الأداء التصويري وإيقاع الفواصل في القرآن الكريم (2/2)

الفكر الإسلامي

بقلم : محمد قطب عبد العال

وطول المشهد أدى إلى إطالة التعبير ومن ثم فهو أشد إثارةً للحس وترويعًا للنفس .

       ونلمح هذا الهول والعنف والترويع في الآيات والسور التي تناولت يوم القيامة وكانت الفاصلة أهم أدوات التعبير الإيقاعية لإيصال هذا المعنى.

       قال تعالى في سورة عبس: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(1)

       إنه هول يوم القيامة الذي يفر الإنسان فيه من أحبابه لشدة الهول والفزع.

       فالصاخة لفظ ذو رنين صوتى مدوّ، يخرق المسامع، كمقذوف يخترق الأذن، فيحدث هولاً نفسيًا يفزع النفس ويستبد بها، فتنشغل به عما عداه.. ومن ثم جاءت الفاصلة تحوي حرف المد مختوماً بالهاء التي هي في الأساس ضمير يلتصق بالذات.. ويلتحم معه في ودّ حميم، ويصبح الموقف آيةً في العجب والروعة، حين تتنصل الذات.. من هذا الضمير الحميم.

       وفي سورة “الحاقة” نحس الرهبة التي تهز الحس هزّاً عميقًا، حيث تتوالى المشاهد في إيقاع ملح على الحس يتنوع بين الحول والجلال ويبدو ذلك جليًا في تكرار “الحاقة” بلفظها وجرسها ودلالتها قال تعالى: ﴿اَلْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾(2).

       وإيقاع اللفظ بذاته أشبه برفع الثقل ثم استقراره في قرار مكين. فالرفع في مدّة الحاء بالألف والجدّ في تشديد القاف بعدها واستقراره في قافية الفاصلة المكررة وذلك بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاءً للسَّكْت. ثم نلاحظ التنوع في أداء المفردة التي هي فاصلة. حيث جاءت مقذوفةً سريعةً تدهش وتصيب بالهول وتستدعي الدهشة والخوف. ثم يتتابع الأداء بإضافات أسلوبية تدور حول الاستفهام للتعظيم مرةً وللتجهيل وبعد المعرفة مرةً أخرى. ونلاحظ هذا الايقاع في متواليات مشاهد السورة. كما نرى في المشهد الذي يتناول مصارع الضالين المكذبين .

       قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثـَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثـَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثـَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾(3).

       فالفاصلة التي تحمل الجرس المدوي في الياء والهاء الساكنة بعدها سواء كانت تاء مربوطة، أو هاء سكت لتنسيق الإيقاع في مشاهد التدمير والهول والجزاء. فألفاظ الفاصلة تحمل دلالات المعنى حملاً واضحًا. “فَالقَارِعَةُ” تشي بالصوت المدوى الذي يصك المسامع ويقرع الكون بالدمار. تعبير مروع لبيان هول القيامة أحدثه جرس اللفظ بما يوحى به حروفه مثل القاف والراء والعين.. ويديمه ويقويه حرف المد حيث يصيب الكون كله. ولفظة “الطَاغَيَةِ” تفيض بالهول الذي حاق بالامم السابقة، وغيقاع اللفظ يتفق مع إيقاع الفاصلة، وهذا الإيقاع الذي هو تنوع لصورة الهول مع القيامة.. وكلمة “عاتية” وردت صفةً للريح الصرصربما تحمله من عذاب ودمار. والتعبير يصور العاصفة المدمرة. ثم لفظة “خاوية” التي تلخص نتائج الهول والعذاب وقد وردت في أداء تشبيهي يؤكد على الموت والتآكل والهمود بعد العاصفة المزمجرة، ويأتي الإيقاع متفقاً مع الفاصلة لينهي به حركة هول مفزعة ويصل بها إلى نتيجتها المحتومة. والمشاهد كلها حية يصاحبها هذا الإيقاع الذي حركته الفواصل وساعدت عليه في إحداث الجرس الخاص في تنوعه وتلونه وفق نسق المشهد وإيقاعه .

       تتغير الفاصلة ليتغير الايقاع إلى إحداث رنة رهيبة لخطة إصدار الحكم يوم القيامة .

