دراسات إسلامية
بقلم : محمد ساجد القاسمي (*)
لقد كان محمد بن القاسم الثقفي حاملُ لواء الإسلام إلى شبه القارة الهندية، عجيبةً من عجائب الدهر ونادرةً من نوادر الزمان، وبطلاً من الأبطال المغاوير الذين خلَّدهم تاريخ الفتوح والبطولات.
لم يكن بطلاً من الأبطال الذين يخلقهم خيال الروائي لروايته أووهم القاص لقصته أو صانع المغامرة لمغامرته.
إنه كان بطلاً في أوسع معنى الكلمة وأدقه، كان بطلاً في دنيا الحقيقة وعالم الواقع. كان فتى كغيره من الفتيان، غير أن الله قد أودع ما بين جنبيه قلبًا عظيمًا وهمةً عاليةً تتضاءل دونها شمُّ الجبال، وتصغر أمامها عظيمات الأمور.
ولا عجب أن يكون الفتى على هذا الطراز الفريد والنمط العجيب، وإنما أعجب العجب أن لايشبه المرء آباءه وأجداده، ومن أشبه آباء ه فما ظلم.
لقد أنجبت أسرة الفتى رجالاً شُمَّ الأنوف ، بيض الوجوه ، كرام الأحساب، كان لهم الجاه والرئاسة والقيادة في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أسلم إلى بعضهم القيادة وعقد الألوية، فخرجوا مجاهدين في سبيل الله، يفتحون البلاد بلدًا إثر بلدٍ، ويُسِقطون معاقلَ الشرك معقلاً بعد معقل.
وهم ثقيف في الطائف التي أنعم الله عليها بالخصوبة والنماء، وكثرة الفواكه الطيبة، والأجواء الباسمة والمواسم اللطيفة. فمعظم مساكنها كانت مساكن ثققيف، وكان لبعضهم وجاهة في الناس وعراقة في النسب ورئاسة في القوم.
ألم يكن منهم عروة بن مسعود الثقفي وجيه قومه و عظيم منطقته الذي سوَّت به قريش في عنادها واستكبارها محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ’’لَوْلا نُزِّلَ هذَا القُرآنُ علَى رَجُلٍ مِنَ القَريَتَيْنِ عَظِيم‘‘
ألم يكن منهم معتب بن مالك الثقفي الذي أرسله محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه ليبشِّرهم بالدين الجديد الذي يوضح معالم الهدى ويخرج من الظلمات إلى النور.
ألم يكن منهم غيلان بن سلمة الذي كان له الرئاسة والسيادة في قومه، وكان يفِد على كسرى يوم كانت وفود العرب تفد على الأكاسرة، وتفاخر بآبائهم وتنتقص كل أمة غير العرب.
ألم يكن منهم القاسم بن محمد- أبوفتانا محمد- الذي كان واليا على البصرة، فضبط الأمور، و بسط العدل بين الناس.
ألم يكن منهم الحجاج بن يوسف الثقفي – ابن عم فتاناً – الذي هومن هو في إراقة الدماء وكثرة المظالم والقسوة على الناس وإخافتهم في جانبٍ، وإسكان الفتن وكبت الثورات وتوسيع رقعة المملكة الإسلامية في جانبٍ آخر.
كان فتاناً من هؤلاء القوم الذين كانوا يرون الموت على الفراش عارا لهم؛ فلا عجب أن قُدَّعلى هذا الطراز ونسج على هذا المنوال.
لقد تعجل الحجاج مراتب السيادة والقيادة، كأنه كان معها على رهان، فقد ساد وهوفُويق الخامسة والعشرين. كان في بداية أمره معلم صبيان، ثم أصبح شرطيًا في شرطة عبد الملك بن مروان، ثم صارت إليه ولاية الحجاز وهو في الثالثة والثلاثين، ثم صار أميرًا للعراق وهو في الخامسة والثلاثين.
لقد فاق الفتى ابن عمه الحجاج، بل فتيان ثقيف جميعا، بل آلافاً مؤلفةً من رجال المسلمين وقُوادهم، وكثرةً كاثرةً وأمةً ساحقةً في العالم شرقه وغربه ، قديمه وحديثه، عربه وعجمه، يوم فتح الله على يديه السند للمسلمين وله خمس أو سبع عشرة سنة.
