الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
وُجِّهَ إلي سؤالٌ : حقُ الوالدين أحقُّ بالأداء أو حقُّ الشيخ ؟ فقلت : إنّ حقَّ الوالدين أحقُّ بالأداء من حقّ الشيخ ؛ ولكنّه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق . ومعنى ذلك أنّ الشيخ لو أَمَرَ بما يوافق الشريعةَ ، وأَمَرَ الوالدان بخلافه ، لوجب طاعةُ الشيخ وعصيانُ الوالدين، وطاعتُه لم تجب لكونه شيخًا ، وإنما وجبت بصفته آمرًا بالشرع . وإنما يُحْتَرَمُ الشيخ لأنّه يأخذ أتباعَه ومريديه بأحكام الشريعة ، ولا يُحَتَرَمُ لأنّ حقَّه يفضل حقَّ الوالدين ، إنّ رتبتَهما تلي رتبةَ الله تعالى بالنسبة إلى الحقّ ، ورغم ذلك هناك مشايخ يَعْتَبِرُون أنفسَهم مُلاَّكاً لأنفس المريدين . ونحمد الله على أن المشايخ المُتَوَارِثِين للمشيخة في مناطقنا أيضًا ليسوا مسيئين جدًّا .
حالةُ المشايخ في هذا العصر
وكان في بعض المناطق الشرقيّة شيخٌ اشتهر بأنه شيخ كبير، وكان عدد مريديه قد بلغ عدةَ مئات آلاف ، فيهم مسلمون وهندوس . كان في الماضي بين الإسلام وحياة التبتّل والزهد نسبة “العموم والخصوص المطلق” ؛ ولكنها تحوّلت في هذا العصر لتكون نسبة “من وجه” أي إنّ الزهد كان يقتصر من قبل أن يكون صاحبه مسلمًا، ولكنّ هؤلاء المفسدين رفعوا هذا الشرط، فجاز عندهم أن يكون الكافر زاهدًا ومُتَبَتِّلاً إلى الله ؛ لأنهم سمحوا للكفرة أن يبايعوهم على الزهد وطاعة الله . وأعتقد أنهم سيؤمنون بالدجَّال ؛ لأنه سيكون ذا تصرّف كبير ؛ وبما أنهم لا يشترطون لكون المرأ زاهدًا أوّابًا أن يكون مسلمًا ، فإنهم سيَتَّخِذون الدجالَ إمامًا لهم دونما تردّد . أمّا الذين يعتقدون أنه ليس بشيء من لا يتمسّك بالشريعة، فإنهم لا يعيرون خوارقَ العادات أهميّةً ، فهم يرون قبل كلّ شيء : هل الرجل يتّبع الشريعةَ أم لا ؟ وبما أن الدجَّالَ يكون كافرًا ، فهم ينجون من التورّط في فتنته .
مشايخُ اليوم يعتبرون المريدين مملوكين لهم
وخلاصةُ القول أن المشايخ اليوم يعتقدون أن المريدين مملوكون بأيديهم ، فهم يجعلونهم يفارقون والديهم وزوجاتهم . اِعْلَمْ أن الشيخ لو أمر أن تصلِّي النوافل ليلاً ، وقال الوالد: نَمْ، لوجب أن تؤثر أمرَ الوالد على أمر الشيخ . نعم: إذا أمر الوالد بما يخالف الشرعَ ، لايجوز طاعةُ الوالد ، وإنما الواجب اتّباع الشريعة .
وتتجلّى أهميّةُ الوالدين من قصّة رجل كان في بني إسرائيل ، كان اسمه “جريجًا” ، وكان يعيش في الغابة منعزلاً عن الناس . وذلك أن الشرائع السابقة كانت تأمر أبناءها بالرهبانيّة، ولا رهبانيّةَ في الإسلام . وأدلّكم بهذا الشأن على أمر بسيط ، نظرًا لأوضاع هذه الأيّام ، وهو أن الغرض المُتَوخَّىٰ من الانعزال في الغابة لايتحقّق اليوم ؛ لأنّ الناس يؤذون مثل هذا الرجل كثيرًا ، وعلى عكس ذلك لو انعزل أحد في غرفة المسجد ، لما سأله أحد : لماذا ينعزل في غرفة المسجد . ثم إن الانعزال عن الناس للعبادة ، نوع من الضعف ، كما قال الشاعر الفارسي :
“إن الزاهد لَمَا تحمَّلَ جمالَ الحسناوات ، فانعزل في ناحية واتخذ مخافة الله حيلةً” .