       قال تعالى: ﴿خُذُوْه فَغُلُّوْهُ * ثـُمَّ الْجَحِيْمَ صلُّوهُ * ثـُمَّ فِيْ سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُوْنَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوْهُ﴾(4).

       ولعلنا نلاحظ إيقاع الفواصل المستمر “غلوه، صلوه، اسلكوه”.. هذا المدّ الطويل الذي يعكس زمن العذاب وطوله وما يترتب عليه من إحداث الرهبة والتخويف.

       ونرجع إلى مشهد الذين نجوًا من النار ودخلوا إلى الجنة وإيقاع الفواصل فيها ومدى ملاءمتها للمشهد والدلالة .

       قال تعالى : ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾(5).

       إن الفرحة تترقرق من المشهد، تملأ الجوانح وتفيض على القلوب والألسنة. ولننظر إلى هاء السكت في الفواصل التي أحدثت الإيقاع المنغم الذي يساعد على إبراز نبرة الفرح ورنته “كتابيه، حسابيه” فالفاصلة هنا هي الياء المصحوبة بهاء السكت لتنسيق الإيقاع وإبراز صورة المشهد في هيئة حركية مؤثرة. ثم تتحاور الفاصلة مرةً أخرى مع الياء المصحوبة بالتاء الساكنة التي فيها تشديد وإقرار وتمكين. ولقد كانت الفاصلة الأولى واشية بهزة الفرح والمرح والمسرة. والفاصلة الثانية لتأكيد النعيم وصوره .

       ولعلنا نلاحظ أن الإيقاع عكس الفرحة التي غمرت قلب المؤمن حين علم أن الله راحمه بعدما ظن أنه لايخلف وعده.

       كما نلاحظ أثر الفاصلة في كشف حالة الذين عذبوا بالنار قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾(6).

       أبرزت الفاصلة – الياء المصحوبة بها السكت – قربها من نفس المعذبين ومن كشفها لما حل بهم من حسرة وألم وعذاب ويأس، ومن ثم طال المشهد وتنوعت إيقاعاته.. وتكررت الألفاظ الواشية بهذا الندم (ياليتني) كتأكيد استحالة حصول المتمنى الذي يأخذ النفوس في تلك اللحظة، والتنغيم في الإيقاع يشمل الموقف كله.

       (والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف في تحزن وتحسر.. هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاءً عميقًا.. بليغًا”(7).

       مع ما يفيده جرس الكلمات وإيقاع العبارات في إطالة الموقف للعبرة.

       .. وإنه لمن الجمال الفني ومن التأثير الوجداني ومن الغرض الديني، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة .

       وتغيرت الفاصلة عند تقرير أسباب العذاب الشديد الذي حاق بالكافرين يوم القيامة.

       قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ﴾(8).

       والآيات تحمل سبب هذا العذاب وتصدر حكمها، فالكافر خلا قلبه من الإيمان، كما خلا من الرحمة بالمساكين فاستحق العذاب، وكان طعامه قيحًا وصديدًا هما ما ينز من أجساد أهل جهنم .

       ولقد عكست الفاصلة هذا العذاب سواء عذابًا حسيًا أو معنويًا ليتم له في النهاية جحيم الجسم والروح معًا. وفي هذه المشاهد يبلغ التأثير الوجداني غايته حيث تتفتح منافذ النفس للايمان..

       لقد تغير القافية ما بين الميم والنون فأحدثت رنةً رزينةً حاسمةً تتلاءم مع المعنى الديني في السياق.

       “إن فواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة؛ لانها طريق إلى إظهار المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها”(9).

       * إن الفواصل إحدى أهم الأدوات التعبيرية المحدثة للنغم والداعية إلى التوافق والتلاؤم والايقاع، كما أن التلاؤم ناتج عن النغم وجرس القول وموسيقاه، فالحرف متلائم مع الحرف، واللفظ مع اللفظ، والجملة مع الجملة والآية مع الآية.

       … والإيقاع النغمي يجمع بين الرنين والجرس الصوتي للفظ وذلك حين تكون الفاصلة متحدة الحروف متماثلة الوزن، متفقةً في الحرف الأخير ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾(10).

