دراسات إسلامية

بقلم : سعادة الشيخ  الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ حفظه الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

       الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد:

       فإن مدينة تبوك التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعًا بين وادي القرى والشام، وقيل كانت بركةً لأبناء سعد من بني عذرة، قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، بعد أن كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في شهر رجب بالتهيؤ لغزو الروم، وعاد منها في شهر رمضان من السنة التاسعة .

       فقد كانت هذه الغزوة المقترنة بتبوك ذات أحداث جسام، ومعجزات نبوية كبيرة، وإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما سوف تتبوؤه هذه المنطقة من مكانة ونماء زراعي واقتصادي، وتوافد بشري، نرى اليوم ملامح ذلك قد برزت للعيان كما نرى أيضًا أمورًا هي من معجزات النبوة التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة عندما كانت المنطقة في قفر من الأرض، وشدة في الحصول على الماء الصالح للشرب، فضلاً عن المتطلبات الأخرى. وإذا هي اليوم تتحول إلى حقول خضراء، تمتلىء بما لذّ وطاب من المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، ولم يكن ذلك ليتحقق، لو لم يهيء الله المياه الوافرة، التي هي عنصر الحياة الوحيد، الذي به قوام الحياة في كل كائن حيّ، وبه مصدر النمو والحيوية، حيث يقول سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ﴾(1). ولو لم يهيء الله الدولة بقياداتها الحريصة على عمران البلاد وإنمائها وبذل الكثير في سبيل ذلك لما برزت بهذه الصورة.

       فما هي تبوك أصلاً ونشأةً، وماذا تم في غزوة تبوك التي تحدثت عنها كتب التاريخ قديماً وحديثاً، واقترن ذكرها بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته التي أظهر الله بها الإسلام في بقاع المعمورة، ولم يغفلها المفسرون، بل أولوها عنايةً خاصةً لأنها تعني أمورًا كثيرة في واقع المجتمع الإسلامي ذلك الوقت، ونزل فيها آيات كثيرات فضح الله بها أقواماً ملأ النفاق قلوبهم. وعاندوا رسول الله وتمالؤا عليه باطناً، بينما هم يظهرون المودَّة نفاقاً ومكابرةً.

       ولذا سميت سورة التوبة، التي نزل أغلبها مقترناً بغزوة تبوك: الفاضحة، حيث أظهر الله جلّت قدرته من خصال المنافقين: القولية والفعلية، ما جعلهم يتعرّون أمام الملأ؛ فكانت فاضحةً لما خفي من أعمالهم. كاشفةً ما كانوا يحرصون على ستره من نواياهم حتى يحذرهم المسلمون.. ويعرفوا شر ما تنطوي عليه نفوسهم. كما أن وقائع هذه الغزوة، محّص الله بها – في الجانب الآخر – قوماً، هم الصادقون مع الله في العقيدة، والمتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقاً: في القول والعمل.

       وسوف نحاول باقتضاب إبراز بعض الجوانب في غزوة تبوك، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها، وتحقق الكثير منها، وقد يأتي حسب مسيرة النمو في المنطقة ما يزيد ذلك تأصيلاً، وصدق الله في قوله الكريم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ﴾(2).

المسمّى:

       يرى الجوهري [… – 393هـ ] في الصحاح أن هذا الموقع لم يكن معروفاً باسم تبوك إلا بعد غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً من أصحابه يبوكون حِسْي تبوك، أي يدخلون فيه القدح ويحرّكونه ليخرج الماء؛ فقال عليه الصلاة والسلام: “ما زلتم تبوكونها بوكاً”، فسميت تلك الغزوة: غزوة تبوك، وهو تَفْعَلُ من البَوْكِ.

       وأورد دلالات لغوية فقال: قال أبو زيد: يقال لقيته أول بَوْكٍ، أي أول شيء، قال الكسائي: باكت الناقة تبوك بوكاً: سمنت.. وحكى ابن السكيت: ناقة بائك، إذا كانت فتيّةً حسنةً، والجمع البوائك، ومن كلامهم: إنه لمنحار بوائكها(3) ويقول ياقوت الحموي [574-626هـ] في معجم البلدان: تبوك بالفتح ثم الضم، وواو ساكنة وكاف: موضع بين وادي القرى(4) والشام، وقيل بركة لأبناء سعد من بني عذرة. وقال أبو زيد: تبوك بين الحجر وأول الشام، على أربع مراحل من الحجر، نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل، وحائط ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن أصحاب الأيكة، الذين بعث إليهم شعيب عليه السلام، كانوا فيها ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مَدْيَنْ، ومدين على بحر القلزم – هو البحر الأحمر – على ستّ مراحل من تبوك.

