الفكرالإسلامي

بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب/21) الآية تنصّ على أنه – صلى الله عليه وسلم – أسوة  حسنة، فإلى ماذا هَدَفَ الله تعالى من وراء ابتعاثه – صلى الله عليه وسلم – أسوةً؟ إنما هَدَفَ تعالى إلى أن يُوْجَد الأفرادُ مصوغين في قالبها – الأسوة – وقد سمعتُ في هذا الشأن مقالاً لطيفًا لشيخ باحث، مفاده: أنّ مثل النبي – صلى الله عليه وسلم – ومثلنا أنّ رجلاً دفع إلى الخيّاط ثيابًا ليخيط له منها حَبَّةً من الـ”أَتْشَكَنْ” (Achkan) – نوع من الجبّة – وقد سلّمه فردًا من الـ”أتشكن” حتى يخيط على مقاسه ونوعيّته، فخاطه على منواله تمامًا، فجاءت خِيْطَتُه حسبَ خِيْطَتِه، وطوله وعرضه كطوله وعرضه؛ حيث ما نَقَصَ منه شيئًا فيما خاطه من الـ”أتشكن” إلاّ أنه جعل أحدَ كُمَّيْه أقصر من الآخر قدرَ شِبْرٍ. فماذا عسى أن يصنع معه صاحبُ الثياب ياتُرَىَ؟! هل يقبل “الأتشكن” عن رضًا أو يرفضه ضاربًا إيّاه عُرْضَ رأسه؟ وهل يقبل من الخيّاط قولَه: إنّ “الأتشكن” كلَّه على مقاس “الأتشكن” الذي دفعتَه إليَّ إلاّ هذا القدرَ من الفرق الذي يُوْجَد في أحد الكمين؟ لا، وكلا! إنما يستوفي منه ثمن الثياب كاملاً .

       اٍعْلَمَنَّ أنّ ما أنزله – تعالى – من الأحكام والقوانين كاملٌ مكتملٌ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – أسوتُها العمليَّة، فلوكانت أعمالُك موافقةً للأسوة، كانت صحيحة، وإلاّ فإنها غيرُ صحيحة. إذا كانت صلاتُك مثلَ صلاته – صلى الله عليه وسلم – فهي صحيحةٌ وإلاّ فإنها ليست بشيء. وإذا كان ذكرُك مثلَ ذكره – صلى الله عليه وسلم – فهو ذكر وإلاّ فإنه مُؤَدّ إلى الإثم. لاَحِظَنَّ أنه إذا اكتفى أحد في الصلاة بسجدة واحدة مكان السجدتين، فلم تكن هي صلاةً؛ فعليه أن يعيدها. ولو تلا أحد القرآن الكريمَ وهو جُنُبٌ، لما أثيب، وإنما يأثم، ويستحق العقاب. ومن هذا الباب أن الأسماء الإلهيّة توقيفيّة، فلا يجوز لأحد اتّخاذُ اسم لله من عنده. وإذا صُمْتَ، لايصحّ من صيامك إلاّ ما كان موافقًا لصيامه – صلى الله عليه وسلم – وعلى ذلك لايصحّ من حجّك إلاّ ما كان موافقًا لحجّه – صلى الله عليه وسلم – من لم يحرم – مثلاً – للحج، لايكون حاجًّا مهما أَدَّىٰ من المناسك. وكذلك الزكاة لاتصحّ إلاّ إذا أتت على تعاليمه – صلى الله عليه وسلم – فلو أنفق أحد جميعَ أمواله خلافًا لما يأمر به الشرعُ، لما كان مُؤَدِّيا للزكاة . وتلك كانت أركانًا ظاهرة في الإسلام، وقِسْ على ذلك الأعمالَ الباطنةَ وكذلك الحكمُ يسرى في جميع الأمور الاجتماعيّة وغير الاجتماعيّة.

