إشــــراقـــةٌ

       في الأغلب ينفع الذكاءُ صاحبَه وغيرَه، كما تنفع الأهليّةُ والفعّاليّةُ، والأداءُ الحسن وقدرةُ الإتقانِ، وما إلى ذلك من المزايا الإيجابيّة البنّاءة، التي تُسَاهِم في بناء المجتمع الإنسانيّ، وتقدّمه ورفاهيّته، وإسعاده بكل أبعاده.

       ولذلك تَعْجَبُ العجَبَ كلَّه إذا قلتُ: إنّ هذه المُؤَهِّلات قد تضرّ صاحبَها، وتحول دونه ودون ما يتوخّى تحقيقَه من المصالح الشخصيّة والمكاسب الجماعيّة؛ وإنّ الغباء والبلاهةَ، وفقدانَ الأهليّةِ والقدراتِ العمليّة، والسذاجةَ الناشئةَ عن قلّة العقل والفهم، والإفلاسَ في كل ما من شأنه أن يُؤَهِّل المرأَ لإنجاز يُذْكَر، والتجردَ من قوة اتّخاذ قرار صائب ورأي رشيد، ربما ينفع الإنسان نفعًا كبيرًا، على حين إنّ الرأي البشريّ العامّ يعتقد أن هذه الصفات كلها التي لا يجوز أن تُصَنَّف إلاّ ضمن «السلبيّة» تضرّ صاحبَها؛ ولذلك كلُّ رجل سويّ العقل سليم الحسّ يتمنّى على الله أن لايُصَاب بشيء منها، حتى لايعيش في المجتمع البشريّ معيبًا مُهَانًا.

       لقد رأيتُ مُؤَهَّلِين ضاعوا، وأذكياء تَخَلَّفُوا، ومُتَمَتِّعِين بقدرات عمليّة فائقة فُوِّتُوا الفرصةَ؛ لأنهم أذنبوا ذنبًا كبيرًا لا يُغْتَفَر عندما وُلِدُوا على ما هم عليه من الأهليّة والذكاء وقدرات العمل القابلة للتسجيل. ولم يكن أن حُرِمُوا ما يستحقونه من المناصب أوالوظائف، وإنما عِيبُوا بماهم منه بُرَآءُ كلَّ البراءة، إيجادًا للمُبَرِّرَات لحرمانهم ما حُرِمُوه؛ فهم فاسدوالعقيدة، مُتَطَرِّفُون في الرأي، غير مُتَمَاشِين مع أفراد الطَّاقَمِ في الوظيفة المعنية، حِرِّيفون، لايتعاملون مع المفاهيم الوطنيّة، أو القيم الدينيّة، أو لايحترمون قداسةَ العلمانيّة، أو هم مُتَقَلِّبون رأيًا ومشورةً؛ فهم ضرر مُتَوَقّع على كثير من المصالح الجماعيّة، فلا يجوز نصبُهم لوظيفة مرموقة أو مَنْصِب مُحْتَرَم.

       ورأيتُ أغبياء سُذَّجاً بُلْهًا، مُغَفَّلِين أو أشباهَ وأنصافَ المُغَفَّلِين، غير مُؤَهَّلِين تأهيلاً لائقًا لأي عمل، مُجَرَّدين من قدرات العمل، غير قادرين على الأداء الحسن، فاقدين للباقة الأدبية واللياقة الفكرية وخفة اليد والتيقظ والشعور المطلوب بالمسؤولية، اختيروا لتقلُّدِ وظيقه هامّة، أو عمل جليل، أو منصب كبير، وأُكْرِموا إكرامًا بالغًا لايتفق وشخصيتَهم الهزيلة، ونشاطَهم العاديّ، وأداءَهم الأخرق للعمل المنوط بهم.

       حقًّا إنّه من المُؤْلِم إيلامًا لا إيلامَ بعده أن تُعْتَبَر «اللاّ أهليّةُ» «أهليّةً فائقةً» ويُتَّخَذَ ذلك منهجيّةً متميزةً للترقية والاختيار والإكرام؛ وأن تُعْتَبَر «الأهليةُ» «لا أهليّةً» ويُجْعَل ذلك عائقًا كبيرًا دون إحراز المرء تقدّمًا في مجالات اختصاصه؛ بل نقيصة كبيرة تُشَكِّل صخرة أمام جميع انتصاراته في الحياة.

