الفكر الإسلامي

بقلم:  العالم العامل المجاهد شيخ الإسلام السيّدحسين أحمد المدني رحمه الله

شيخ الحديث الأسبق بدارالعلوم/ ديوبند 

تعريب: الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*) 

       أيها الأخ في الله!

       وقع إليَّ خطابك الموجَّه إلى رئيس الجامعة، فقرأته، وعجبت كثيرًا وتأسّفْت على سذاجتك وجهلك بالجماعة الإسلامية، إن كنت لا تعلم من أمرها شيئًا، وعلى عنادك وجحودك بالحق إن كنت ممن يعلمون.

       وقد كتبتَ في الخطاب:

       «إني تَبَنَّيْتُ العضوية في الجماعة الإسلامية؛ لأنها تدعو إلى إقامة الدين، وقد عرفت كلَّ المعرفة بأن الخلاف بين علماء ديوبند وبين الجماعة الإسلامية خلاف في المسائل الفرعية لاغير. أما الأخطاء التي قارفها الأستاذ المودودي في كتاباته، فالحق فيها مع علماء ديوبند».

       اعلم أن الخلاف بيننا وبين الجماعة الإسلامية ليس خلافًا في المسائل الفرعية، وإنما هو في المسائل الأساسية كما ينص عليه دستور الجماعة الإسلاميّة: «لا يعتبر أحد سوى الرسول صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا يُخْضَعُ لأحد بالعبودية الذهنية، وإنما يُقَاسُ كلُّ واحد من الناس بالمقياس الكامل الذي خلقه الله، ويُعْطى كلُّ ذي حقٍ حقه بهذا المقياس»(1).

       قد جاء هذا النص كتفسيرٍ لشطر الثاني للكلمة الطيبة، وقد بدأ النص بما يلي:

       «يعني الشطر الثاني للمعتقد: أن النبي الخاتم الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس في العالم بالرسالة ونظام للحياة، وأمره بتطبيقه في واقع الحياة هو محمد صلى الله عليه وسلم »(2).

       هذا وما يليه يدُلُّ دلالةً واضحةً على أنه ليس سوى محمد صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا مُطَاعًا بالعبودية الذهنية، مهما كان غيره من الأنبياء السابقين كعيسى، وموسى، وإبراهيم، ونوح عليهم صلوات الله وسلامه.

       مع أن الأمة الإسلامية على بكرة أبيها قد أجمعت على أنَّ الإيمان بالأنبياء السابقين لازم، لايكتمل الإيمان بدون ذلك. فمن فُصِّلَ ذكره منهم يلزم الإيمان به بالتفصيل، ومن أُجْمِلَ ذكره يلزم الإيمان به بالإجمال. هذه مسألة مبدئية لافرعية، غير أن دستور الجماعة الإسلامية يرفض ذلك، ولا يعير له اعتبارًا، ولايرى أحدًا سوى الرسول صلى الله عليه وسلم نبيًا ولا رسولاً؛ وذلك لأن كل نبي من الأنبياء مقياس للحق، متسامٍ عن الانتقاد، ومطاع بالعبودية الذهنية، و إليك تفاصيله:

       أولاً: لاحِظ نصَّ دستور الجماعة الإسلامية، قد سيقت فيه لفظة «رسول الله» وليس المراد بها إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك بما يأتي:

       (أ) قد جاء هذا النص كتفسير للفظة «محمد صلى الله عليه وسلم ».

       (ب) أفردت لفظة «رسول الله».

       (ج) قد سبقت في نفس النص لفظة «رسول الله» ثلث أو أربع مرَّات، أريد بها محمد صلى الله عليه وسلم .

       ثانيًا: لما كان كل نبي مقياسًا للحق حيث قال الله جلَّ وعلا: «رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ ومُنْذِرِيْنَ لِئَلاّ يَكُونَ للنَّاسِ عَلى الله حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ» قد سبَقَ هذه الآيةَ ذكرُ الوحي والأنبياء عليهم السلام، فكل هذا يدل دلالةً جليةً واضحةً على أن الغرض من وراء بعثة الرسل والإيحاء إليهم هو قطع احتجاج الناس على الله، وذلك لايكون إلا أن يُعتَبر كل نبيٍ بجميع أقواله وأفعاله مقياسًا للحق، ومظهرًا له.

       ثالثًا: يجب الإيمان بكل نبي جاء ذكره بالتفصيل في القرآن إيمانًا تفصيليًا، كما يجب الإيمان بمن جاء ذكره بالإجمال إيماناً إجماليًا؛ ولا يجوز التفريق بينهم بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. فتبجيل الأنبياء بأجمعهم، والتجنب عن انتقادهم، واعتبارهم مطاعي الأمر لازم محتوم.

       حيث قال تعالى:

       آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (البقرة/285) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ (النساء/150-152)

            فكِّر أيها الأخ وقدِّر! فلما كان الغرض من وراء بعثة الأنبياء عليهم السلام إقامة الحجة على الناس حتى لاتبقى لأحد منهم فرصةُ الاحتجاج، فقال بعد ذكرِ الوحي والموحى إليهم « رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا» (النساء/165) فهل يسوغ أن يقال عن نبيٍ: أنه ليس مقياسًا للحق.

       ولما سيق بعد ذكر أسماء الأنبياء عليهم السلام: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ» (الأنعام/90) و «ثم أوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» (البقرة/135) «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» (البقرة/130) فهل يمكن أن يقال: إنه لايجوز التقليد والعبودية الذهنية لهم.

       وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا (الأنعام/83-90)

       فَكِّر في هذه الآيات: كيف أثنى الله عز وجل على الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام في أسلوب قوي غايةَ القوَّةِ، وأخبر برفع درجاتهم وهدايتهم، وإحسانهم وصلاحهم وفضلهم على العالمين واجتبائهم؛ فهل يبقى بعد كل هذا متسع للطعن عليهم وتوجيه الانتقاد إليهم؟!!