لماذا لم يُبْعَث الرسولُ مَلَكاً؟

       إنّ الله لم يَبْعَثْ إلينا مَلَكاً رسولاً، والحكمةُ في ذلك أنّ المَلَكَ لم يكن ليكون أسوةً لنا نحن البشر؛ لأنه لايحتاج إلى الأكل أو الشرب أو اللباس أو الزواج أو الاجتماع؛ فما كان ليصنع في هذه الأحكام إلاّ أن يكتفي بقراءتها علينا. وهذه المهمةُ – إذًا – كانت لتتمّ عن طريق إنزال الكتاب وحدَه مكتوبًا يستوعب الأحكامَ، نقرأه نحن جميعًا ونعمل بما فيه؛ لأن نزولَ الملائكة لم يكن ليتمّ به إلاّ ما كان ليتمّ بنزول مُجَرَّد الكتاب. ولم يشأ الله ذلك، وإنما جعل الرسولَ من جنسنا نحن البشرَ يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، ويتزوّج ويقيم علاقات بالإنسان، ويمارس أمورَ المدنيّة والاجتماع، وأنزل معه الكتابَ، يتضمّن الأحكامَ، التي عَمِلَ بها بنفسه، ليسهل علينا العملُ بها؛ ولذلك قال تعالى:

       “وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ إلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ويَمْشُونَ في الأسواق” (الفرقان/20).

       وقال في موضع آخر:

       “وَلَوْ جَعَلْنـٰـهُ مَلَكاً لَجَعَلْنـٰـهُ رَجُلاً وَلَلَبسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ” (الأنعام/9) .

اصطفاءُ سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم

       إنّ فضائل الرسول – صلى الله عليه وسلم – أكثر من فضائل الملائكة؛ لكن الحكمةَ الإلهيّة اقتضت أن يكون – صلى الله عليه وسلم – من جنس البشر؛ حتى يكون أسوةً في جميع التصرّفات الإنسانيّة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بجميع ما يمرُّ به الإنسانُ؛ فكانت له زوجات، وزَوَّجَ أولادَه، وكانت لديه أحزان؛ فماتت بنات له؛ فتعرّض لما يتعرّض له الإنسانُ من المواقف، حتى يُشَكِّل ذلك لنا منهجًا للعمل؛ ولكن أفهل ترى أنّ عملاً من أعمالنا يتفق والأسوةَ النبويَّةَ – على صاحبها الصلاة والسلام – إذا كان هناك موقف من السرور أو كان موقف من الحزن، لا نلاحظ أن نكون فيه على مستوى ما هو في الأسوة النبويّة ومنهج العمل النبويّ. لنستحضر مثالَ الخيّاط الذي ضَرَبَ صاحبُ “الأتشكن” إيّاه في وجهه؛ لأنّه جعل أحد كميه أقصر من المقياس: النموذج الذي كان قد دَفَعَه إليه قدرَ شبر واحد فقط، فلو صَنَعَ أنه لم يَخِطْ من ثيابه “الأتشكن” وإنما جَعَلَ منها قراضاتٍ ورَمَىٰ بها إليه فماذا عسى أن يصنع معه ياترى؟ أي عقاب سيتناوله به ولاسيّما إذا كان قادرًا عليه؟.

       فوالله وبالله: إنّ أعمالَنا تلك هي حالتُها، إنّنا نقطِّعها تقطيعًا، ونقرضها قراضات، ونرمى بها إلى الله تعالى، فضلاً عن أن نجعلها مُوَافِقَةً للأسوة التي قُدِّمت لها والمنهج الذي كنا قد أُلْزِمْنا به.

       إننا لم نبالغ عندما استخدمنا الكلماتِ المذكورةَ أعلاه. ألا ترى أنّه كما أنّ الإبقاء على الثياب على أصلها – حالها – لخياطة “الأتشكن” كان الشرطَ الأساسيَّ، وأنّ القائم بتقطيعها قِطَعًا، أخرجها من أصلها؛ حيث لايمكن استخدامها في غرض آخر من الأغراض، فضلاً عن أن يُتَّخَذ منها “الأتشكن” كذلك صحةُ الأعمال تتوقف على الإيمان؛ فلو شاء أحدٌ أن يعمل بعمل في غياب الإيمان، لكان كمن يُقَطِّع الثيابَ مكانَ أن يخيط منها “الأتشكن”.