إنّ من عزائم الأمور أن تخالط المجتمعَ ، ومعَ ذلك تتمسّك بما تريده من أعمال العبادة . جاء في الحديث :
“المؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف”.
إذا لم يكن هناك مخافة من إيذاء أحد في الغابة فلا بأس بالانعزال، إذا تمسّك بأحكام الشرع ، ولم يتعدَّها .
كما قال الشاعر الفارسي :
“اجتهد في الزهد والورع والصدق وصفاء القلب ، ولكن متسمكاً بسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
“وكل من سلك طريقًا غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّه لن يصل إلى المنزل”
“يا سَعْدِي – اسم شاعر فارسيّ زاهد – لا تظننّ أن طريق صفاء القلب يمكن قطعه بدون اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم ” .
فلتحصل أيها القارئ على ما تودّ تصحيله ولكن عن طريق اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإذا قصرت عن استيعاب أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فانظر إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم وأخبارهم ؛ لأنهم مرآة لسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قصة “جريج“ العابد
أعود لأقول : إن “جريجًا” كان عابدًا ، وكان يصلي النوافلَ ذات مرة في معبده ، فدخلت عليه أمه تناديه ، فانزعج وقال في نفسه: ما ذا أصنع ، هل أجيب الأم ، فتبطل الصلاة ، أولا أجيبها ، فستسخط . فما أجابها، ونادت الأم ثلاث مرات أو مرتين ، ثم رجعت أدراجَها تدعو عليه : اللهم لاَ تُمِتْه حتى تريه وجوهَ المومسات . وقد قصّ النبي صلى الله عليه وسلم وقال : لو كان فقيهًا لأجاب أمَّه . وقوله صلى الله عليه وسلم يدلّ على أنه كان في صلاة النفل ؛ لأن صلاة الفريضة لايجوز قطعها بالإجماع . نعم : يجوز قطعُها إذا وجد أحدًا يتعرّض لمصيبة ، مثلاً بدأ يحترق أو يسقط، فيجوز قطع الفريضة لإنقاذه .
أيها السادة ! أرأيتم تعاليمَ الشريعة ، ما أرحمَ قانونَها ، إنكم ما خبرتم جمالَها وحسنَها، فلا تقدرونها . إنّ حالةَ الشريعة كما قال الشاعر الفارسيّ :
“كلّ موضع أراه في جسمه من قمة الرأس إلى أخمص القدم ، تجذب المحاسنُ القلب : وتقول: هذا هو مكمن الجمال”.
محاسن الشريعة
إن الشريعة جميلة للغاية ، كلُّ شيء فيها جاذب ، وكلُّ شيء فيها يستميل الإنسان ، أفلاحظتَ كم تراعي الشريعة ضرورات الإنسان ؟ إنّها تأمر بقطع الصلاة المفروضة لدى تورّط أحد في المصيبة . أما النوافل فيجوز قطعها حتى ولو نادى الأبوان دونما حاجة، شريطة أن لا يعَلما أن الابن في الصلاة . لكن “جريجا” لم يكن فقيهًا ، فلم يجب أمّه وأصابه دعاؤها عليه ، وحدث أنه كانت على مقربة منه مومسة ، فحملت بمقاربة أحد ، وكان أناس يعادون “جريجًا” فهمسوا في أذنيها أن تُسَمِّيَه وتُصَرِّح أنها حملت بمقاربته ، فصنعت كما قالوا ، فاقتحم الناس معبدَه ، وجعلوا يهدمونه وهمّوا بضربه ، فسألهم عن سبب ذلك، فقالوا: إنك مُرَاءٍ ؛ فانك تزني متخفِّيًا وراء معبدك ؛ فإنك زنيتَ فلانةً ، وقد ولدت ولدًا .
فنزل جريجُ من معبده ، وكان عبدًا محبوبًا لدى الله ، فجاشت رحمةُ الله ، وظهرت كرامة جريج ؛ حيث سأل جريج الوليدَ : لمن أنت ؟ ، فقال : أنا ابن فلان الراعي . هذه القصةَ وردت في الحديث ، وإنّها تؤكد ما للأمّ من حقّ ؛ ولكن العلماء أجمعوا على أنه إذا نادى الشيخ أحدًا فلا يجوز له قطع الصلاة ولو كانت نافلةً؛ فحقُّ الشيخ لايفضل حقَّ الوالدين.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، الهند ، ذو الحجة 1430 هـ = ديسمبر 2009 م ، العدد :12 ، السنة : 33