***
جلس الشيخ محمد بن الحكم – جد الفتى- في داره الرحيبة بالطائف، يقضي الليل قرآنًا وتسبيحًا، ويتمنى أن يكون لابنه غلام سري، فيدعو الله في هدوء الليل وسكونه.
حقق الله أمنية المتمنِّي وأجاب دعوة الداعي إذ اندفعت جارية تزِفُّ إليه البشرى السارَّة بولادة الغلام السري، فسماه محمدًا، وانطلقت البشارة إلى جميع دور ثقيف، كما استقبلت الطائف هذه البشارة الكبرى في فرح وسرور.
نشأ الطفل الرضيع كما ينشأ الأطفال الُرضَّع في الطائف، ولما عيِّن الحجاج بن يوسف واليًا على العراق سنة75هـ، أصبح الآمر الناهي والحاكم المطلق فيها، فكان يُعيِّن الولاة ويعزِلهم بكلمة مسموعة منه لدى الوليد بن عبد الملك. عين الحجاج القاسم بن محمد – أبا الفتى – والياً على البصرة، وهنا انتقل الطفل مع أبيه إلى البصرة، ولم يبق في ذاكرته من ذكريات الطائف وبساتينها إلا الشيء اليسير.
ولما بنى الحجاج بن يوسف مدينة واسط ليحل بها جند الشام، انتقل قومه بنو عقيل إليها، كما سكن بها هذا الطفل مع أبيه.
لقد سمع الطفل في العراق عن الحروب التي كانت تنشب بين المسلمين والكفار في مختلف أقطار الأرض، كما سمع أنباء المعارك التي يخوضها المسلمون مع الخوارج والفئات الثائرة. كل ذلك أثار كامن الشوق في نفسه للخروج في سبيل الله غازيًا مجاهدًا.
وقد بدأ يتلقى دروس الجندية وهوفي نحوالحادية عشرة، فقد أرسله الحجاج مع فرقة عسكرية لمقاتلة عبدالرحمن بن الأشعث، ثم خرج مع الحجاج نفسه للمعركة التي دارت بين الحجاج وعبد الرحمن بن الأشعث في ديرالجمام.
لم يُعجِب الفتى أن يرى المسلمين يقاتلون ويقتلون فيما بينهم، إنما أحب أن يخرج إلى بلاد الكفر يغزوها وينقذ أهلها من ظلمات الكفر إلى نورالإيمان. وللمسلمين مندوحة عن الحروب الداخلية في رقاع فسيحة من الأرض أن يخرجوا إليها ويبلغوها رسالة الإسلام.
لعل الأنباء لم تزل تتناهى إلى مسامعه عن أهل السند والهند وعبادتهم الأصنام وصبهم الذهب والفضة عليها. فهذه الأنباء طوحت بخياله هذه الأرض الساحرة البعيدة، وعزم أن يحمل إليها لواء الإسلام.
***
لقد سمع الفتى محمد بن القاسم عن السند منذ طفولته الباكرة، فراوده خيالها، ولم تكن غريبة على المسلمين كل الغرابة، وكان لهم سابقة غزو فيها، فقد أرسل عبد الله بن عامر والي البصرة على عهد عثمان بن عثمان رضي الله عنه في العام الثلاثين من الهجرة عبد الله بن سوار إلى ثغر السند، وعينه عاملا عليها.
ثم انقضت عشرة أعوام في موادعة مع المسلمين، حتى جاء العام 44من الهجرة، فأرسل الحكم بن عمرو الغفاري المهلب بن أبي صفرة لغزو السند من جديد. ثم اختفت السند من مسرح التاريخ الإسلامي، وإنما كان خلفاء بني أمية يكتفون بإرسال العمال إلى السند لجمع الخراج.