       هكذا ففي سورة ص أُفِيْضَ الثناء على داود، وسليمان، وأيوب، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، واليسع، وذي الكفل عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. فقد قيل عن داود مرةً «إِنَّه أوَّاب» (ص/17) ومرة أخرى «آتيناه الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ» (ص/20) وطورًا «إنَّ لَه عِنْدَنا لَزُلْفٰى وحُسْنَ مآب» (ص/40) أما سليمان فقد قيل عنه «نِعْمَ العَبْدُ أنَّه أوَّاب وإنّ له لزُلْفٰى و حُسْنَ مآبٍ (ص/30) كما جاء عن أيوب «إنَّا وَجَدْنَاه صَابِرًا نِعْمَ العبدُ إنَّه أوَّابٌ» (ص/44) وقيل عن إبراهيْمَ واسحٰق و يَعْقُوب عليهم صلواتُ الله وسلامه «أولى الأَيْدِي والأَبْصَارِ إنَّا أَخْلَصْنَاهم بِخَالِصةٍ ذِكْرىٰ الدَّارِ وأنّهم عِنْدَنَا لمن المصْطَفَيْنَ الأخْيَارَ» (ص:45) وقيل عن إسماعيل واليسع وذي الكفل: «كلٌ مِن الأخيار» (ص/56).

       كذلك سيق في سورة يوسف «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءِ والفَحشَاءَ إِنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمخلَصِيْن» (يوسف/24).

       كل أولئك يدل بوضوح وجلاءٍ أنَّ الله عزَّ وجلَّ يعصم عباده المخلصين من كل منكر وفاحشة، ويجتبيهم من بين الناس، ويحيطهم بعنايته الخاصة فلا مطعنَ فيهم ولا مغمز. فهل بعد اجتباء الله إياهم والعناية الإلهية بهم يوجَّه إليهم قول سخيف مثل ما جاء في دستور الجماعة؟

       على كلٍ فالبند باطل وضلالة من الضلات، مما يدل دلالةً واضحة أن الأنبياء السابقين جميعًا ليسوا مقاييس الحق، ولا متسامين عن الانتقاد، ولا مطاعين بالعبودية الذهنية فهذا يعني إنكار نبوتهم.

       إن دستور الجماعة الإسلامية يتضمن هذه الفقرة السادسة، وما أجْدَر أن يكونَ نصُّ الفقرة عبارةً مختارةَ الكلمات محدَّدَتها واضحةَ الدلالة جليتَها أساسيةَ المضمون مبدئية المعنى. فدستور كل جمعية أو منظمة أو حزب يشكل عمودًا فقريا لها، فلاشطط فيه ولا وكس. هذا إلى أن الفقرة قد قُرِنَتْ بكلمات المعتقد الذي هو رأس الدين، مما يفيد أن مؤسس الجماعة الإسلامية وأعضاءها يرون هذا كمعتقد ديني فليت شعري هل يبقى الإيمان والإسلام مع هذا المعتقد؟، وهل هذه المسألة مسألة أساسية أو فرعية؟ وهل يصِحُّ السكوت عن تضليل جماعة يعتقدون هذا الاعتقاد؟.

       فإن قالَ قائل: إنه قد جاء في السطور الأخيرة للفقرة:

       «يُقاس كل أحدٍ بالمقياس الكامل الذي خلقه، فباعتبار هذا المقياس ينال كل واحد درجته، ومكانته».

       يندفع الاعتراض بهذه السطور. فأقول: إن هذا خطأ ومجرد خداعٍ، وبيانه: من ذُكِرَ من الأنبياء والرسل في القرآن فالإيمان بهم لازم لا محيد عنه، دون سبر أغوارهم، وعجم عيدانهم، وشتَّان بين التزكية القرآنية القاطعة، وبين المعرفة الإنسانية السخيفة.

       إن الفقرة السالفة تنطق بكون محمد صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق ومتساميًا عن الانتقاد، ومطاعاً بالعبودية الذهنية، وتجحد بذلك لغيره من الأنبياء عليهم السلام. غير أن الأستاذ المودودي قال في كتابه «تفهيمات»: إن الأنبياء والرسل قاطبةً ليسوا مقاييس الحق، ولا معصومين عن الخطأ، حيث قال:

       «… لكنه لعلَّهم لم يفكروا في أمر وهو أن العصمة ليست لازمةً لذواتهم بل عصمهم الله عز وجلَّ ببعض المصالح عن الأخطاء والزلات ليضطلعوا بأعباء النبوة، فإن جانبهم العصمة الإلهية – ولو للحظة – فهم كعامة الناس يخطئون ويزلون، وتلك نكتة لطيفة أن الله عز وجل قد سلب عصمته من كل نبي من الأنبياء في حين من الأحيان – وذلك عن قصد – حتى يصدر عنهم زلة أو زلتان، فلا يراهم الناس آلهة، ويرونهم رجالاً من البشر».

       انظر كيف يشمل هذا المعتقد السالف الذكر للجماعة الإسلامية الأنبياء كلهم أجمعين، وينطق بنزع العصمة الإلهية لجعلهم يخطئون، وكيف ينسجم مع المعتقدات الإسلامية؛ على هذا فلا نبي قدوة ولا ثقة؛ وذلك لأن كل ما يأمر به النبي من أمر يمكن أن يكون هو في حالته التي نزع فيها العصمة الإلهية.

       ثم انظر هل هذا الاختلاف أساسي أو فرعي، وانظر مدى صلة الجماعة الإسلامية ومؤسسها بالإسلام!!.

       قد جاء في كتاب «تفهيمات» أخطاء فادحة: مثلاً: إن العصمة ليست لازمةً لذوات الأنبياء، وذلك خطأ فادح، ذلك أن العصمة لازمة لذوات الأنبياء بحيث أنهم أنبياء لا بحيث أنهم من البشر. وأنهم ملازمو العصمة دائمًا، لا تنفك عنهم في حين الأحيان. أما السقطات التي عدَّها الأستاذ المودودي ذنوبًا فهي ليست ذنوبًا وإنما تشكلت بالذنوب فحسب؛ كما يُسْتَفَادُ من حديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

       كما أن قتل العمد وقتل الخطأ يتشابهان صورةً ويفترقان حقيقةً، فكذلك فرق بين أن يقترف أخذ جريمة ناويا إياها وبين أن تصدر معصية دونما نية وإرادة. فالأولى معصية الكبائر، والثانية زلة وخطأ اجتهادي.

       على كل فالعصمة لازمة للأنبياء عليهم السلام لزوم الظل لصاحبه. وأما السقطات التي عدَّها الأستاذ المودودي على الأنبياء فهي معاصٍ صورةً، وزلاَّت اجتهادية حقيقةً.

       وما أغرب ما علَّل به الأستاذ المودودي من أنه ليعرف الناس أنهم أنبياء لا آلهة، وأنهم أفراد من البشر، أليس يكفي لمعرفة البشرية الجوع والنوم والمرض؟!! أما السقطات والزلات فهي لا يُحس بها أحد، ولا تلزم البشرية.