       المجتمعُ البشريُّ – إذا خلا من التقيّد بالآداب والتعاليم الإسلامية والهدي النبوي والإرشاد الربانيّ – يتعامل عادةً بشريعة الغاب، وعادات البهائم، والظلم الصُّرَاح، والمنطق الغشوم، ولا مانع لديه من الشذوذ عن كل القيم الإنسانية إذا لم يتمتع بتقوى الله، والإطار الخلقي الدينيّ الذي يأخذ بحُجَز الإنسان وينقذه من الارتماء في وهدة الدمار المُتَنَاهِي. الدينُ واستحضار تعاليمه، وتذكّر الموقف الخاشي أمام الربّ الجبّار الواحد القهّار، هو الشيء الوحيد الذي يمنع الإنسانَ من ارتكاب الجرائم نجاهَ إخوانه بني البشر، وإذا استغنى عن ذلك تَجَبَّر وتَكَبَّر، وصار سبعًا مفترسًا ضاريًا، وحَوَّل المجتمعَ حولَه غابة بفترسُ فيها الكبيرُ الصغيرَ، والقويُّ الضعيفَ.

       مثلُ هذا الإنسان الغنيّ عن خشية الربّ، وتصوّر عذابه وثوابه، يُحَوِّل الدنيا بالنسبة إلى كل إنسان جحيمًا لاتُطَاق، إنّه يقلب ميزانَ الخير والشرّ، ويدوس القيم، ويضع موازين غريبة لكل شيء، ولايتناهي عن أيّ مُنْكَر فَعَلَه إلاّ أن يدهمه الموتُ الذي يصرع حتى الجبابرةَ والطوغيتَ الذين يحسبون أنفسهم آلهة من دون الله ويُسَخِّرون بني آدم ويتخذونهم عبيدًا لإشباع أهوائهم التي لايحدُّها حدٌّ حتى يأخذ الأجل المحتوم بتلابيبهم، فيتجلّى للجميع تفاهتُهم، وكونُهم لايقدرون على شيء.

       أن تكون «اللاأهليّةُ» «أهليّةً» وتُشَكِّل عاملاً (Factor) يُسْهِم في ترقية من يَتَلَبَّس بها – اللاأهلية – ، وفي اعتلائه وظيفةً ذاتَ قيمة ومكانةً ذاتَ أهميَّة؛ من البلية التي لاتقبل مقياسًا؛ لأنها تفوق شناعةً جميعَ البلايا التي يمكن أن تُلِمّ في الدنيا بفرد من بني آدم.

       وكذلك أن تكون «الأهليّةُ» «لا أهليّة» تُشَكِّل عاملاً يُسْهِم في إسقاط من يتمتع بها – الأهليّة – وفي تخلّفه عن ركب التقدم؛ من المصيبة الغريبة التي لم يتصوّرها الإنسان في العهد الذي كانت فيه طبيعتُه سليمةً، وكان لوحُ قلبه صافيًا لم تكتب عليه يدُ الزمان خطوطاً عرجاء مُعَقَّدَةً، ولم يُمْنَ بحضارة فاسدة عَفِنَة عَمِلَت على تحويل الإنسان كائنًا مُعَقَّدًا غريبًا في الكون دخيلاً على المجتمع البشريّ.

       في كثير من الأحيان يتمنّى الإنسانُ في المجتمع المعاصر أن يتعرى عن كل ما لديه من الأهليّة والذكاء والفطنة والشعور بالمسؤولية وقدرات العمل المطلوبة، حتى يتحبّب إلى أهله – المجتمع المعاصر – الذي يُقَدِّس في الإنسان لاأهليتَه وتجردَه من كل من عناصر الذكاء والشعور اللطيف والحسّ السليم، عندما يرى ينال من قبله كلَّ الإكرام وكلَّ الحظوظ كلُّ من يتأتى على هذا المستوى، ويُحْرَم كلَّ الحظوظ من يتمتع بالعناصر التي تُشَكِّل – أساسًا – عاملاً واقعيًّا للتكريم والتقدير وتقليدِ وظيقة مرموقة.

       انقلابُ الموازين والخروجُ على القيم الإنسانيّة المعروفة من سمة العصر الحاضر الذي انتصرت فيه الحضارة الغربيّةُ التي حَوَّلت الإنسان شبهَ إنسان أو بهيمة لاحسَّ لديها لطيفًا يدفعه إلى التقيد بالأخلاق التي تُمَيِّز الإنسانَ عنها.

       الخلقُ والأمرُ بيد الله عزَّ وجلَّ، وله التصرفُ المُطْلَقُ في الكون، وله القدرة المُطْلَقَة على كلِّ شيء، وهو الذي يفعل ما يشاء. وتلك الحقيقة الكبرى هي العمدةُ لدى كلِّ مُؤَهَّل يُحْرَم ما تقتضيه له أهليتُه، وهي بنفسها العصا الغليظة التي ينبغي؛ بل يجب أن يخافها كلُّ من يحلو له أن يتحدّى سنّةَ الله، وأن يخرج على ناموس الطبيعة، ويدوس القيم المرسومة، والمنهجية الأخلاقية المعلومة، فيكرم الغبيّ المُغَفَّل الذي نشأت سذاجتُه عن بلاهته، فتجرد عن قدرة العمل والفكر، ويحرم العاقل الذكي القادر على العمل والإنتاج، الذي حَمَلَه نشاطُه في العمل وتحركُه في مشوار الحياة وذكاؤه الموهوب الذي شقّ له طريقَ التفوّق.. حَمَلَه على الشعور بالمسؤوليّة، وعلى المحافظة على الأوقات، وعلى اغتنام الفرص، وعلى التقيد بالمواعيد بلحظاتها ودقائقها بل ثوانيها.