       وتبوك بين جبل حِسمى وجبل شرورى، وحسمى غربيها وشرورى شرقيها، وقال أحمد بن يحيى بن جابر: توجه النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة إلى تبوك من أرض الشام – وهي آخر غزواته – لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم، وعاملة ولخم وجذام، فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدًا، ونزلوا على عين ماء؛ فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أحد يمسّ من مائها؛ فسبق إليها رجلان، وهي تبضّ بشيء من ماء؛ فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زلتما تبوكان منذ اليوم؛ فسميت بذلك تبوك، والبوك: إدخال اليد في شيء وتحريكه، وركز النبي صلى الله عليه وسلم عنزته ثلاث ركزات، فجاشت ثلاث أعين؛ فهي تهمى بالماء إلى الآن.

       وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك أياماً حتى صالحه أهلها. وأنفذ خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وقال له: ستجد صاحبها يصيد البقر، فكان كما قال، فأسره وقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال بجير الطائي يذكر ذلك:

تبارك سابق البقرات إني

رأيت الله يهدي كل هاد

فمن يك حائداً عن ذي تبوك

فإنا قد أمرنا بالجهــاد

       وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلةً وكان ابن عريض اليهودي قد طوى بئر تبوك؛ لأنها كانت تنطمّ في كل وقت، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمره بذلك(5).

       وجاء في المصباح المنير للرافعي في مادة بوك: باكت الناقة تبوك بوكاً: سمنت فهي بائك بغير هاء، وبهذا المضارع سميت غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال؛ فكانت خاليةً عن البؤس؛ فأشبهت الناقة التي ليس بها هزال. ثم سميت البقعة تبوك بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مدين، الذي بعث الله إليهم شعيباً(6).

       وذكر محمد نبهان الخبَّاز في كتابه الاصطفاء في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي نشرته إدارة إحياء التراث الإسلامي في قطر قوله: تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلةً، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلةً، وتبوك الآن في المملكة العربية السعودية، وهي مركز هام للسياحة والنقل، وهي تبعد عن المدينة المنورة سبعمائة وستاً وثمانين كيلو متراً على حسب المقياس في عصرنا الحاضر(7).

       وذكر ابن قتيبة [213-276هـ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار في رجب سنة تسع إلى أرض الروم؛ فكان أقصى أثره تبوك؛ فأقام بها وبنى مسجدًا هو بها إلى اليوم(8).

سبب الغزوة:

       ذكر ابن كثير [700هـ – 774هـ ] في تفسيره، وفي تاريخه أن الله سبحانه لما أنزل قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوْا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ الآيتين(9) قالت قريش، كما ورد عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، وكان ذلك بعد فتح مكة: لينقطعنّ عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوَّضهم الله عن ذلك، بالأمر بقتال أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

       قال ابن كثير فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الكتاب، لأن هذه الآية هي أول الأمر بقتالهم بعد ما أذل الله المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واستقامت جزيرة العرب. وقد أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً وتخلَّف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك عام جدب، ووقت قيظ وحرّ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام بها قريباً من عشرين يوما(10).

       لكن لويس معلوف يريد في معجمه المنجد أن يطمس حقيقةً تاريخيةً ثابتةً، وينفي أن المقصود بغزوة تبوك: الروم، وأهل الكتاب من النصارى واليهود، مع أن الآية الكريمة أبانت أنهم المقصودون: ﴿حَتَّىٰ يُعْطُوْا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰـغِرُوْنَ﴾ فجعل السبب: إخضاع عرب الشمال، حيث قال: تبوك مدينة في طريق الحج من دمشق إلى المدينة، اشتهرت بالغزوة العظيمة التي قام بها النبي لإخضاع عرب الشمال(11).