       هذه آراؤهم ومذاهبهم عن الأنبياء عليهم السلام، وأما مذاهبهم عن الصحابة رضي الله عنهم فلما كانوا وُسَطَاء بين الأنبياء وأممهم؛ وبهم وصل إليها الكتاب والسنة فهم المرجع في الدين، فإن كانوا موثوقًا بهم يوثق بما ينقلونه من الكتاب والسنة وإلاَّ فبناء الدين لا قاعدةَ له ولا أساسَ. بناءً على ذلك فقد حاول الزنادقة والمبتدعون الطعن فيهم والغضّ من شأنهم.

       قال أبو زرعة الرازي:

       «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أنّ الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة» (الإصابة في تمييز الصحابة 1/11).

       ولهذا فقد غربل المحققون الاعتراضات الموجَّهة إليهم وبحثوها بحثًا، حتى ميَّزوا الحق من الباطل، والغث من السمين، وأزالوا ما ألْصِقَ بهم من التهم، و أظهروا الحقيقة الثابتة كما هي، ودعوا الأمة إلى إذعانها واعتقادها.

       قال الحافظ ابن عبد البرِّ عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم :

       «فهم خير القرون وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عزّ وجَلَّ عليهم. وثناء رسوله عليه السلام، ولا أعدل ممن ارتضاه الله صحبة نبيه ونصرته ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه، قال الله تعالى: مُحَمَّدُ رَّسُولُ الله والَّذِيْنَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنهُم (الفتح/29) (الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر1/2)

       ثم قال: «قال أبو عمرو رضي الله عنه: إنما وضع الله عزَّ وجل أصحابَ رسوله الموضع الذي وضعهم فيه بثنائه عليهم من العدالة والدين والإمامة لتقوم الحجة على جميع أهل الملة، بما رووه عن نبيهم من فريضة وسنة، فصلى الله عليهم وسلم ورضي عنهم أجمعين؛ فنعم العون كانوا له على الدين، في تبليغهم عنه إلى من بعدهم من المسلمين» (الاستيعاب لابن عبد البر 1/7)

       وقال ابن الهمام في المسايرة وابن أبي شريف الشافعي في شرحه المسامرة:

       «واعتقاد أهل السنة والجماعة تزكية جميع الصحابة رضي الله عنهم وجوبًا بإثبات العدالة لكل منهم والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم، كما أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم إذ قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (آل عمران/110) وقال تعالى: «وكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَّسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ» (البقرة/143) (المسامرة، ص:130).

       وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه: «الإصابة في تمييز الصحابة»: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيسًا في ذلك؛ فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم، فمن ذلك قوله: «وَكذلك جَعَلْنَاكُم أمةً وَّسَطاً» (البقرة/143) وقوله: «لَقَدْ رَضِيَ الله عن المؤمِنِيْنَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تحتَ الشجرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهم» (الفتح/18) وقوله: «السَّابِقُونَ الأوَّلُونَ من المهَاجِرِيْنَ والأَنْصَارِ والذينَ اتَّبَعُوهم باحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُم ورَضُوا عَنه» (التوبة/100) وقوله: «يأيها النَّبي حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمِنِيْنَ» (الأنفال/64) وقوله تعالى: للفُقَرَاء المهاجِرِيْنَ الَّذِيْنَ أخرِجُوا من دَيَارِهم وأَمْوَالهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الله ورضوانًا وَينصرون الله وَرَسُولَه أولئك هُم الصّادِقُون إلى قوله: إنّكَ رؤفٌ رَّحِيْم» (الحشر/10) في آيات كثيرة يطول ذكرها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله ورسوله إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرنا، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل الأموال وقتل الآباء والأولاد والأبناء والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين القطعَ على تعديلهم والاعتقادَ لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله … وقد كان تعظيم الصحابة ولو كان اجتماعهم به صلى الله عليه وسلم قليلا مقرَّرٌ عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمن ذلك.. فذكر قصة صحابي هجا الأنصار بسنده إلى أن قال: «فقال لهم عمر: لولا أنّ له صحبةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نالَ فيها لكفيتموه، ولكن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقف عمر عن معاتبته فضلاً عن معاقبته، لكونه علم أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أنّ شأن الصحابة لايعدله شيء، كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه» وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم». وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنتم توفون سبعين أمةً أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجلَّ.

       وروى البزاز في مسنده بسند رجاله موثقون من حديث سعيد بن المسيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين.

       وقال عبد الله بن هاشم الطوسي حدثنا وكيع قال: سمعت سفيان يقول في قوله تعالى: «قُلْ الحمدُ لله وسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِيْنَ اصْطَفٰى» قال هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . والأخبار في هذا لكثيرة .. فلتتصبر على هذا القدر ففيه مقنع (الإصابة 1/5-6).

       وقال ابن الأثير:

       «والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل؛ فإنهم كلهم عدول، لايتطرق إليهم الجرح؛ لأنَّ الله عز وجلّ ورسوله زكيّاهم وعدّلاهم، وذلك مشهور لانحتاج لذكره، ويجيء كثير منه في كتابنا فلا نطول به ههنا» (أسد الغابة في معرفة الصحابة 1/2).

       وقال علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:

       «والصحابة كلهم عدول مطلقًا لظواهر الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به. وفي شرح السنة قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم بيعة الرضوان، ومن له مزية من أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلى القبلتين، وقيل هم أهل بيعة الرضوان، وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة رضي الله عنهما، وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة الأخيار، والحروب التي جرت بينهم كانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها، وكلهم متأوِّلون في حروبهم، ولم يخرج بذلك أحد منهم من العدالة؛ لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل كما اختلف المجتهدون بعدهم في مسائل، لا يلزم من ذلك نقص أحد منها» (مرقاة المفاتيح).

       وقد جاء في تحرير الأصول وفي شرحه تقرير الأصول:

       «.. على أن ابن عبد البر حكى إجماع أهل الحق من المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة على أنّ الصحابة كلهم عدول، وهذا أولى من حكاية ابن الصلاح إجماع الأمة على تعديل جميع الصحابة، نعم حكايته إجماع من يعتد بهم في الإجماع على تعديل من لابس الفتن منهم حسن.