       إن الايقاعات الموسيقية للمقاطع والفواصل على السواء تحدث تنغيمًا يحتد ويمتد ليشمل السورة ككل. ويصاحب الإيقاعُ القسم بمخلوقات عظيمة، لإحداث التهيئة الحسية لتلقي الأمر وهو حتمية العذاب. وإيقاع فاصلتى واقع – دافع، يوحى بالجسم والقطع. ويلقى في الحس بمداهمة الهول حيث لا عاصم ولا حامٍ ومن ثم يُخترق الوجدان فيضعف الإنسان ويخور خوفًا من العذاب الشديد. “وفي إضافة العذاب للرب لطيفة إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد فإضافته إلى كاف الخطاب أمان له صلى الله عليه وسلم .. وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ “واقع” أشد من كائن كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على مَنْ حل به” ويُرْوٰى عن جبير بن معطم أنه قال: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب (والطور وكتاب مسطور… إن عذاب ربك لواقع… فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفًا من نزول العذاب”(11) وحروف الفواصل تتحد في – أكثر من مقطع ثم تتغير إلى اتجاه المقاطع في حرف آخر غير السابق مثلما رأينا في الوزن وحركة الصوت من فتح ووقف، وسكون وإمالة ومدّ.. مسطور، منشور، وكذلك واقع، دافع..

       ولقد جعل ذلك كله النص يبوح بقدر كبير من الموسيقي المؤثرة في النفوس حتى لتصبح خلجات النفس متناسقةً مع حركات الإيقاع تهتز اهتزازها، وتميل مع إمالتها.

       * وإذا كان التماثل في الفواصل ظاهرة عامة في النص القرآني فإن ثمة آيات تتقارب فيها مقاطع الفواصل تقاربًا يحدث الإيقاع والرنين الصوتي وذلك دون أن تتحد الفواصل في حرف واحد.. وإن لم تخل من الوزن الجامع للفواصل..

       قال تعالى: ﴿قJ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾(12).

       الآيات الكريمة من أول سورة ق.. وهي سورة غنية بإيقاعها وبنائها التعبيري الذي يأخذ بجوانب النفس ودخائلها. وللفواصل فيها جرس صوتي أخاذ يتلاحق موجة إثر موجة، ونغمة إثر نغمة، متراوحًا بين حروف الدال، والباء – وهما الأكثر ورودًا – والجيم ثم الراء .

       وفي الآيات قسم بالحرف قاف وبالقرآن المجيد، المؤلف من هذه الحروف.. ولعلنا نلاحظ تكرار الإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار حرف القاف. وتذكر الآيات عجب الكافرين واستنكارهم للبعث ومع أن قضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة مشاهدة رأوا لها مثالاً من الجدب والنماء إلا أنهم نظروا إليها في سذاجة وحمل الاستفهام الاستنكاري هذا المعنى.. إذ كيف يكون بعث بعد الموت والبلى؟

       إن أجسادهم تتآكل “والله يعلم ما تأكله الارض من أجسادهم وهو مسجل في كتاب محفوظ فهم لايذهبون ضياعًا إذا ماتوا وكانوا ترابًا”(13).. انهم قوم مادت بهم الأرض ولم ستقروا على شيء. ذلك أن كل ما عدا الحق الثابت مضطرب مائج مزعزع. ومن ثم تزل القدم ويفقد الإنسان الطمأنينة والقرار.

       .. وفي الآيات ليس ثمة اتحاد في الفواصل، بل تتنوع وتتغير، ومع هذا التغير تحتفظ الفاصلة بإيقاعها النغمى، إنه الإيقاع الناتج عن تقارب مخارج الحروف – الدال ن الظاء .. مع وجود حرف المدّ قبل الحلأ الاخير وهو حرف الياء مجيد، بعيد، حفيظ، مريج.. ومن ثم يصبح نسق القول واحدًا، والإيقاع متوازنًا، بالرغم من أن الفاصلة لم تتفق اتفاقًا تامًا في الحروف.. ويجمع ذلك كله “اتحاد النغم والموسيقي في كل المقاطع فهي كلها مؤتلفة في حروفها وألفاظها وجملها ومقاطعها”(14).

       وقد تخلو الآيات من فواصل متحدة ومع ذلك يبقى الإيقاع الموسيقى مصاحبا للآيات وذلك ناتج عن التلاؤم بين الحروف وبين الجمل من خلال السياق الداخلي للنص .

