دراسات إسلامية

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

تعتبر الثروة البشرية هي أغلى ما تمتلكه الأمم من ثروات، فالإنسان هو باني الحضارات ومحرك عجلة التاريخ، وقد عرفت الشعوب المتقدمة قيمة الإنسان، واستثمرت فيه الكثير من إمكانياتها، فأنشأت له المدارس والجامعات والمعاهد العملية، وكرمت النابهين والنابغين ووضعتهم في أرفع المناصب، وجنت ثمار ذلك مجدًا وقوةً، تشهد بها شعوب الأرض. وقد جهلت شعوبًا أخرى تلك الحقيقة، فعاشت عصورًا من الظلام ومضت بلا ذكر. وقد وضع علماء الاقتصاد، العنصر البشري، في مقدمة عناصر الإنتاج، باعتباره العنصر الرئيسي والأهم، في أية عملية إنتاجية، وتم تقسيم القوى البشرية، إلى قسمين رئيسيين، هما العقول المفكرة والأيدي العاملة. وقد عرفت العديد من دول العالم المتقدمة، قيمة هذا العنصر البشري، وإنه هو أساس بناء الحضارات، وليس الثروات الطبيعية أوغيرها من العناصر والموارد، فشهد القرنان الماضيان حملات عديدةً من الهجرات عبر قارات الدنيا الخمس، سعت فيها الدول المتقدمة في شمال الأرض وغربها، لاجتذاب العقول والخبرات والأيدي العاملة الماهرة، من تلك التي كانت ولا تزال لا تعرف قيمة الإنسان. وفي أقصى شرق الأرض، كانت هناك دول أخرى، لم تكن تملك من الثروات الطبيعية، ومقومات الحضارة، سوى الإنسان، ففطنت لقيمة هذه الثروة، وبنت حضارتها الصناعية ارتكازًا على وفرة الأيدي العاملة الماهرة، وهو ما أطلق عليه علماء الاقتصاد الارتكاز على الميزة النسبية، وشهدت هذه الدول تطورًا صناعيًا واقتصاديًا كبيرًا حتى أطلق عليها اسم «النمور الاقتصادية». كما يقاس تقدم الأمم بقدر ما تستثمره في قواها البشرية، ففي الوقت الذي تنفق فيه العديد من دول العالم المتقدمة، المليارات لتنمية مواردها البشرية، واجتذاب العقول، والخبرات والأيدي الماهرة، من شتى أنحاء العالم، عبر فتح أبواب الهجرة الشرعية، نجد دولاً أخرى تخلفت عن ركب الحضارة، حيث جهلت قيمة ثرواتها البشرية، بل وتحولت هذه الثروة البشرية في نظر حكام تلك الدول إلى عبء ثقيل تسعى للتخلص منه بكل السبل، بل وتنفق الملايين من أجل ذلك، فهجرها الآلاف بل الملايين من خيرة شبابها، ومضوا في طريقهم للمساهمة في بناء حضارات أخرى. ولبيان قيمة أخرى من القيم الحقيقية للثروة البشرية، فإن الوقائع التاريخية جميعها تؤكد، أن الثروة البشرية، كانت ولا تزال هي عامل الحسم الأهم، في الحروب والصراع بين الأمم.