       وقال السبكي: والقول الفصل أنا نقطع بعدالتهم من غير التفاتٍ إلى هذيان الهاذلين وزيغ المبطلين، وقد سَلَفَ اكتفاؤنا في العدالة بتزكية الواحد فكيف بمن زكّاهم علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء في غير آية، وأفضل خلق الله الذي عصمه الله من الخطأ في الحركات والسكنات محمد صلى الله عليه وسلم في غير حديثٍ، ونحن نسلم أمرهم فيما جرى بينهم إلى ربهم جلَّ وعلا، ونبرأ إلى الملك سبحانه ممن يطعن فيهم ونعتقد أنّ الطاعن على ضلال مهين وخسران مبين، مع اعتقادنا أنَّ الإمام الحق كان عثمان، وأنه قتل مظلومًا، وحمى الله الصحابة من مباشرة قتله، فالمتولّي قتله كان شيطانا مريدًا، ثم لانحفظ عن أحد الرضا بقتله، إنما المحفوظ الثابت عن كل منهم إنكار ذلك. ثم كانت مسألة الأخذ بالثأر اجتهادية، رأى علي كرم الله وجهه التأخير مصلحة، ورأت عائشة رضي الله عنها البدار مصلحة، وكل جرى على وفق اجتهاده، وهو مأجور إن شاء الله تعالى، ثم كان الإمام الحق بعد ذي النورين عليا كرم الله وجهه، وكان معاوية رضي الله عنه متأولا هُو وجماعته، ومنهم من قعد من الفريقين وحجم عن الطائفتين، لما أشكل الأمر، وكلٌ عمل بما أدى إليه اجتهاده، والكل عدول رضي الله عنهم فهم نقلة هذا الدين وحملته الذين بأسيافهم ظهر، وبألسنتهم انتشر، ولو تلونا الآي وقصصنا الأحاديث في تفضيلهم لطال الخطاب، فهذه كلمات من اعتقد خلافها كان على زلل وبدعة، فليضمر ذو الدين هذه الكلمات عقدًا، ثم ليكف عما جرى بينهم، فتلك دماء طهرَّ الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا.. والحاصل أنهم خير الأمة وأن كلا منهم أفضل من كل من بعده، وإن رقي في العلم والعمل، خلافًا لابن عبد البر في هذا، حيث قال قد يأتي بعدهم من هو أفضل من بعضهم والله سبحانه أعلم. (التقرير والتحبير 4/163).

       وجاء في فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت:

       «واعلم أن الصحابة الداخلين في بيعة الرضوان والبدريين كلهم مقطوع العدالة، لايليق لمؤمن أن يمتري فيها، بل الذين آمنوا قبل فتح مكة عادلون قطعًا، داخلون في المهاجرين والأنصار، وإنما الاشتباه في مسلمي فتح مكة؛ فإن بعضهم من مؤلفة القلوب، وهم موضع الخلاف، والواجب علينا أن نكف عن ذكرهم إلا بجير فافهم» (فواتح الرحموت 2/156).

       خلاصة القول أنَّ أهل الحق: أهل السنة والجماعة مجمعون على أنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم كلهم عادلون ثقات، أحاديثهم وشهاداتهم مقبولة موثوق بها، لا جرح فيها ولا نقد، والأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة معروفة، وهم حَمَلَةُ الدين ونَقَلَتُه والمرجع ومقياس الحق فيه، يجب على من يأتي بعدهم اتباعُهم. فالآية الكريمة: «يا أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوا اللهَ وَكُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ» (التوبة/119) والآية: «للفُقَرَاءِ المهَاجِرِيْنَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوْا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُوْنَ» (الحشر/8) والآية: «واتَّبِعْ سَبِيْلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ» (لقمان/15) تَدُلّ بوضوحٍ وجلاء على أنَّ الأمة يجب عليها أن تقلِّدهم وتطيعهم طاعةً ذهنيةً، وتتمسَّكَ بأذيالهم. وهذا مبدأ أساسي، مبدأ لايستهان به، وعليه مناط الدين وكتاب الله وسنة رسوله.

       وفي جانبٍ آخر نرى ما قاله الأستاذ المودودي في البند السادس من الدستور للجماعة الإسلامية القائل بشكلٍ واضحٍ أنه ليس أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا مطاعًا طاعةً ذهنيةً ولا مقلّدًا.

       ما أبعد هذا القول عن الصواب، وما أفتح لأبواب الفتن، وما أهدم للدين! فإن لم يكونوا مقاييس للحق، فكيف يوثق بأنّ القرآن هو كلام الله الذي نَزَلَ على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يدخله تحريف ولا تبديل، ولا نقص ولا زيادة، فإذا لم يكن أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق، كما قال المودودي، فقد وصل هذا القرآن إلينا عن طريق أناس غير موثوق بهم، فلا يؤمن عليه من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.

       وكذلك السنة فإن لم يكن أحد متساميًا عن الانتقاد فقد وصلت إلينا عن طريق أناس مجروحين، فكيف يوثق بها. ولما لم يكن أحد سوى الرسول صلى الله عليه وسلم مطاعًا طاعةً ذهنيةً فكيف يوثق بأحد في قوله وفعله.

       على كلٍ فمن مبادئ أهل السنة والجماعة أنَّ الصحابة كلهم ثقات عادلون، لا يتطرق إليهم الجرح، وقد قال المودودي: «إن الصحابة وغيرهم ليسوا مقاييس للحق ولا متسامين عن الانتقاد، ولا مطاعين طاعةً لازمةً، وهذا اختلاف أساسي يقوض بناء الدين. فما أبْعَدَ الفرقَ بين القولين!

       وقال المودودي في كتابه «تفهيمات»: «وأعجبُ من هذا كله أنَّ الصحابة رضي الله عنهم ربما يغلبهم الضعف البشري، فيترامون بالكذب، فقد سمع عمر أنّ أباهريرة لايرى الوتر، فقال: كذب أبوهريرة، وذات مرة قالت عائشة رضي الله عنها عن أنس وأبي سعيد الخدري: لا علمَ لهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان طفلين في تلك الأيام. وسأل حسن عليًّا عن معنى «شاهد ومشهود» ففسرهما، فقيل له: يقول ابن عمر و ابن الزبير كذا وكذا، فقال قد كذبا. وذات مرة كذّب عليٌّ مغيرة بن شعبة وأفتى عبادة بن الصامت في أمر وقد رمى مسعود بن أوس الأنصاري بالكذب. وهو من البدريين. (تفهيمات ص:294).