       الغبيّ المُغَفَّل المتكاسل في العمل، السادر في الأمل، المُجَرَّد من الأهليّة قد يُحَبِّبه غباؤه وسذاجتُه الناشئة عن الغباء إلى سيّده؛ لأنّه يظلّ على مدى حياته – أو على مدى مباشرته للعمل في إطار الوظيفة التي نيطت به – رهنَ إشارته وطوعَ أمره، ويُنَفِّذ جميعَ أوامره دونما تردّد وتغيير مهما كانت مُجْحِفَةً بالحقوق، غَامِطَةً للمُسْتَحَقَّات، أو دائسةً للأوامر والنواهي الإلهيّة؛ لأنّ السيّد هو الإله المطاع والربّ المعبود لديه. ثم إنه لايُعْمِل عقلَه وفكرَه ورأيَه لدى تنفيذ أوامر سيّده، ولا يضعها على محِكّ المنطق والرشاد، لكي يعرف خيرها من شرّها في حق البلاد والعباد والمصالح الفرديّة والجماعيّة؛ لأنّ الخير والشرّ مصدرهما لديه هو سيّده؛ لأنّه يؤمن بأن الخير كله هو مصلحته الذاتية المتحققة عن طريق ما يناله من الراتب الشهريّ، والشرّ كلّه هو أن يُحْرَمَ الراتبَ الشهريَّ إذا أعمل عقلَه وفكرَه في تنفيذ أوامر السيّد؛ فيتفطّن السيّد أن هذا الموظف الغبيّ المغفل المطيع خرج عن إطاره وصار الـذكيّ الفطن النشيط العاصي؛ حيث يَعْمَل بعقله وفكره في مجال الوظيفة التي وُلِّيَها، فيحرمه الوظيفةَ، ويفصله من العمل، ويطرده من المؤسسة التي كان يعمل بها.

       إن الغباء والمُغَفَّلِيَّة والتجرد من أهليّة العمل والإنتاج ينفع أحيانًا كثيرة، ويُدِرُّ من المكاسب والمنافع مالا يُدَرِّه الذكاءُ والفطانةُ والأهليّةُ والقدرةُ على العمل والإنتاج.

       كثيرًا ما يعاني الذكيّ الفَطِن المُؤَهَّل ويلات لاتنتهي من جَرَّاء ما يتمتع به من الذكاء والفطانة والأهلية. وكثيرًا ما يحلب الغبيّ المُغَفَّل غيرُ المُؤَهَّل أَشْطُرَ المنافع بيديه كلتيهما.

       لايجوز لك أن تتباهى وتُدِلُّ بما لديك من الذكاء والفطانة وقدرة العمل والشعور بالمسؤولية الذي وُلِدْتَ عليه بمشيئة الله وحكمته؛ لأنك قد تخفق في الحياة، وتخونك الحظوظ، وتنبو بك السعادة.. ولا يجوز أن تقنط من روح الله إذا حالفك الغباء، وعُجِنَت طينتُك بالمُغَفَّلِية، و وُلِدْت على السذاجة الناتجة عن البلادة؛ لأنك قد تُكْرَم وتُقَدَّر، ويبتسم لك الجدُّ، على أساس أنك تتصف بهذه «المزايا» التي هي سمةٌ على شخصيتك، لولاها لما عُرِفْت.

       حظُّك من الغباء واللاأهليّة هو قدرُك الذي يضمن لك ما قَدَّرَ الله لك من الخير والشر. ونصيبُك من الذكاء والأهليّة والقدرة الفائقة على العمل والإنتاج، هو قضاء الله لك الذي يكفل لك كلَّ ما يكون قد شاء الله لك من الخير الذي لايصيبك إلاّ بفضل الله وحده، والشرّ الذي لن يصيبك منه إلاّ بالقدر الذي كَتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّتِ الصحف فيما يـرويه سيدنا عبدُ الله بنُ عباس رضي الله عنهما وأرضاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم  .

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 10:30 من ضحى يوم الخميس : 22/ جمادى الثانية 1432هـ  الموافق 26/ مايو 2011م) .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان  1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35

Related Posts