية لمشيخة الحديث في الجامعة التي ابتدأت بمؤسسها الإمام محمد قاسم النانوتوي ثم زميله ومعاصره ومُسَاكِنه في بلدته وابن أستاذه أعني الشيخ محمد يعقوب النانوتوي (المتوفى 1302هـ/1884م) وتلميذ الإمام النانوتوي الشيخ محمود حسن المعروف في الديار الهندية بـ«شيخ الهند» (المتوفى 1339هـ/1920م) وتلميذ الشيخ محمود المحدث الكبير الجليل العلامة محمد أنور شاه الكشميري (المتوفى 1352هـ/1933م) الذي كان حقًّا كمكتبة متنقلة، وتلميذه الآخر الشيخ العالم الصالح المجاهد بمعنى الكلمة السيد حسين أحمد المدني المعروف بـ«شيخ الإسلام» (المتوفى 1377هـ/1957م).
وكلّ من أعقبه – الشيخ فخر الدين أحمد المراد آبادي – لم يُدَانِه في العلم والفضل والدراية الحديثية والمكانة الكبيرة المرموقة التي كان يحتلها في الشرح والتقريب لمواد الحديث إلى تلاميذه.
وقد سَعِدَ الشيخ النعماني التلمذ على هذه الشيخ الكبير وعليه قرأ صحيح البخاري بجزئيه كما قرأ صحيح مسلم والترمذي على الشيخ العلامة محمد إبراهيم البلياوي، وجامع الترمذي أيضًا. وكان من أساتذته الآخرين في الجامعة في الحديث وغيره من الفقه والتفسير وعلوم الشريعة والعربية: الشيخ فخرالحسن المراد آبادي (المتوفى 1400هـ/1980م)، والشيخ شريف الحسن الديوبندي (المتوفى 1397هـ/1977م) والشيخ معراج الحق الديوبندي (المتوفى 1412هـ/ 1991م)، والشيخ إسلام الحق الأعظمي (المتوفى 1392هـ/1972م)، والشيخ عبد الأحد الديوبندي (المتوفى 1399هـ/1978م)، والشيخ محمد حسين المعروف بـ«مُلاَّ البيهاريّ» (المتوفى 1412هـ/1992م) والشيخ السيد أختر حسين الديوبندي (المتوفى 1397هـ/1977م)، والشيخ نصير أحمد خان البلند شهري (المتوفى 1431هـ/2010م)، والشيخ وحيد الزمان الكيرانوي (المتوفى 1415هـ/ 1995م) والشيخ السيد أنظر شاه الكشميري (المتوفى 1429هـ/ 2008م) والشيخ سعيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (المتوفى 1406هـ/1986م) حفيد الشيخ الكبير الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي (المتوفى 1323هـ/1905م) زميل الإمام محمد قاسم النانوتوي (المتوفى 1297هـ/1880م) في الدراسة، والشيخ خورشيد عالم الديوبندي حفظه الله، والشيخ بهاء الحسن المراد آبادي رحمه الله (المتوفى 1398هـ/1978م)، والشيخ محمد هارون الديوبندي رحمه الله (المتوفى 1403هـ/1982م)، والشيخ المقرئ حفظ الرحمن رحمه الله (المتوفى 1388هـ/1968م) رئيس قسم التجويد والقراءات بالجامعة أيامئذ، والشيخ امتياز أحمد نسيمي رحمه الله الذي تعلّم عليه تحسينَ الخطوط العربية والأرديّة.
العهدُ الذي تَعَلَّمَ فيه الشيخ النعماني في الجامعة، كان أزهر العهود في حياة الجامعة بالنسبة إلى اللغة العربيّة التي تبنّى تعليمَها ونشرَها وتحبيبَها إلى جميع طلاب الجامعات الأهلية في شبه القارة الهندية على اختلاف مراحل تعليمهم أحد أبناء الجامعة التي وهب له الله عزّ وجل عبقريّة خاصّة وأسلوبًا ساحرًا فريدًا لتعليمها ونشرها وإحيائها على جميع الأصعدة الكتابيّة والخطابيّة وهو فضيلة الشيخ وحيدالزمان القاسمي الكيرانوي رحمه الله؛ فعاد محيطُ الجامعة كلها يُدَوِّي بهتافها، ويزدان بأنشطة مُكَثَّفة مبذولة لدراستها وتدريسها كلغة حيّة تُلَبِّي جميع الحاجات المتجددة ومقتضيات كل عصر ومصر متزايدة.