خلال هذه الفترة نشأت في السند جالية عربية مسلمة، وأخذت تتسع قليلا قليلا، وكانت تقتضي سهر العمال عليها والعلاقة معها. في السند جزيرة كانت تسمى جزيرة الياقوت، وكانت فيها نساء مسلمات ولدن من آباء مسلمين ونشأن فيها. أراد ملكها أن يهديهن إلى الحجاج والي العراق ويتقرب بهن إليه. ركبت هؤلاء النسوة سفينةً تحملهن إلى العراق، فبينما كانت تمخر عباب البحرإذ هجمت عليها قراصنة الديبل – التي تقع مكانها اليوم مدينة كراتشي – وأخذوا ما معهن، واتخذوهن أسيرات. اصطرخت النسوة واستغثن، واستنجدت إحداهن صارخة: واحجاج! كما ارتفع فيما بعد في العصر العباسي صوت امرأة عربية لطمها علج رومي في عمورية: وامعتصماه!
لم يُضِع هدير البحر وصوت أمواجه وزمجرة رياحه هذا النداء الخارج من قلب عربية كسيرة من النساء الكسيرات. بلغ النداء مسامع الحجاج، فخفَّ إلى النجدة وأسرع للمعونة قائلا: لبيك أيتها المرأة العربية!
سلك الحجاج في بداية الأمرطريقه الدبلوماسي، وكان داهيةً في السياسة والدبلوماسية، فأرسل إلى الملك ’’داهر‘‘ ملك السند أن ينقذ هؤلاء النسوة الأخيذات الضعيفات من أيدي قراصنة الديبل، ويعاقبهم على هذه الفعلة الشنعاء. كتب الملك ’’داهر‘‘ إلى الحجاج معتذِرًا: ’’إنه لايستطيع أن يتدخل في الأمر وإن سلطانه لا ينبسط عليهم‘‘
قام الحجاج ليتدخل في الأمر، فأرسل جماعةً من المقاتلة على رأسهم ابن نبهان إلى مدينة ’’الديبل‘‘ مهد القراصنة ووكراللصوص الفاتكين، فقُتِلَ القائد ابن نبهان، فانكسرت روح الجماعة المقاتلة. ثم استقدم الحجاج جنديًا اسمه بديل من عمان وأرسله إلى ’’الديبل‘‘ فقاتلهم في شجاعةٍ نادرةٍ واستماتةٍ بالغةٍ، غير أنه ساء له الحظ حيث نفر به فرسه، ولم يستطع كبح جماحه، فانتهز أهل مدينة ’’الديبل‘‘ الفرصة فقتلوه.
كانت الظروف كلها مدعاةً أن يرسل الحجاج جيشًا كبيرًا إلى السند و يُنقذ النسوة المهيضات الضعيفات من أيدي القراصنة وقطاع الطريق، ويسومهم سوء العذاب.
***
لقد ترامت إلى أسماع المسلمين هزيمة البعثات الصغيرة التي أُرسلت إلى السند، لإنقاذ الأخيذات الضعيفات، وقدلقي القائدان ابن نبهان و بديل مصرعهما، فأسفوا وحزنوا.
تميز قلب الشاب الشجاع : محمد بن القاسم غيظاً، وذهب إلى ابن عمه الحجاج وقال له دونما خوف ولاوجل:
– ماذا تفكر يا مولاي وابن عمي! في النسوة الأخيذات وثأر قائدين من خيرة قواد المسلمين؟ هلاَّ أرسلتني إلى ثغر الهند، فأنال إما الشهادة وإما الظفر.
– إني مرسلك مع جيش كبير على رأسه أبو الأسود الجهم.
– لايضرني أن أكون جنديًا في جيش أبي الأسود، مادامت مصالح المسلمين تدعو إلى ذلك.
– أرسلني إلى ثغر السند آتك بالأخائذ الضعيفات، وثأر اثنين من قواد المسلمين.
– يا أخي إنك في عامك الخامس عشر السابع عشر من عمر، ولا ينبغي أن تعقد لك قيادة على جيش في مثل هذه السن المبكرة.
– ما ذنبي يا أخي إن تأخر بي الميلاد، وتقدم ببعضهم، فإن لم تكن ثتق بي فاختبر بلائي.
– إن مصالح المسلمين لا توضع موضع الاختبار. وأخشى أن يقول الناس: إن ابن يوسف يصانع أقرباءه ويحابيهم ويؤثرهم بالمناصب.
– إني لا أبتغي جاهاً ولا منصبًا، وإنما أريد موتةً في سبيل الله.