       * وإننا نلاحظ هذا الحرص الشديد في النص القرآني على إيقاع الفواصل مما يعنى أهمية الفاصلة للنص وللقارئ معًا. فهي تحدث التأثير الوجداني المطلوب، بحيث يصل المعنى إلى المتلقى في أداءٍ منغم مؤثر.. ومن ثم نلاحظ على بناء بعض الفواصل حذف بعض الحروف للإبقاء على حالة الإيقاع التي يحدثها تشابه الحروف وتماثلها فضلاً عن الدلالة المعنوية.

       قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾(15)..

       والآيات الكريمة قسم بضوء النهار وبالليالي العشر من ذي الحجة وبالزوج والفرد.. وكأن الله أقسم بكل شيء؛ لأن الأشياء إمّا أن تكون زوجيةً أو فرديةً كما أقسم بالليل.. والجواب محذوف يفهم من خلال السياق. وهو العذاب الواقع على الكفار.

       ويسري عبر هذه الآيات هذا الجمال التعبيري الرائق الذي يجمع الكائنات والخلائق في نسق جميل يتمثل في تنفس الصباح لحظة الميلاد بما يوحى من حركة ومَدّ وفرح، وحركة لليالي المباركة التي تتفرد حركتها وسط الليالي الكثيرة المتنوعة.. ولعل حركة الأشياء المرتبطة بالخالق توحى بأن المراد بالشفع والوتر ما يتصل بالصلاة.. وهذا رأي قاله سيد قطب رحمه الله انطلاقًا من تحليله للنص وإدراكه لمعنى الحركة الكلية المنبثقة من المشاهد: يقول “والشفع والوتر يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب.. جوّ الفجر والليالي العشر.. وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة بروح الوجود الساجية”(16).. كما أن الليل مخلوق حيّ يتحرك حركته.. وتنبثق من الآيات النغم الجميل عبر هذا التناسق الفذّ في إيقاع الفواصل: الفجر، عشر، وتر، يَسْر.

       ولعلنا نُلاحظ حرص الآيات على استمرارية الإيقاع ومن ثم لاحظنا حذف الياء في “يَسْر” طلبًا للمواقفة في الفواصل. وذلك لبيان أهمية الفاصلة في النص ولدى المتلقى معًا، من حيث الإبقاء على مناطق الإيقاع والتأثر النفس… ونلاحظ هذا الحرص على تواصل الإيقاع واستمراريته كسمة لإيقاع الفواصل .. في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوٰى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوٰى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوٰى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَىٰ * ثـُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ * أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَىٰ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزٰى﴾(17).

       أقسم سبحانه بالنجم الساقط الراصد على صدق الدعوة المحمدية الداعية إلى الهداية، والوحدانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لايقول باطلاً ولاينطق عن الهوى وإنماهو الوحي من الله يتلوه قرآنًا عربيًا نزل به جبريل عليه السلام مبلغاً.. إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أوامر الله. وتَستَنكر الآيات أن يجادل المشركون رسول الله حول الإسراء والمعراج، مؤكدة أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل مرةً أخرى عند سدرة المنتهى في السماء السابعة قرب العرش. وسميت بهذا الاسم؛ لأنه [لايعلم أحد ما وراءها إلا الله]. ولم يزغ بصر الرسول في ذلك المقام العظيم، وما جاوز الحد. ولقد رأى الرسول آيات عجيبة، كرؤية جبريل – مثلا – في هيئته الملائكية وله ستمائة جناح على نحو ما ورد في حديث الإسراء والمعراج. ثم تتساءل الآيات في تبكيت عما إذا كان الكفار قد رأوا آلهتهم؟ وهل لهم من القوة والعظمة ما تعطي وتمنع؟ وتوبخهم حين نسبوا إلى الله البنات.

       إننا هنا في مجال علوي يشع بالروحانية والنورانية. والحدث – المعراج – عظيم حيث تحددت أبعاده في السماء، وحيث كُرّم الرسول في ضيافة الخالق عزوجل. وجاءت الآيات تبعًا لهذا العلو. قطعة من الموسيقى، ينبثق منها هذا النور المنغم، المتموج، المتلألىء، الذي يضج بالبهاء والصفاء والعظمة. إنه النغم الساري في البناء التعبيري اللفظي، وفي تراكيب الجمل والعبارات كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة .

       (وذلك الإيقاع ذو لون موسيقى خاص، لون يلحظ فيه التموج والانسياب.. وهو يتناسق مع الصور والظلال الطليقة.. التي تشع من المجال العلوي الذي يقع فيه الحدث النوراني والمشهد الرباني، متناسقة مع حركات جبريل وهو يتراءى للرسول”(18). إنه جو روحي أثر في الإيقاع التعبيري فامتزج به وتناسق معه.

       ولقد بدا النص القرآني حريصًا على الإيقاع، ضانًا به أن يختل به أو فقد تأثيره.. حتى يظل لإيقاع انسيابه الرقراق، وتأثيره المشرق في الوجدان .

       والحرص على تسلسل الإيقاع ملحوظ في بعض الفواصل. ففي قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَالِثَةَ الأُخْرَىٰ﴾. نلاحظ أننا لو حذفنا كلمة “الأخرى” لاختلت الفاصلة وتصدع الإيقاع. ولو حذفنا “إذن” من قوله تعالى ﴿تِلْكَ إِذَنْ قِسْمَةٌ صِيْزٰى﴾. لاختل الإيقاع، حيث يستقيم الإيقاع بكلمة “إذن” كما استقام بكلمة الأخرى.

       لايعنى هذا أن كلمة “الأخرى” وكلمة “إذن” زائدتان لمجرد القافية والوزن.. فيما ضرورتان في السياق.. وتلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لالتؤدى معنى السياق وتؤدى تناسبًا في الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك، أو يخضع النظم للضرورات)(19).

       والقرآن الكريم انفرد بهذا الوجه المعجز فتآلفت كلماته من حروف لوسقط واحد منها أو بدل بغيره، أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّنًا أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة وفي حس السمع وذوق اللسان وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف.. وقد يتأتى ذلك بحذف بعض الحروف لملاءمة القافية ونجد ذلك في قوله تعالى: (حكاية عن إبراهيم)

       ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثـُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾(20).

       ولعلنا نلاحظ أن ياء المتكلم قد خطفت خطفا في “يهدين، يسقين، يشفين، ويحيين” وذلك محافظة على حرف القافية (النون).. وذلك لتحقيق قصد الانسجام في إيقاع الفواصل. مع مراعاة أن الفاصلة القرآنية يؤدي لفظها في السياق الدلالة المعنوية التي لايؤديها لفظ آخر..

       ولعلنا نسترجع – تاريخيًا – أن موسيقى القرآن الكريم وإيقاعه المنغم قد استرعى انتباه العرب وأثر في سماعهم ونفوسهم وأجاش داخلهم ورأوا فيه الحلاوة والطلاوة ونغم اللفظ وجرسه مع جمال المعنى وإحكامه. فللقرآن نظامه الصوتي الفريد (ونريد بنظام القرآن الصوتي، اتساق القرآن وائتلافه في حركاته وسكناته ومدّاته وغنّاته، واتصالاته وسكتاته اتساقًا عجيبًا، وائتلافًا رائعًا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لايمكن أن يصل إليها أيّ كلام آخر من منظوم ومنثر.. وأن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن..)(21).

*  *  *

الهوامش :

سورة عبس الآيات 33-37.

سورة الحاقة الآيات 1-3 .

سورة الحاقة الآيات 4-7.

سورة الحاقة الآيات 30-32.

سورة الحاقة الآيات 19-23.

سورة الحاقة الآيات 25-28.

الظلال ج6 ص 3682.

سورة الحاقة الآيات 33-37.

اعجاز القرآن – الباقلاني. تحقيق السيد صقر ص 271.

سورة الطور الآيات 1-8.

انظر صفوة التفاسير ج3 .

سورة ق الآيات 1-5.

الظلال ج6 ص 3358.

القرآن المعجزة الكبرى ص 294.

سورة الفجر الآيات 1-4.

الظلال ج6 ص 3903.

سورة النجم الآيات 1-22.

الظلال ج6 انظر ص 3403/3405.

التصوير الفنى ص 104.

سورة الشعراء الآيات 77-82.

التبيان في علوم القرآن . محمد الصابوني ص 109 وانظر مناهل العرفان محمد عبد العظيم الزرقاني ج2.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، الهند ، ذو الحجة 1430 هـ = ديسمبر 2009 م ، العدد :12 ، السنة : 33

Related Posts