فلم يكن غريبًا أن يُعَدَّ غريبًا كلُّ طالب لاينضمّ إلى ركبها، ولم يكن للطالب المثالي مثل الشيخ النعماني أن يستغني عن هذه الأنشطة المباركة، فدخل الصفَ الأوّلَ من الصفوف الثلاثة التي كان قد نَظَّمَها الشيخ الكيرانوي لتعليمها على طريقته التي ابتكرها هو، بعد التحاقه بالجامعة بسنتين، وفي العام التالي دخل الصف الثاني، وفي الذي تلاه دخل الصفَّ الثالث النهائي الأخير الذي كانت تنضج فيه أهليّة الطلاب بالنسبة للغة العربيّة نطقًا وكتابة. وفي اللغة العربية أيضًا كان الشيخ النعماني من الطلابين المُبَرِّزين، فقُلِّدَ عام «دورة الحديث الشريف» – الذي يكون أكثر الأعوام الدراسيّة ازدحامًا بالمشاغل الدراسيّة – منصب «معتمد النادي الأدبي» الذي كان بدوره يتطلّب التفرّغ للقيام بمسؤوليّاته المُتَشَعِّبَة اللامحدودة التي كان يباشر الإشرافَ عليها ورعايتها بنفسه فضيلة الشيخ الكيرانوي الذي كان مضرب المثل في المحافظة على الأوقات، والتقيد بمواعيد العمل وأخذه طلابَه بالتقيد بها، وكان مُتَّقِد الذهن، مُتَيَقِّظ الفكر، مُرْهَفَ الحسّ، مُتَأَنِّقًا في كل ما يحب ويكره ويأتي ويذر؛ فكان العمل تحت إشرافه والقيام بالمسؤوليات الباهظة المترامية تحت رعايته عملاً شاقًّا للغاية لم يكن ليقوم به إلاّ مثل الطالب الموهوب أبي القاسم النعماني البنارسي الذي حاز ثناء أستاذه العبقري الذي كان يُحَبِّذه ويشيد بمواهبه عبر الحفلات الطلابيّة الحاشدة، ويُقَدِّمه دليلاً على أن من يُتْقِن العربيّة يَتَخَرَّج أقدرَ على استيعاب العلوم والفنون وجميع المواد الدراسيّة التي يجري تدريسُها في المدارس والجامعات الأهليّة الإسلاميّة في شبه القارة الهنديّة؛ فقد فاز الشيخ النعماني في جميع الامتحانات التي أدّاها بالدرجة الأولى وفاز في امتحان «دورة الحديث» – وهي الصف النهائي الأخير لنيل شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية – بالدرجة الأولى وبالمركز الأوّل.
وقد أسلفنا أنه اتّصل للتخرج في فن الإحسان والتزكية بالشيخ الكبير المحدث زكريا بن يحيى الكاندهلوي. وذلك عندما كان طالبًا بالجامعة في صف «مشكاة المصابيح» – كتاب معروف في الحديث الشريف – ولكنّه أكثر من صحبة الشيخ المفتي الأكبر بالجامعة الشيخ محمود حسن الكنكوهي رحمه الله وتخرج عليه في هذا الفن، لأن الجلوس إليه والاستفادة منه كانا مُيَسَّرين له جدًّا؛ لأنه كان أستاذه في الفقه والإفتاء والتدريب على استنباط المسائل الفقهية والردّ على الاستفتاءات.
وبعد ما تخرج من «الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند» حاملاً شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية وشهادة المفتي، عُيِّنَ أستاذًا بمدرسة معروفة بمدينته «بنارس» اسمها «جامعة إسلامية بنارس». وذلك عام 1969م/ 1389هـ. واستمر يقوم بالتدريس فيه حتى عُيِّن رئيسًا لـ«جامعة دارالعلوم/ ديوبند» فترك التدريس في تلك المدرسة مُرْغَمًا؛ لأنها تبعد عن مدينة «ديوبند» بمسافات شاسعة. وقد تشرف بالحج والزيارة لأول مرة عام 1991م/1411هـ – ثم سعد بأداء الحج والعمرة مرات عديدة – وفي العام نفسه انتخب عضوًا في مجلس شورى الجامعة وإلى ذلك ظلّ يساهم في الأنشطة الدينية والاجتماعيّة في وطنه «بنارس» وأسس جمعيّة باسم «إصلاح المسلمين» جمع تحت لوائه الشباب الإسلامي الحريص على خدمة الدين والمجتمع، ورغّبهم في القيام بالأعمال الإنسانية والخيريّة. كما ظلّ يساهم ويقوم بأنشطة اجتماعيّة عامّة تنصبّ في خدمة الأمة المسلمة وخدمة الوطن من على منبر جمعيّة علماء الهند التي ظلّ مسؤولاً كبيرًا في فروعها المحليّة والإقليمية، وفي مقرّها بدهلي.
وقد وُلِّي مسؤولية رئاسة «دارالعلوم ديوبند» وهي مسؤولية باهظة بجميع معاني الكلمة، وقد جاوز 66 من عمره، ويعاني من عوارض الشيخوخة الطبيعيّة التي تقتضي الراحة والاستجمام.
أعانّه الله، و وَفَّقَه، وسَدَّدَ خطاه، وكان نصره حليفَه في كل عمل يرضيه ويُطَوِّر «دارالعلوم» على الأصعدة كافّةً، حتى يُتَاح له أن يحقق جميع الآمال التي يُعَلِّقها عليه المسلمون في شبه القارة الهندية والعالم كلّه، بصفته رئيسَ هذه الجامعة العريقة التي هي مهوى أفئدة المسلمين في هذه القارة. وهو تعالى نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35