       تأمَّل فيما قاله المودودي، ماذا يعتقد عن الصحابة، وإلى ما يدعو إليه. وماذا يعتقد أهل السنة والجماعة عنهم؟ فبينهما بون شاسع. ساق المودودي هذه الأقوال كلها دونما إسناد، ولم يُحِلْ إلى كتابٍ موثوق به، وقد بلغت به الجراءة أنه جَعَلَ جميع الصحابة على النقيض من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة – غير موثوقٍ بهم ومقترفي الكبائر مجروحين. وسَاقَ ذلك بأسلوب جعل جيل الصحابة كله مشبوهين في أعين عامة الناس لايؤمن عليهم.

       (أ) ساقَ هذه الأقوال كلها دونما إسناد، ولم يُحِلْ إلى أيِّ كتاب.

       (ب) لم يذكر أ إسناده صحيح أم ضعيف.

       (ج) الأحداث التي ذكرها لم تكن كثيرةً دائمةَ الوقوع، وإنما كانت قليلةً نادرة الوقوع.

       غير أن الأستاذ المودوديَّ يقول: «إنَّ الصحابة رضي الله عنه ربما يغلبهم الضعف البشري» كان ينبغي أن لايذكر هذه الأحداث التي لا حقيقة لها والتي ندر وقوعها. لاسيما إذا كانت تضادُّ القرآن والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة. فإن كان لابد أن يذكره كان عليه أن يُحِيْلَ إلى المصدر، ويصرِّحَ على الأقل بأن الصحابة أحيانًا يعرِّضُ بعضُهم ببعضٍ، ومن المؤسف أن يذكر هذا القول العظيم بأسلوبٍ يُوحي بكثرة وقوع هذه الأحداث. والحق أنها نادرة الوقوع.

       ثم إنّ هذه الكلمات لم تكن تستعمل في الماضي في المعاني التي تستعمل فيها اليوم، فقد كانوا يستعملون الكذب بمعنى الخطأ كما ذكر شراح الحديث، وأما الكذب الذي يضادُّ العدالة فلم يكن مستعملاً فيه.

       وقد أحال بعض أتباع المودودي ما جاء في «تفهيمات» إلى كتاب العلم لابن عبد البر، غير أنَّ كتاب العلم لم ترد فيه هذه الأمور موثقةً بالدلائل، فإن كان لايُقْبَلُ قولُ من سبق ابن عبد البر بلادليل، فكيف يقبلُ قول ابن عبد البر دونما دليل. لا سيما إذا كان ابن عبد البر بعد زمن الصحابة بقرون، ولم يلق صحابيًّا ولا تابعيًّا؛ فقد وُلِدَ سنة 368هـ وتوفي سنة 463هـ، على أنّ كتاب العلم ليس معروفا ككتابه الاستيعاب وقد سُقت نصوصًا عدّة من الاستيعاب تُعَارض كلَّ المعارضة ما جاء في كتاب العلم، فما في كتاب العلم إما ليس لابن عبد البر أو مدسوس من خارجي أو شيعي مبتدعٍ أو متأول بما لا يحط من عدالة الصحابة، وإن افترضنا أن ما في كتاب العلم هو لابن عبد البر أو محمول على ما حمله المودودي فهو مردود حتمًا. كما صرّح ابن عبد البر في الاستيعاب وأئمة الحديث والأصول والعقائد والفقه في كتبهم الموثوق بها، وكما دلّت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة والمشهورة. على كلٍ فهذا خلاف مبدئي، والأستاذ المودودي على خطأ فادح وضلال مبين.

       والجدير بالذكر أنَّ الصحابة ليسوا معصومين، وإنما هم محفوظون، قال الله تعالى: «يثبِّتُ الله الَّذِيْنَ آمَنُوْا بالقَوْلِ الثَابِتِ فِي الحيوةِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ» (إبراهيم/27) وقال: «إنْ أَوْلِيَاؤُه إِلاَّ المتَّقُونَ» (الأنفال/34) فإن كان غير الأنبياء الذين يتمتعون بالإيمان الكامل محفوظين، فكون الصحابة محفوظين بالطريق الأولى. أما الروايات التي جاءت في كتب التاريخ والتي تحط من عدالة الصحابة فهي مردودة؛ لأنها لاتبلغ حدّ التواتر، ولا يوثق بطرقها. على أنّ الآيات القرآنية المتواترة والأحاديث المشهورة والصحيحة تعارض هذه الروايات التاريخية. وهذه الروايات قد وضعها أهل الهوى والشيعة والخوارج والزنادقة، ودسُّوها في الكتب. قد أشبع صاحب التحفة اثناعشرية هذا الموضوع بحثًا وتحقيقًا. وبناءً على ذلك فقد احتاج السلف إلى تدوين أسماء الرجال، والروايات الموضوعة.

       قد ذكرت – حتى الآن – ما قارف المودودي وجماعته من الأخطاء المبدئية التي هي غاية في الضلال، والآن أورد معارضاته الصريحة للكتاب والسنة مما يوضّح أن دعوى اتباعه للكتاب والسنة وإعادة ذكرهما مرة بعد أخرى فارغة مزوّرة، فلا يرى الكتاب كتابًا، ولا السنة سنةً، وإنما اختلق مذهبًا يعارض السلف الصالحين، فيدعو الناس إليه لِيُدْخِلهم سعيرًا.

       قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ الله وَنِعْمَةً وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (الحجرات/ 7-8).

       تأمَّل في هذه الآية، أليس الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين حبَّبَ الله إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وشهد لهم القرآن بكونهم راشدين أليسوا مقاييس للحق، ومتسامين عن الجرح والانتقاد؟ وأيُّ خطر في اتباعهم وتقليدهم. وقد عدّلت الآية الصحابة كلهم كلَّ التعديل.

       فإن تعمّد أحدٌ منهم ذنبًا، فذلك لايعارض الآية، وكونهم محفوظين؛ لأن العدالة ملكة تحث صاحبها على الاجتناب عن الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، والترفع عن سفاسف الأمور. فإن صدر عن أحد منهم ذنب وندم عليه فذلك لا يُخِلُّ بعدالتهم، ولا ينافي محفوظيتهم. غير أنّ المودودي لايرى صحابيًا ولا إنسانًا مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد والجرح ولا أهلاً للتقليد. انظر ما أبعد الفرق بين المذهبين! أهذا الاختلاف فرعي أم مبدئي؟

       وقال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» (الفتح/29).

