الفكرالإسلامي

بقلم : سعادة الشيخ  الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ حفظه الله

شهر رمضان، شهر العبادة، ويعين الله المؤمنين على العبادة فيه: صلاةً وتلاوة للقرآن، وتهجدًا وصومًا؛ لأن الشياطين تصفد من أول يوم، وأن فعل الخيرات فيه، محبة إلى الإنسان، قولاً حسنًا، وتزاورًا، وتسامحًا، وصدقات وإعانة على الخيرات: قولاً وعملاً وتسبيحًا واستغفارًا وإطعامًا وغير ذلك من الأعمال التي يحبُّها الله.

       فقد حدّث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا حضر رمضان: (أتاكم شهر رمضان شهر فرض الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُفلّ فيه مردة الشياطين وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها، فقدم حُرِم) أخرجه أحمد والنسائي.

       – ويأتي من فضائله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر).

       – كما أن الله سبحانه، خصّ هذا الشهر، بإنزال القرآن الكريم، الذي فيه التشريع والهداية للناس فيه فقال سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ سورة البقرة(185).

       قال ابن الجوزي في تفسيره: على قوله تعالى ﴿الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيهِ القرْآنُ﴾: فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه أُنزل القرآن فيه جملةً واحدةً، وذلك في ليلة القدر، إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس، والثاني: أن معناه: أنه أُنزل القرآن بفرضه وصيامه، رُوي عن مجاهد والضحاك، والثالث: أن معناه: أن القرآن اُبتدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن اسحاق، وأبوسليمان الدمشقي: قال مقاتل والفرقان: المخرج في الدين من شبهة والضلالة (زاد المسير في علم التفسير 1/187)

       ومن فضائل رمضان، في هذه الآية، يقول ابن كثير في تفسيره، يمدح تعالى شهر الصوم، من بين الشهور بأنه اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصّه الله بذلك، فقد ورد الحديث: بأنه الشهر الذي كانت المكتب الإلهية تُنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد رحمه الله بسنده إلى ابن الأسقع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رضمان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) وقد رُوي عن جابر بن عبد الله وفيه: (أن الزبور أُنزل لثنتي عشرة من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم).

       وفي رواية ابن مردويه: (وأمّا الصحف والتوراة والزبور والإنجليل، فنزل كلٌّ منها على النبيّ، الذي أُنزل عليه جملةً واحدةً، وأما القرآن فإنما نزل جملةً واحدةً إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سورة القدر(1) وقال: ﴿إِنَّا أَنْزلْنَاهُ فِيْ لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ سورة الدخان(3) ثم نزل بعده مفرقًا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

       قال ابن عباس: إنه أُنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملةً واحدةً، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً، في الشهور والأيام، رواه ابن أبي حاتم.

       – وعن رخصة السفر بالإفطار، أُورد عدة أحاديث، منها، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى الكديد، ثم أفطروا وأمر الناس بالفطر) متفق عليه، ورسول الله قد بعثه ربه بالحنيفية السمحة والإفطار في السفر أفضل لحديث جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً قد ظُلّل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس في البرّ الصيام في السفر) متفق عليه (تفسير ابن كثير: 189-190).

       – وقد جاء في الترهيب من الفطر في رمضان، حديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم، إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعرًا، فقالا لي: اصعد: فقلت إني لا أطيق. فقالا: إنا سنسهِّله لك، فصعدتُ، حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلّقين بعراقيبهم، مشققة أشلاقهم تسيل أشلاقهم دمًا، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحله صومهم) يعني بذلك والله أعلم: الذين ينتهكون حرمة رمضان، بالإفطار فيه، أخرجه الحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

       – والاعتكاف في رمضان، من فضائل هذا الشهر وأفضله في العشر الأواخر من رمضان، فقد أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهمِّية الختم في رمضان، بالتفرغ للعبادة؛ لأن الأجير، إنما يُعطى أجرته بعد انتهاء عمله فكان يعتكف في مسجده، ويعتكف أصحابه، وتعتكف نساؤه.

       وكان إذا دخلت العشر الأواخر، يشدّ المئزر، ويوقظ أهله، ويسهر بالصلاة والقيام ليله، لأنه قال مرغِّبًا أمته، في الخير والعبادة: إن آخر رمضان مغفرة، وعتق من النار.