ابتسم الحجاج ابتسامة ذات معنى، وأمربتجهيز جيش كبير يبلغ عددهم ستة آلاف مقاتل. وزودهم بكل ما يحتاجون في هذه المناطق البعيدة عن قواعد الإمداد و ومراكز التموين.
***
اندفع الشاب محمد بن القاسم ووراء ه جنوده كالسهم إلى الرمية، فأقام في طريقه بـ ’’مكران‘‘ بضعة أيام، ثم عرَّج على مدينتين:’’قتر بور‘‘و ’’أرمائيل‘‘ وفتحهما، وكان فتحهما تمهيدًا للغزوة الكبرى التى تفتح مدينة ’’الديبل‘‘، التي كان منها قطاع الطريق وقراصنة البحر الذين كانوا أخذوا النسوة المسلمات.
ثم توجَّه إلى مدينة ’’الديبل‘‘ المدينة المنشودة، وكان بهذه المدينة صنم كبير عليه هيكل شامخ ذو سارية عالية نصبت بها راية حمراء، إذا هبت الريح طافت بالمدينة المقدسة. وكان أهلها يُجِلُّون هذا الصنم الكبير، ويقربون له القرابين، ويذبحون له النذور.
وكان مع المسلمين منجنيق كبير في جملة عتادهم، يديره خمس مائة رجل. فخندق القائد الشاب، وأنزل الجنود منازلهم ، ونصب المنجنيق أمام المعبد في المدينة، وحاصرها أشدٌ محاصرة، وأخذ الجنود يرمون المعبد بالحجارة، وقد لجأ أهل المدينة إلى المعبد نجاةً بأنفسهم.
لقد ضجَّ أهل المدينة من المحاصرة، والمنجنيق يمطر وابلاً من الحجارة على المعبد، حتى سقطت السارية، فهجم المحاصَرون هجمةَ رجلٍ واحدٍ، فردهم محمد بن القاسم وجنوده على أعقابهم.
كان المعبد عالي الأسوار شامخ الجدران، ولم يكن لأحد أن يتسلقها، فأمر محمد بالسلم فأتي ونصب أمام سوره، فصعد رجل من قبيلة مراد بالسلم على الجدار، وكبَّر تكبيرةً ، وكبر معه المسلمون،ففتحوا المعبد.
لقد سقطت مدينة ’’الديبل‘‘ على أيدي المسلمين، كماسقطت أصنامها. فأنزل محمد جنده في هذه المدينة، واختط لهم ، فاسكنوها. كما بنى بها مسجدًا يؤذن فيه المسلمون، ويصلون، بعد ما كان ترتفع فيها أصوات الطواغيت.
***
ترك القائد الشاب حاميته القوية في مدينة ’’الديبل‘‘ بعد أن فتحها، ثم توجَّه إلى مدينة البيرون التي ينسب إليها الفيلسوف المسلم الكبيرأبوالريحان البيروني.
كتب أهل هذه المدينة إلى الحجاج في العراق مصالحين، فقبل منهم الصلح وأمنهم، فاستقبلوا القائد يُمدِّونه الميرة والمعونة، فترك هذه المدينة وتقدمها إلى مدينة ’’سربيدس‘‘ فآثر أهلها بالعافية على حرب لاتعود عليهم إلا بالخسارة والنكال.
وأما أهل مدينة ’’سبهان‘‘ فقد ركبوا رؤسهم، وقاوموا القائد وجنوده، فباؤوا بالهزيمة.
لقد اتعظ أهل مدينة’’ سدوستان‘‘ بالدرس الذي ألقاه القائد الشاب على أهل ’’سبهان‘‘، فطلبوا الصلح والأمان، فأمنهم وصالحهم، ووظف عليهم الخراج.
لقد كان عمال ’’داهر‘‘ ملك السند وولاته ينهزمون أمام الجيش الإسلامي رجلا إثر رجل. وكان الملك ’’داهر‘‘ وراء نهرمهران منشغلاً بأمواله وقيانه… كأنه لم يبلغ نبأ القائد الشاب وجنوده الذين يوغلون في بلاده، أواستخف بأمرالجيش الإسلامي ولم يُعِرله أيَّ التفات.
عبر القائد الشاب نهرمهران فإذا هويلقى الملك’’ داهر‘‘ على الفيل المطهم،في أكمل عدة وأحسن عتاد. وقد أحاط به الفيلة وعليها فيَّالوها إحاطة َالسوار بالمعصم.