       تدل هذه الآية بوضوحٍ على أنَّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانهم قد تجاوز حدَّ الإذعان واليقين، وبلغ أعلى رتبة في الحبِّ، فعمَّ حبُّهم لله ورسوله جميع المؤمنين بهما، كما أصبح المبغضون لله ورسوله مبغوضين لديهم أشدَّ البغض، فيقطعونهم الأواصر، ويعاملونهم بالشدة، وساط حبُّ الله ورسوله بلحمهم ودمهم، وأصبح المؤمنون بالله ورسوله محبوبين لديهم غاية الحبِّ، فيرحمونهم ويُشفِقُونَ عليهم.

       كما نشأت فيهم عبودية الله حتى تجاوزت آثارها الأعضاء والجوارح وخالطت القلوب والأرواح، فصاروا متسامين عن أهواء النفس ومطامع الدنيا مبتغين مرضاة الله وفضله، وهذه العبودية والطاعة ليست أمرًا عارضًا، وإنما هي ترسخت في أجسامهم حتى تظهر آثار الخشوع والخضوع على وجوههم وأعضائهم وفقًا للمثل السائر: «كل إناء يترشح بما فيه» وصفاتهم وفضائلهم هذه ليست موقتةً وعارضةً، بل كان يعلمها الله علاَّم الغيوب، فوصفهم في التوراة والإنجيل بهذه الصفات والفضائل.

       وقد قال الله تعالى في شأن مناقب الصحابة وفضائلهم بقوله: «والذين آمنوا معه» الذي يفيد الاستغراق والشمول، فمعناه أنّ الصحابة كلهم موصوفون بهذه الصفات، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، على هذا فيزكونهم ويعدّلونهم ولا يجرِّحونهم ولاينتقدونهم مستَدِلِّين بما أثنى الله عليهم أطيب الثناء ووَصَفَهم أحسن الصفة، وبما كان عليه حيواتهم الطيبة.

       وأما الأستاذ المودودي فهو – ضدّ ذلك – لايعتقد صحابيًا سواء كان خليفةً راشدًا أو غيره أو مُبَشَّرًا بالجنة أو غيره، أو بدريًّا أو غيره أو شهد بيعة الرضوان أو لم يشهدها – مقياسًا للحق ولا متساميًا عن الانتقاد ولاجديرًا بالتقليد، أليس ذلك معارضةً واضحةً للكتاب الله وللمبادئ المقررة.

       «وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (التوبة/100)

       تأملوا كيف بشَّرَ الله تعالى في كتابه الخالد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسانٍ برضاه عنهم فرضوا عنه وأعدَّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وذلك الفوز العظيم.

       وهنا يطرح السؤال نفسه هل يرضى الله عمَّن ليسَ مقياسًا للحق، وليست أقواله وأفعاله على الحق، والتي فيها زيف وزيغ، ومن هو موضع الانتقاد والجرح، ومن لايُقلَّد تقليدًا ذهنيًّا؟ ومعنى هذه الآية أنَّ جميع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسانٍ مشرَّفون برضا الله وفضله والخلود في الجنة. وأما المودودي فهو يكذّب ذلك، ولا يرى إنسانًا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد ولا أهلاً للعبودية الذهنية، وهل يستحق الخلود من ليس مقياسًا للحق، ومن هو موضع الجرح والانتقاد؟ أليس هذا الخلاف مبدئيًا؟

       «لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا» (الفتح/18-19) تأمَّلوا في هذه الآية، كيف أعلن الله تعالى عن رضاه عن الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان والذين قد بلغ عددهم ألفاً وخمس مائة، وكل ذلك بأسلوبٍ مؤكد، غير أنَّ المودودي لايرى قول واحدٍ منهم وفعله مقياسًا للحق وآلة له، ولا أهلاً للتقليد والعبودية الذهنية. أليس هذا خلافًا مبدئيًا، وأليس هذا الرأي زيغًا وضلالا؟

       «يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (التحريم/8) لقد وعد الله تعالى النبيّ وأصحابه بأنّه لايخزيهم ويفيض عليهم بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ويُجِيْبُ دعاءهم بإتمام النور والمغفرة، وهذا أقوى شاهدٍ على حسن عاقبتهم، أفبعد هذا يُقالُ عن صحابيٍ أنه ليس مقياسًا للحق وأنه موضع الجرح والانتقاد، وأنه يجوز الاستنكاف عن تقليدهم، أليس هذا البند من الدستور معارضًا للقرآن معارضةً صريحةً؟ وأليس هذا خلافًا مبدئيًا؟ إنَّ القرآن يُشرِّف جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم المؤمنين بهذه البشارة، والمودودي لايرى أيَّ فرد منهم مقياسًا للحق، ولامتساميًا عن الانتقاد، فيا للعجب!

       قال الله تعالى: «لاَيَسْتَوِيْ مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتحِ وقَاتَلَ أُوْلئكَ أعظَمُ درجةً من الذِّيْنَ أنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوْا وكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنىٰ واللهُ بِما تَعْمَلُوْنَ خَبِيرٌ»(الحديد/10) لقد نصَّ الله تعالى في هذه الآية على فضل من أنفقوا وجاهدوا قبل فتح مكة من الصحابة، ووعد جميعهم الحسنى، وهل يَسْتَحِقُّ الحسنى من هو موضع الجرح والانتقاد ومن ليسوا على الحق؟ أليس هذا البند معارضًا للقرآن، أو ليس هذا الخلاف مبدئيًّا؟

       «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وتَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِالله» (آل عمران/110).

       الخطاب في الآية موجَّهٌ أوّلاً إلى الصحابة الكرام الذين جَعَلَهم الله خيرَ الأمم وأفضلَهم، فالذين هم موضع الجرح والانتقاد، والذين ليسوا مقياسًا للحق وأهلاً للتقليد كيف يستحقون هذا اللقبَ العظيم والمنقبةَ الحسنة؟ وهذا يَعُمُّ الصحابة كلهم، إلا أنَّ المودودي لايرى أحدًا من الصحابة ومن بعدهم وأقوالهم وأفعالهم مقياسًا للحق ولا متساميا عن الانتقاد والجرح ولا أهلاً للتقليد والعبودية الذهنية. أهذا خلاف فرعيّ أم مبدئيّ؟

       « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (البقرة/143).