       تقول عائشة رضي الله عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، والمقصود بالاعتكاف هنا، لزوم المسجد، والإقامة فيه، بنيّة التقرب إلى الله عزّ وجلّ، وحقيقة الاعتكاف المكث في المسجد، أيّ مسجد، سواء طالت المدة أو قصرت، بنيّة التقرب إلى الله سبحانه، والأفضل شغلها بقراءة القرآن، وذكر الله واستغفاره.

       فإن جلس في غير المسجد، أو لم تحدث عند المعتكف نيّة الطاعة، لاينعقد الاعتكاف، وله أن يخرج من المسجد للوضوء أو الغسل أو تغيير ملابسه، أو قضاء حاجة ثم يعود إليه، ويشترط في المعتكف أن يكون مسلمًا مميزًا طاهرًا من الجنابة والحيض والنفاس، فلا يصح من كافر ولاصبي غير مميز ولا جنب ولا حائض ولا نفساء.

       – ويأتي من فضائل: قراءة القرآن، وختمه والأفضل أن يحضر أهل بيته، وأولاده معه ختم القرآن، ويدعو لهم.

       – وإن هذا الشهر يحجز المسلم عن المنكرات العديدة، التي يفعلها بعض الناس، مثل التهاون في الصلاة، والابتعاد عن المنكرات، وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فإن الله سبحانه، لمّا واعد موسى لميقات ربه أمر بالصيام، فلمّا أفطر عُوتب من خالقه، وزيدت مدته عشرًا ليصوم فيها، ويقابل ربه صائمًا، وأخبر أن الله يحبّ لقاءه صائمًا؛ لأن رائحة فم الصائم، وخلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك.

       – وليلة القدر التي تأتي في العشر الأواخر من رمضان، من فضائل رمضان، فمن أدركها وقامها غُفر له ما تقدم من ذنبه إيمانًا واحتسابًا، وهي خير من عبادة ألف شهر خالية منها، فأجرها كثير، وقدرها عظيم… تقبل الله من الجميع.

       نبني كما كانت:

       جاء في كتاب المجاني أن المنصور كان معجبًا بمحادثة محمد بن جعفر، ولعظم قدره يفزع الناس إليه في الشفاعات، فثَقُل ذلك على المنصور، فحجبه مدةً، ثم لم يصبر عنه، فأمر الربيع حاجبه، أن يكلِّمه في ذلك، فكلّمه وقال: أعْف أمير المؤمنين، ولا تُثْقل عليه في الشفاعات، فقبلَ ذلك منه.

       فلمّا توجه إلى الباب، اعترضه قوم من قريش معهم رقاع، فسألوه إيصالها إلى المنصور، فقصّ عليهم القصة، فأبوا إلا أن يأخذها، فقال: أقفوها في كمّي.

       ثم دخل عليه وهو مشرف، على مدينة السلام، وما حولها من البساتين، فقال له: ألا ترى حسنها يا أبا عبد الله، فقال له: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيما آتاك، وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك، فما بَنَت العرب في دولة الإسلام، ولا العجم في سالف الأيام، أحصن ولا أحسن من مدينتك، ولكن كرّهتها في عيني خصلة، قال: وما هي؟ قال ليس لي ضيعة. فتبسم وقال: قد حسنتُها في عينيك، بثلاث ضياع قد أقطعتكها. فقال: لله درّك يا أمير المؤمنين، إنك شريف الموارد كريم المصادر، جعل الله باقي عمرك، أكثر من ماضيه، ثم أقام معه يومه ذلك. فلما نهض ليقوم، بدت الرقاع من كمّه، فجعل يردّها ويقول: ارجعن خائبات خاسرات. فضحك المنصور، وقال: بحقي عليك، إلا أخبرتني وأعلمتني، بخبر هذه الرقاع، فأعلمه. فقال: ما أتيت بابن معلم الخير، إلا كريمًا، وتمثّل بقول عبد الله بن معاوية:

لسنا وإن أحسابنـا كَرُمَتْ

يومًا على ألأحساب نتّكل

نبني كما كانت أوائلنـا

تبني ونفعل مثل ما فعلـوا

       ثم تصفح الرقاع، وقضى حوائج أصحابها جميعًا.(3/195).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33

Related Posts