ولما رأت الخيول العربية الفيلة المهولة المفزعة نشطت ونبضت بها كرائم عروقها، ورأت الفيلة الخيول وعليها بشر كانهم جن أخرجت الصئ ونفرت.
التقى الجمعان في معركة شديدة، تتخاذل فيها السيقان وتنخلع القلوب،حتى انكشفت المعركة عن هزيمة الملك ’’داهر‘‘ وجنوده، وأما الملك فقد ترجل وخلع الدروع وأسلم ساقيه ممعنًا في الهرب، فسقط إعياءً فقتل مجندلاً متعفرًا، وكان مقتله بيد شاب غض الإهاب اسمه القاسم بن ثعلبة بن عبد الله الطائي، وقال مفتخرًا:
والخيل تشهد يوم ذاهر والقنا
ومحمد بن القاسم بن محمد
أني فرجت الجمع غير معرد
حتى علوت عظيمهم بمهند
فتركته تحت التراب مجندلا
متعفرالخدين غير موسد
كان مقتل ’’داهر‘‘ ملك السند إيذاناً بغلبة العرب الفاتحين، وأن مقاومة أهل البلاد إياهم غير مجدية، وأنه لايمنعهم حصن ولاعقبة من الاستيلاء على البلاد.
مضى القائد الشاب نحو مدينة ’’رارور‘‘ التي كان اتخذها الملك داهر مرتعًا لأحد نسائه. وقد اجتمع فيها الفلول المنهزمة، فهزمهم القائد الذي تعوَّد أن يلقى الجيش لا الفلول.
***
لقد توغل القائد الشاب وجنوده في بلاد السند لايقف في وجوهم معقل ولايحول دونهم عقبة، واثقين بنصر الله وناشرين لدينه.
انطلق القائد نحو مدينة’’ برهمن باد‘‘ العتيقة التي اجتمع فيها فلول جيش الملك ’’داهر‘‘ المنهزمة، فأزالهم الجيش الإسلامي عن موقع القتال، وهزمهم هزيمةً نكراء.
ثم توجَّه إلى مدينة ’’الرور‘‘، وعرَّج في الطريق إليها على مدينة’’ ساوندي‘‘ التي خرج أهلها نحو الجيش الإسلامي صفري الأيدي من الأسلحة، رافعين أيديهم، مطالبين بالأمان. فقبل من الصلح وآمنهم.
ومضى جيوش المسلمين نحو مدينة ’’الرور‘‘ التي كان على مرمى النبال منهم. وكان الطريق وعرًا، و المرتقى إليها صعبًا، فحاصرها أشد محاصرة حتى فتحها.
كانت ’’ملتان‘‘ أحد الأهداف العظام الذي توجه إليه، وكانت مدينةً عتيقةً ذات أهمية كبيرة، وكان فيها صنم كبيريشدالناس إليه الرواحل، ويقدسونه أعظم التقديس، ويتقربون إليه بالقرابين، يحلقون عنده رؤسهم ولحاهم.
توجَّه قائدنا الشاب إلى هذه المدينة التي كانت تهفوإليها القلوب، وتهوي إليها الأفئدة، وحاصرها من جميع جوانبها، وكان قدتوقع أنه إذا نفد الطعام المخزون والماء المحفوظ لدى المحاصَرين، اضطر أهلها إلى الخروج، غير أن الحصار قد طال، وأن الماء لم ينفد، فأدركوا أن الماء يأتيهم من الخارج بطرق سرية، فتقدم واحد من أهل المدينة وأخبرهم عنها، فقطعوا الماء، فما لبث أن خرج أهلها، فأسر منهم ستة آلاف رجل.
دخل جنود المسلمين غرف المعبد وأبهاءه، فوجدوا فيها كثيرا من الذهب، والفضة، فأمر القائد أن تُلقى هذه الأموال كلها من نافذة في بيت،حتى تكدست فيها فسميت’’ ملتان‘‘ثغر بيت الذهب.
بعث محمد بن القاسم مئة وعشرين ألفاً إلى الحجاج في العراق، فلما نظر الحجاج إلى هذه الأموال الطائلة، قال وقد كان أنفق في إرسال هذاالجيش ستين ألفاً: ربحنا ستين ألفاً و أخذنا ثأرَنا ورأس داهر.