       وتعتبر المشكلة السكانية هي العامل الوحيد المشترك بين الدول المتقدمة وتلك المتخلفة، التي يطلق عليها تأدباً «دول نامية»، مع الاختلاف في المنظور، بالنسبة لكل من الفريقين، وبعيدًا عن حسابات الكثافة السكانية، فبينما يسعى الفريق الأول إلى زيادة وتنمية ثروته البشرية، ويبذل كل جهد من أجل ذلك، يسعى الأخير إلى التخلص منها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد قررت حكومة كيبك إحدى ولايات «كندا» تخصيص منحة لكل من ينجب أطفالاً جددًا، فخصصت خمس مأة دولارًا للطفل الأول، وأربعة آلاف وخمس مأة للطفل الثاني، وست آلاف للطفل الثالث وما بعده…(1) كما قررت الحكومة الإيطالية صرف مبلغ ألف يورو شهريًا كمكافأة للأسرة التي تنجب طفلها الثاني، وذلك لتشجيع الإنجاب الذي تراجع بشكل مخيف في «إيطاليا»، فقد أكد «أنطونيو ماروني» وزير العمل والسياسة الاجتماعية حينئذ، أن الحكومة الإيطالية اتخذت هذا القرار، عقب تراجع المواليد بشكل يهدد بانقراض الشعب الإيطالي قبل أقل من 200 عام، وأوضح «ماروني» أن الأسرة التي تتمتع بأكثر من طفل عليها أن تتوجه إلى رئاسة الحي التابعة له لتقدم طلب موثق بشهادة ميلاد الطفل الثاني «المحظوظ» ليصلها الشيك الشهري الذي يساهم في تحمل نفقات المولود…(2) ومثل هذا النظام أو السابق هما المتبعان في أكثر من دولة من دول العالم الغربي. كما كشفت صحيفة «أساسها شيم بون» اليابانية عن حالة من الذعر تملكت الحكومة اليابانية في مواجهة ما أسمته بأزمة قومية، تتلخص الأزمة التي تواجه «اليابان» في انخفاض نسب المواليد، بعد أن أكدت الدراسات أن امرأة اليابان تنجب بمعدل 29,1 طفل على مدار حياتها، وتوقعت الدراسات أن يبلغ عدد سكان الشعب الياباني عام 2050م مائة مليون نسمة نتيجة التنقاص المتزايد في المواليد، ةعلى الفور بدأت الحكومة اليابانية في دراسة المشكلة وأسبابها والبحث عن الحلول الفعلية والجادة لها، وتوصلت الأبحاث الحكومية إلى أن انخفاض نسب المواليد يرجع إلى انخفاض عدد اللقاءات الحميمة بين الزوجين، وتضاعف حالات الطلاق، وعلى الفور بدأت الحكومة في التصدي للمشكلة، باقتراح العديد من الحلول والإجراءات العلمية، من بينها إجبار أصحاب الشركات والمصانع، على زيادة إجازات العمال، وتقليل ساعات العمل، دون المساس بحقوقهم المالية، كما قررت السلطات المحلية مكافأة المرأة التي تنجب الطفل الثالث بمبلغ مليون ين ياباني، بالإضافة إلى منحها كارت تخفيض دائم لكافة مشترياتها من المطاعم والمحلات التجارية، ولن يكون غريباً إذا علمنا أنه مع هذا الحرص الشديد على زيادة عدد المواليد تعتبر «اليابان» من أكثر شعوب العالم كثافةً سكانيةً، ويبلغ سكان اليابان 130 مليون نسمةً، وهو ما يعادل أو أكثر قليلاً من ضعف عدد سكان «مصر» تقريباً، بينما تبلغ مساحتها الإجمالية 881 ألف كيلوا متر مربع، أي أقل من مساحة مصر بمقدار 119 ألف كيلو متر مربع. وعلى الرغم من افتقار اليابان للثروات الطبيعية إلا أنها نجحت في أن تكون في مقدمة ركب الحضارات. وتعتبر «اليابان» خير مثال لدحض مزاعم هواة تدمير ثرواتنا البشرية، التي تتركز مزاعمهم دواماً، على عدة ذرائع من أهمها، ارتفاع الكثافة السكانية، وارتفاع نسبة البطالة، وإن دلت هذه النسب المرتفعة على شيء، فإنها لا تدل إلا على العقم الذي أصاب عقول أصحاب هذه الذرائع، وعلى فشلهم الذريع في إدارة تلك الثروات، فها هي اليابان بلا موارد طبيعية أو ثروات خاصة، تدعو سكانها لزيادة الإنجاب. وهناك مثال آخر حول حسن إدارة الثروة البشرية، والذي تعتبر «الصين» أنجح نماذجه، فعلى الرغم من بلوغ تعداد سكان دولة الصين الشعبية ۳,۱ مليار نسمة، أي أكثر من سدس سكان الكرة الأرضية، فقد أجادت توظيف تلك الثروة البشرية الضخمة، في مساحتها الصغيرة نسبيًا، لهذا الكم من البشر، والتي تبلغ 6,9 مليون كيلوا متر مربع فقط، «17 ضعف سكان مصر و9 مرات ضعف المساحة فقط» وقد بلغ إجمالي الدخل المحلي الصيني 7,۵ تريليون دولار عام 2002م، بلغ نصيب الفرد منه 4,4 ألف دولار، وقد نجحت الصين بحسن إدارتها لثروتها البشرية في التحول إلى قوة عظمى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً يهابها العالم أجمع، وتعتبر الهند أيضا ثالث أبرز الأمثلة في هذا الاتجاه والتي يبلغ عدد سكانها 3,1 مليار نسمة بينما تبلغ مساحتها 16,3 مليون كليوا متر مربع.

       وتأكيدًا على مقولة أن القوى البشرية كانت عامل الحسم الأكبر في الحروب والصراع بين الحضارات والأمم والشعوب المختلفة، يأتي هذا المثال، من دولة الاحتلال القابعة على حدودنا الشرقية «إسرائيل» فقد فطنت الصهيونية منذ بداية تأسيس الدولة العبرية، إلى أهمية الكثافة السكانية، لضمان بقاءها على أرض فلسطين، فلم تتوقف عملية الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين يوماً، منذ أكثر من نصف قرن وحتى يومنا هذا، وقد ثار جدال واسع داخل أروقة الحكومة الإسرائيلية، عقب دراسة حكومية، أكدت انخفاض نسب المواليد، داخل دولة إسرائيل، البالغ تعداد سكانها 5,6 مليون نسمة، وأشارت الدراسة إلى نسبة سكان الدول العربية من اليهود ستبلغ 70٪ مقابل 30٪ للسكان العرب عام 2025م، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تدشين حملات جديدة لاجتذاب المهاجرين الجدد إلى أرض فلسطين، وقد تنازلت الحكومة الإسرائيلية عن عدد من الشروط الصارمة لعملية التهويد ومنح الجنسية الإسرائيلية للمهاجرين الجدد، فقط في مقابل الحصول على كثافة سكانية أعلى تضمن لدولة الاحتلال البقاء على حساب أصحاب الأرض الأصليين…(3)

*  *  *

المراجع:

جريدة أخبار العالم الإسلامي العدد 1208 بتاريخ 11 مارس عام 1991م الموافق 25 شعبان عام 1411هـ.

جريدة الوفد العدد 2536 بتاريخ 30/11/2003م الموافق 6 شوال عام 1424هـ .

جريدة الوفد العدد 5697 بتاريخ 21/5/2005م .

*  *  *


(*)            6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

                الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

                الجوّال : 0101284614

                Email: ashmon59@yahoo.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35

Related Posts