النبيّ  صلى الله عليه وسلم لم يكن كعامّة البشر

       ومن الخطأ الفادح أنّ الناس يقيسون النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بأنفسهم وأحوالَه بأحوالهم، على حين إنه – صلى الله عليه وسلم – حاله : “بشر لا كالبشر، ولكن كالياقوت في الحجر” حيث إنّ الياقوت من جنس الحجر؛ ولكنّ بينه وبينه فرقَ السماء والأرض؛ فلو قاسه أحد بعامة الحجر؛ لأنّه حجر لكونه من جنسه، لقيل في شأنه : ليُرْمَىٰ عقلُه بالحجر؛ لذلك لايجوز أن نقيسه – صلى الله عليه وسلم – بأنفسنا ظنًّا منّا أنه كان منّا نحن البشر؛ أ فيكون أفراد البشر كلهم سواءً؟ إنّ هناك حبشيّا أسود فاحمًا، وهو أيضًا فرد من البشر؛ ولكن هناك إنسانًا آخر هو مثل يوسف في جماله، فهل هما سويّان؟ وهل يجوز قياسُ أحدهما بالآخر؟ لا، وكلاّ! لأنّ الفرقَ بينهما شاسع بحيث إنّ أحدًا لم يرَ إلاّ يوسفَ الثاني، ثم وَقَعَ نظره على الحبشيّ لما أيقن أنّه من جنس البشر، بل قد يظنّ أنه جِنيّ أو عفريت؛ لأن البشر عنده من كان في الجمال مثل يوسف. وكذلك فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بشرٌ من رآه قد لايحسبنا من البشر؛ بل قد يذهب به الظنّ إلى أن يعتبرنا من الحمير والثيران. ومن ثم نشأت هناك ثلاث فرق: فرقة لاتراه – صلى الله عليه وسلم – بشرًا، فأثبت له خواصَّ الألوهيّة، وفرقة تراه بشرًا مثلَها، وكلتاهما على الخطأ الفاحش، وهناك فرقة ثالثة متوسطة تراه – صلى الله عليه وسلم – بشرًا؛ ولكنها تراه أرفع وأعلى من البشر كلّه، وهو يقول: إنّه “بشر لا كالبشر؛ ولكنّه كالياقوت في الحجر”.

بعضُ المثقفين بالثقافة الغربية ساءت حالتهم

الدينية لحدّ أنه لايصحّ تزويج البنات المسلمات معهم

       من المؤسف أنّ البنين الذين يتمّ تزويجهم مع البنات المسلمات، بعضهم يتحررون من جرّاء التعليم العصريّ لحدّ أنهم لاتعود لهم علاقةٌ بالدين والإيمان؛ حيث إنهم يطلقون بألسنتهم كلماتِ كُفْر، ولايُبَالُون بها، ثم إنّ بعضًا منهم يُزَوَّج مع بنت مسلمة، وأهلها يفرحون جدًّا بأنهم يقومون بالعمل بسنّة من سنن النبي – صلى الله عليه وسلم – على حين إنّ هذه السنة التي هم في صدد أدائها تتوقف على الإيمان، والمؤسف أن الله وحده يعلم أنه كم مرة قد مَرَقَ العريسُ من الإسلام. أليس يصدق عليهم المثلُ الذي ذكرتُه آنِفًا أنّ الخيّاطَ قد جَعَلَ من الثياب قراضات، ثم يريد أن يخيط منها “الأتشكن” وقد كنّا نشكو أن “الأتشكن” لم يُخَطْ على النموذج الذي قَدَّمْناه إليه، حيث جَعَلَ أحدَ كُمَّيه أقصرَ من الآخر قدرَ شبرٍ. أما ههنا فلم يبقَ كُمٌّ ولا ذيلٌ، ورغم ذلك يُظَنّ أن “الأتشكن” جاهزٌ. إنّه قد حَدَثَ أن بنتًا صالحةً زُوِّجَت مع شابّ مُثَقَّف بالثقافة العصريّة، كان يقول على مسمع من الناس: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان حقًّا مُصْلِحًا كبيرًا، ولذلك أحبّه كثيرًا؛ لكن كونه نبيًّا فهو عقيدة دينية!. ونعوذ بالله من ذلك. إنّ ذلك كلمةُ كفر تنفسخ بها عقدةُ النكاحِ. والمُؤْسِفُ أنّه إذا أفيد بهذه المسألة أهلُ البنت، فإنهم مكانَ أن ينتبهوا لحقيقة الأمر، ينهضون للخصام، ويقولون: إنّ هذا العالم يُهين أسرتنا ويسيء إليها.

       إنه قد آن الزمانُ الذي ينبغي أن يُلاَحَظ فيه ما إذا كان الصهر مسلمًا أم ماذا؟. وقد كان في الماضي يُلاَحَظ: هل هو صالح أو طالح؟. إنّ القصة التي سردناها أكّدت قولي إنّ أعمالنا لم تعد فاسدةً، وإنما عادت باطلةً، ومن الطريف أننا نرجو الله عليها الثوابَ ظانّين أنّها صالحة.

وستَعْلَم حينَ يَنْكَشِفُ الْغُبَارُ

أَ فَرَسٌ تحتَ رِجْلِكَ أَمْ حِمَارُ

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33

Related Posts