***
ظلَّ القائد الشاب بعد سقوط ’’ملتان‘‘ سنة 89هـ إلى سنة 95هـ أمير السند وعاملها دون منازع، ودانت له بلاد السند كلها بالطاعة، ينفذ فيها أمره وتُسمع كلمتُه ماعدا مدينة ’’الكيرج‘‘ التي كان يحكمها الملك ’’دوهر‘‘، وكان يعدل الملك ’’داهر‘‘ في الشهرة والجاه.
وفي سنة 95هـ مات الحجاج وبلغ محمد بن القاسم نعيه، فحزن عليه أشدَّ الحزن؛ لأنه قريبُه وربيبُه وصنيع من صنائعه ومرسله إلى ثغر السند، كأنه فقد مشرفه وسنده.
ثم توجَّه إلى مدينة’’البليمان‘‘ التي لم تقرله بالإمارة حتى الآن، فلم يقاتله أهلها ثقة منهم بأن جنود المسلمين هم الغالبين، فطلبوا منه الأمان، فأعطاهم الصلح والأمان. كما قصد ثغر’’ شرست‘‘ فخضع أهلها ولم يقاتلوه.
ثم يَمَّمَ وجهه شطر مدينة الكيرج التي كانت خارجة عن طاعته، وكان ملكه ذا شهرة وسلطان كبير، فلما بلغها خرج ملكها ’’دوهر‘‘في آلاف من الأفيال، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا، حتى فرَّ الملك ’’دوهر‘‘ ناجيا بنفسه، فلاحقته سيوف المسلمين حتى قتل، وقد ثارت الحماسة لدى راجز فقال مفتخرا:
نحن قتلنا داهرًا ودوهرا
والخيل تردي منسرًا وفمنسرا
كان القائد الشاب يمكن للمسلمين العرب القواعد سنة96هـ فأتاه نعي الوليد بن عبد الملك فتألم غايةَ الألم، وصبر على ما أتى به القدر.
***
ثم خلفه سليمان بن عبد الملك، وكان حاقدا على الحجاج وقومه، لأنه كان قد أيد الوليد بن عبدالملك في عزل أخيه: سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد، وجعلها لولده عبد العزيز. ولما كان محمد بن القاسم قريباً من أقاربه، وصنيعةً من صنائعه كان عرضةً لغيظه وعداوته؛ فما إن تولى مهام الخلافة حتى كتب كتاباً بعزله من إمارة السند، حمله إليه الوالي الجديد: يزيد بن أبي كبشة، وتوليته إياه مكانه.
ولم يكتف بعزله من الإمارة وإنما ساقه مكبَّلاً بالقيود والأغلال إلى العراق، وحبسه في سجن مدينة واسط، وصبَّ عليه أصناف الأذى وأنواع التنكيل.
ما كان ذنبه إلا أنه كان قريباً من أقارب الحجاج الذي أساء إلى سليمان، فقد أخذ بذنب غيره، وعذب بجريرة لم يقترفها. وهنا تمثل القائد الشاب بقول الشاعر:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
لقد أضاع سليمان فتى مجاهدًا وقائدًا مغوارًا وبطلاً عظيمًا، قد أبلى في الفتوح بلاءً حسنًا.
لقد انتهت فصول قصته المحزنة … انتشر في مدينة واسط نبأ مؤلم عظيم، وهو أن قتله في السجن صالح بن عبد الرحمن عامل الخراج في العراق من قبل سليمان على إيعاز منه وذلك سنة 98هـ .
حزن عليه المسلمون أشدَّ الحزن، وبكوه أحَّر البكاء، على ماجوزي بالإحسان سوءًا، وبالجميل نكراناً.
لا يزال يذكره التاريخ كلما ذكرفتحاً أو شجاعةً أو بطولةً على حداثة من السن، وميعة من الشباب، ويردد قول الشاعر: زياد الأعجم المتوفى 100هـ :
ما إن سمعت ولا رأيت عجيبةً
كمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة
ياقربَ ذلك سؤددًا من مولد
* * *
(*) أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1431 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2010م ، العدد : 11 ، السنة : 34