الفكرالإسلامي

بقلم : الشيخ عبد الله الصالح العثيمين

تأتي كتابة هذه السطور وشهر رمضان المبارك.. شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.. يكاد يودع المؤمنين والمؤمنات من أمتنا المسلمة.. وفضل هذا الشهر؛ أيامًا، وليالي، فضل عظيم، ولليالي العشر الأواخر منه أجزل الفضل..

       وأعظمه. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يكون اجتهادًا في إحيائها والتقرُّب إلى خالقه – جل وعلا – بأنواع العبادة فيها. ومن فضائل هذه الليالي العشر كون ليلة القدر – على الأرجح – من بينها. ولهذه الليلة من الفضل والشرف ما أوضحه الله في كتابه العزيز. فقد ذكر – سبحانه وتعالى – أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن ﴿هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالفُرْقَان﴾، وأنها خير من ألف شهر، وأنها مباركة ﴿فَيْهَا يُفَرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم﴾، وأنها (سَلاَمٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾.

       ولقد أوضح فضل تلك الليلة المباركة أيضًا، من أنزل عليه القرآن الكريم رحمةً للعالمين.. نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه). وأمر صحابته الكرام أن يتحروها في الوتر من العشر الأواخر؛ لاسيما ليلة السابع والعشرين منها. وأكثر المسلمين في البلدان الإسلامية المختلفة يكادون يجزمون بأن ليلة السابع والعشرين من رمضان هي ليلة القدر. من الله على الجميع بقبول كل عمل صالح قاموا به؛ شكرًا له وثناءً عليه.

       وكان كاتب هذه السطور؛ وهو ما يزال طالبًا في المرحلة الثانوية قد ابتهل إلى ربه بقصيدة عنوانها (في ليلة القدر)، وقد استهل أبياتها بقوله:

هي موعدي يا ربّ كم تاقت إلى لقياك نفسي

وكوى الحنين إلى لقاك مشاعري الولهي وحسِّي

لأزفَّ أشواقي.. لأبدي نبض أعماقي وهجسي

لأبثك الشكوى.. لأشرح فيض آلامي وتعسي

وأزيل بالوهج المشعشع من سنا رحماك بؤسي

وأذيب في نور اليقين وبسمة الإشراق حدسي

       ومنها:

يا ربّ أنت حمى الشريد وأنت أقوى من منع

والسوس – يا للسوس – ينخر في كيان المجتمع

حبُّ الثراء يسود عالمه ويملكه الجشع

أرنو فأبصر كل من حولي عبيدًا للطمع

حتى الصداقة أصبحت عرضًا يُزفُّ لمن دفع

ولهيب نار الحرص يلتهم الكرامة والورع

       وكان ختامها:

يا ربّ والآفاق تنذر بالتعاسة والحِمامْ

والناس هاموا باقتراف الإثم وارتكبوا الحرام

وتفشَّت الأحقاد لا جتٌ يسود ولا وئام

ولقد علمتك تكره الأحقاد تبغض أن تُرام

فانزع بذور الحقد والبغضاء من مهج الأنام

وانشر على الآفاق رايات المحبة والسلام

       مارنوت إليه، فأبصرته من أمور سيئة قبل نصف قرن – عندما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية – يهون كثيرًا عما هو مشاهد في الزمن الحاضر. ولذلك لا غرابة أن أصبح وضع أمتنا المسلمة بعامة. والعرب منها بخاصة، وضعًا مزريًا من مختلف الوجوه. ذلك أن العواصف الهوجاء تتقاذفها منذرة باحتياح مقومات حياتها الكريمة؛ وطنًا وطنًا، وشعبًا شعبًا. هناك عواصف مدمِّرة من أعدائها المتكالبين عليها من خارجها وفي طليعتهم قادة أمريكا ذات الصولة والجولة في العالم، التي جعلت من نفسها الركن الشديد لدولة الصهاينة العنصرية الإرهابية، واستباحت أفغانستان والعراق بالاحتلال، وارتكبت فيها ما ارتكبت من جرائم الإرهاب والتعذيب والبطش والتخريب. وهناك عواصف لا تقل تدميرًا عن تلك العواصف الخارجية تهبُّ من بعض قادة أمتنا ومن جماعات فيها وممن يعدون من مثقفيها أنفسهم؛ وذلك بما تكتبه أقلامهم، أو تنطلق به أفواهم، من تبرير لعدوان أعداء الأمة عليها وإشادة بمواقفهم ومواقف من تعاونوا معهم في ارتكاب ما ارتكبوا – وما زالوا – يرتكبون من جرائم بحق هذه الأمة.

       وأمام كل ما سبقت الإشارة إليه عن وضع أمتنا لا يملك كاتب هذه السطور إلا أن يلجأ إلى ربه مبتهلاً بالدعاء – كما ابتهل إليه قبل نصف قرن بتلك القصيدة – فيقول:

       اللّهم يا مجيب الدعاء وموئل الرجاء هيئ لأمتنا من أمرها رشدًا، ووفِّقها؛ قادةً وشعوبًا، لتدرك أبعاد ما تعيشه من كوارث، وتعمل على التخلُّص مما هو حال بها منها، وتبذل الجهد لتفادي ما يدبر ضدها من أمور ذات عواقب لا يعلم فداحتها إلا الله وحده.

       اللَّهم يا مجيب الدعاء وموئل الرجاء نوِّر بصائر من تولوا مقاليد أمور أمتنا ليدركوا أن قوتهم تكمن في أدائهم الأمانة خير الأداء بحيث يوجهون طاقاتهم لصالح هذه الأمة، وليعلموا أن عداوة أعداء الأمة المسلمة؛ وبخاصة العرب منها، متأصلة راسخة الجذور، وأن مواجهة هؤلاء الأعداء لإزالة عدوانهم، وتفادي ما يخططون لارتكابه من عدوان لايمكن أن تنجح بالتذلّل لهم، ومدِّ الأيدي إليهم مستجديةً مستعطفة؛ بل بالتمسك بالثوابت والتماسك في الصفوف وتوظيف القدرات شبه المعطلة؛ معنويًا وماديًا.

       اللهم يا مجيب الدعاء وموئل الرجاء اجعل أفئدة قادة أمتنا تدرك أن سياسة الدولة التي أصبحت عاد هذا الزمان؛ عجرفةً واستكبارًا، هدفها الأكبر تحطيم أوطان أمتنا؛ واحدًا بعد الآخر، خدمةً من متصهينيها لحلفائهم الصهاينة، وأن ما يظهر المتصهينون من رغبة في إحلال السلام في منطقتنا العربية بحلَّ القضية الفلسطينية ما هو إلا خداع هدفه تثبط الهمم والتسويف حتى ينفِّذ الكيان الصهيوني ما يريد على أرض الواقع.

       اللّهم يا مجيب الدعاء وموائل الرجاء انصر أمتنا على أعدائها من خارجها، وانصرها على أعدائها من داخلها، واهدها إلى الطريق الصحيح والمنهج القويم لتحقيق النصر المأمول، الذي وعدت به عبادك الصالحين إنك لا تخلف الميعاد.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33

Related Posts