       تأمّلوا في هذه الآية، فقد جعل الله فيها الأمة المحمدية – والصحابة هم المخَاطَبون الأولون منها – أمةً معتدلةً بعيدةً عن الإفراط والتفريط سائرةً على الصراط المستقيم، ليكونوا شهداء على الأنبياء السابقين ويكون الرسول شهيدًا عليهم، بحكم كونه خبيرًا بأحوالهم، فهذه الآية تدل دلالةً واضحةً على تعديل الأمة المحمدية والصحابة الكرام وفضلهم، غير أنَّ المودودي لايرى فردًا من الأمة والصحابة مقياسًا للحق ومتساميًا عن الانتقاد والجرح ولا أهلاً للتقليد، بل ينكر كل ذلك. أهذا خلاف فرعي أم مبدئي؟

       «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيٰتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف/156-157).

       لقد أُثْبِتَ لأمة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام لاتباعهم الرسول النبيّ الأميّ ما للأمة المحمدية – والصحابة هم المخاطَبُون الأولون منها – من فضائل ومناقب ورحمةٍ واسعةٍ، وهذا يَعُمُّ الصحابة كلهم، إلا أنَّ المودودي رغم فضائلهم ومناقبهم وتمتعهم بالرحمة الواسعة لايرى أحدًا منهم مقياسًا للحق ومتساميًا عن الانتقاد والجرح ولا أهلاً للتقليد.

       أليس البند السادس معارضًا لهذه الآية؟

       هذه الآيات التسع لها صلة صراحةً بجليل مناقب الصحابة الكرام، وأما الآيات التي لها صلة إشارةً أو دلالةً بهم فهي كثيرة جدًّا نتركها خوفًا من التطويل.

       أما الأحاديث الصحيحة فقد وردت في فضل الصحابة ومناقبهم، لحدِّ أنها إذا جُمِعَت كانت كتابًا كبير الحجم، غير أني أكتفي هنا بأحاديث عدة، عملاً بمبدأ «ما لا يدرك كله لايترك كله».

       (1) عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني ما أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر – وزاد الحافظ أبونصر القصَّار– فإنَّهما حبل الله الممدود، فمن تمسَّكَ بهما تمسَّكَ بالعروة الوثقى لا انفصام لها. (مرقاة المفاتيح، رواه الترمذي رقم الحديث: 35960، وحسَّنه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبَّان والحاكم والطبراني عن أبي الدرداء والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنهم).

       يرى المودودي أنَّ أبابكر وعمر ليسا مقياسين للحق ولا متسامين عن الانتقاد ولا جديرين بالتقليد، أليس هذا ردًّا لهذا الحديث.

       (2) عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم إنّ بعدهم قومًا يشهدون ولا يستشهدون.. (رواه الشيخان).

       يُنكر المودودي كلّ ذلك قائلاً: كان الصحابة يطعن بعضهم على بعضٍ، وليس أحد منهم مقياسًا للحق ولا متساميًا عن الانتقاد.

       (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعِيَ من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعيَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب الصيام باب الريَّان، فقال أبوبكر رضي الله ما على الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله! فقال: نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبابكر (رواه البخاري رقم الحديث: 1764).

       تأملوا في هذا الحديث الذي يُفيد أنّ أبابكر يحوي جميع خلال الخير، غير أنَّ المودوديَّ لا يراه مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا مطاعًا طاعةً ذهنيةً.

       (4) إنَّ من أمَنِّ النَّاس عليّ في صحبته وماله أبابكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبابكر (رواه البخاري رقم الحديث: 3381)

       لقد صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أبا بكر أحقُّ بخلته وصداقته من دون الناس جميعًا، وأنه قدوة الصحابة وخليفته بعده، غير أنّ المودودي لا يراه مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا أهلاً للتقليد.

       (5) «عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بهما وعضوا عليها بالنواجذ» (رواه أحمد رقم الحديث: 2991 وأبوداود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح)

       تأملوا في هذا الحديث، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين سواء منهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وحسن رضي الله عنهم، غير أن المودودي لايراهم مقاييس للحق ولا متسامين عن الانتقاد ولا أهلاً للتقليد. أهذا خلاف فرعي؟ أليس هذا ردًّا صريحًا للحديث؟.

       (6) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قيل من هم يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي (مختصرًا عن المشكاة) رواه الترمذي وأحمد وأبوداود وقال الترمذي: حسن غريب.

       لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع الصحابة منجاةً لأمته، غير أنَّ المودودي لايرى أحدًا منهم مقياسًا للحق ولا متساميًا عن الانتقاد ولا أهلاً للتقليد.

       (7) عن أبي مسعود رضي الله عنه: (مختصرًا) أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، اختارهم الله بصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. (رواه رزين)

       هل يعترف المودودي بفضل الصحابة هذا؟ أليس البند السادس وما جاء في كتابه: «تفهيمات» يُهِيْنُهم غاية الإهانة؟

       (8) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم أناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر. (زاد زكريا بن أبي زائدة عن سعد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي منهم أحد فعمر) صحيح البخاري، رواه مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة.

       (9) لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب. (رواه الحاكم في المستدرك [رقم الحديث: 4470] وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

       (10) إنّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. (رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر وأحمد وأبوداود عن أبي ذر عن أبي هريرة [رقم الحديث 2572])

       عمر بن الخطاب – رغم ما يتمتع به من الفضل – ليس مقياسًا للحق لدى المودودي ولامتساميًا عن الانتقاد، ولا أهلاً للتقليد والطاعة. قد اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ملهما من الله جارحة للحق وعضوًا للحقانية وأهلاً للنبوة، غير أن المودودي يكذب كلَّ ذلك، فشتَّان بينهما.

       (11) حمزة عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا نائم شربت يعني اللبن، حتى أنظر إلى الريّ يجري في ظفري أو قال في أظفاري ثم ناولت عمر قالوا فما أوَّلت، قال: العلم. (صحيح البخاري، رقم الحديث:3405).

       تأملوا ما أعظم منقبة عمر هذه! وما أكبر البند السادس معارضةً لها!

       (12) عبد الله بن مغَفَّل رضي الله عنه: الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أحبّهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى يوشك أن يأخذه (رواه الترمذي [رقم الحديث: 3797] وأحمد والبخاري في التاريخ).

       لقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصحابة ومناقبهم وتعديلهم والثناء عليهم، ومن تبعهم بإحسان، أكتفي بما ذكرت من الآيات والأحاديث، خوفًا من التطويل، مما يُفِيْدُ بوضوحٍ أنّ المودوديَّ وجماعته ناكبون عن الصراط المستقيم؛ فعليهم أن يعوا ويُصْلِحوا معتقداتهم وأعمالهم، وأن لايبتعدوا عن مذهب السلف الصالحين، ويتجنبوا غياهب الضلال، وإنما المنجاة هو اتباع السلف وأهل السنة والجماعة.

       الأحاديث التي سُقْناها هي غيض من فيض، وقد اكتفينا بهذا القدر، فإن أتينا بكل ما ورد من الأحاديث أو معظمه طال المقال، وفي هذا القدر كفاية للقراء المنصفين.

       يقول بعض الناس: «إنَّ مقياس الحق هو النبي المرسل، يعصمه الله تعالى عن الخطأ، فإذا أخطأ تداركه الوحي، فالمعصوم – وهو النبي – هو مقياس الحق، لاغير، وهذا هو معنى البند السادس»

       إلا أن هذا تاويل معارض لما قال المودودي، حمل لقوله على ما لايرضاه، وذلك لما يأتي:

       (أ) المعنى الصريح لما قال المودودي هو عدم كون الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم مقاييس للحق، ومتسامين عن الانتقاد، وجديرين بالعبودية الذهنية. رغم أنهم معصومون وموحى إليهم من الله.

       (ب) ولما لم تكن العصمة مما يلزم النبوة لزومًا ذاتيًا (كما جاء في «تفهيمات» 2/43) فلا يستحيل انفكاك العصمة عنهم، فلا تدوم معهم، فلا يكون نبي من الأنبياء مقياسًا للحق.

       (ج) قال المودودي في «تفهيمات» (2/43): «في بعض الأحيان نزع الله العصمة عن كل نبي من الأنبياء وجعلهم يرتكبون الخطاء» وهذا يعُمُّ الأنبياء كلهم بما فيهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون نبي من الأنبياء حتى محمد صلى الله عليه وسلم مقياسًا للحق؛ لأنه من يضمن لنا أنَّ قولهم هذا صدر عنهم في زمنٍ لم ينزع فيه العصمة عنهم. لم يقل المودودي: «إنَّ الله يُصلح هذه الأخطاء بعد ارتكابها» وإنما قال: «يجعلهم الله يرتكبون هذه الأخطاء وينزع عنهم العصمة؛ لئلا يعتقدهم الناس آلهة، ويعرفوا أنهم أفراد من البشر» وهذا يَدُلُّ على الدوام.

       (د) وليس من الصواب حصر مقياس الحق في المعصوم والموحى إليه من الله.

       لأنَّ لفظة «معيار» المقياس هي ما يعرف به وزن الشيء، وهو الميزان، وأما ما يعرف به صفة الشيء من الجودة والرداءة فهو المحك. فكل من وافق قوله أو فعله قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، هو مقياس الحق، سواء كان معصومًا أو محفوظاً أو موحى إليه من الله، أو ملهما أو محدثا. وكل من هو مؤمن إيمانًا كاملاً ومتبع الشريعة وسالك على الدرب المستقيم فهو مقياس الحق، ولاسيما من وردت فيهم الأحاديث النبوية، فهو مقياس الحق لامحالة؛ لأنَّ النبيَّ لايقول إلا بما يُوْحى إليه «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوٰى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوْحٰى» (النجم/4) وخاصةً الذين وردت فيهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتي تأمر باتباعهم اتباعًا مطلقًا مثل: «واتَّبِعْ سَبِيْلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ» (لقمان/15) قد جعلت في هذه الآية الإنابةُ إلى الله سببًا للاتباع المطلق. أو مثل: «يٰأيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوْا مَعَ الصَّادِقِيْن» (التوبة/119) فقد جُعِلَ في الآية الصدق علَّةً للمعية الحقة. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدٰى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المؤْمِنِيْنَ نُوَلِّه مَا تَوَلّٰى وَنُصْلِه جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْرًا» (النساء/115) فقد أوعد الله تعالى بمشاقة الرسول وترك اتباع السواد الأعظم، مما يُفيد إجماع الأمة، واتباع السواد الأعظم. وقال تعالى: «أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَكَانُوْا يَتّقُونَ لهم البُشْرى في الحَيَاةِ الدُّنيا وفي الآخرَة، لاَتَبْدِيل لكلماتِ الله ذَلِكَ هو الفوز العظِيمَ» (يونس/64) قد جُعِلَ في الآية المؤمنون إيمانًا كامِلاً والمتقون تقوى كاملةً، أولياء الله.

       وقال تعالى: إنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلآئِكَةُ أنْ لاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُم تُوْعَدُونَ، نَحْنُ أوْلِياءُكم في الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِيْ أنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيْهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَّحيم» (فصلت/30-32).

       قد جعل الله تعالى في الآية الإيمانَ والاستقامة عمادًا وسببًا لنزول الملائكة.

       جملة القول أنَّ الإنابة إلى الله، والصدق، واتباع سبيل المؤمنين، والولاء، والاستقامة التي جاءت في الآيات والأحاديث هي سبب الاعتماد في الدين، وليس عماده على العصمة. كذلك تدلُّ الآياتُ والأحاديثُ على أنَّ وقاية الله ليست مقصورة على النبوة، نعم وقاية الأنبياء يُعَبَّر عنها بالعصمة، وأولياء يُعَبَّر عنها بالحفظ والوقاية. فبينهما فرق اصطلاحاً لاحقيقةً، غير أنَّ آثار الوقاية تختلف عن آثار العصمة. والله أعلم.

       وخلاصة القول أنَّ البند السادس من الدستور الذي وضعه المودودي خاطئ ومعارض للقرآن والسنة ولمعتقدات أهل السنة والجماعة، مما يُضُرّ بالإسلام إضرارًا بالغًا؛ فعلى الناس أن يبتعدوا عنه كلَّ الابتعاد.

       والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. اللهمَّ أرِنا الحق حقًا وارزقنا اتباعَه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، آمين.

(تمّ الفراغ من التعريب في الحادية عشرة والنصف من يوم الثلثاء 23/ ذوالحجة 1431هـ الموافق 30/نوفمبر 2010م)

* * *


(*)          أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ، ديوبند.

(1)          دستور الجماعة الإسلامية (دستور جماعت إسلامي) ص:5.

(2)          المصدر السابق، ص:4.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس – أبريل 2011م ، العدد : 4 – 5 ، السنة : 35

Related Posts