       ولا غرابة في هذا فالمثقفون من النصارى واليهود يحبون أن يطمسوا الحقائق الإسلامية في دسِّهم، برفق ولين، كمن يدس السمّ في العسل أو الدسم، ويستبين مثل هذا في شبهاتهم التي ترد، وفي محاولاتهم قلب الأمور بموازين الجدل والتمويه، ثم كيف يتجاهل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى يوحنا بن رؤبة وأهل أيلة كتاب أمان على أن يدفعوا (300) دينار في كل عام جزية عن يد وهم صاغرون، كما أعطى الجزية أهل الجرباء وأذرح وانسحبت الروم خوفاً من لقائه صلى الله عليه وسلم(12).

من مرَّ بها من الرحالين:

       كثير من الرَّحالين والحجاج قد مروا بتبوك في طريقهم إلى المدينة المنورة، ومكة المكرمة، وغيرهما فهي مفتاح الجزيرة العربية وبوَّابتها للقادمين عن طريق الشام ومصر، سواء منهما أو مما وراءهما.. وقلّ أن يترك ذكرها رحالة من الرحالين أو الحجاج، ولكن المعلومات عندهم متقاربة، إلا في رصد ما مرَّ به أي منهم، حيث يصف المدينة وما حولها في وقته.

       ولكثرة من سجَّل رحلته للحج من تلك الديار، فإننا سوف نقتصر على ما رصده إثنان من الرحالين:

       الأول: أبن بطّوطة [703-779هـ] الذي قام برحلته من طنجة بالمغرب عام 725هـ .

       والثاني: محمد السنوسي [1267هـ – 1318هـ ] الذي قام برحلته من تونس عام 1299هـ قاصداً الديار المقدسة للحج والزيارة، ثم عاد إلى تونس يوم الاثنين 26 ربيع الأول عام 1300هـ .

       يقول ابن بطوطة: وقد وصلنا إلى تبوك، وهو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها عين ماء تبضّ بشيء من الماء؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها جادت بالماء المعين، ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

       ومن عادة حجاج الشام أنهم إذا وصلوا إلى منزل تبوك، أخذوا أسلحتهم، وجردوا سيوفهم، وحملوا على المنزل، وضربوا النخيل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروي منها جميعهم، ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال، واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك.

       ومن عادة السقائين، أنهم ينزلون على جوانب هذه العين، ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس، كالصهاريج الضخام، يسقون منها الجمال، ويملؤون الروايا والقرب، ولكل أمير أو كبير حوض، يسقي منه جماله وجمال أصحابه، ويملأ رواياهم، وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته بشيء معلوم من الدراهم. ثم يرحل الركب من تبوك، ويجدّون السير ليلاً ونهاراً، خوفاً من هذه البرية، وفي وسطها الوادي الأخضر، كأنه وادي جهنّم، أعاذنا الله منها، وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة، بسبب ريح السموم التي تهب؛ فانتشفت المياه، وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار، ومات مشتريها وبائعها، وكتب ذلك في بعض صخر الوادي.

       ومن هناك ينزلون بركة المعظم، وهي ضخمة، نسبتها إلى الملك المعظم، من أولاد أيوب، ويجتمع بها ماء المطر، في بعض السنين، وربما جفّ في بعضها.

       وفي الخامس من يوم رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر: حجر ثمود وهي كثيرة المياه، ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم، اقتداءً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته، وأمر ألاّ يسقي منها أحد(13).

       أما محمد السنوسي في كتابه الرحلة الحجازية، فقد تحدث عن تبوك في ثلاث صفحات، وبعض كلامه عنها مما جاء في كتب التاريخ في السيرة النبوية لابن هشام وغيره، وعند ابن كثير في تاريخه، والطبري في تاريخه.

       ومما قاله: تبوك: يقال باك العين يبوكها، إذا ثـُوِّر ماؤها بعود، وقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن وجده يبوك عيناً هنالك، قلّ ماؤها: تبوك: “كذا”، فاطّرد ذلك الاسم للمكان، وهو محل أصحاب الأيكة وخبر شعيب مع أصحاب الأيكة، مذكور في القرآن الكريم.

       ولغزوة تبوك خبر مبسوط في كتب السير النبوية، ويقال لها: غزوة العسيرة أو العسرة، ويقال لها: الفاضحة؛ لأنها فضحت كثيرًا من المنافقين، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك في رجب سنة تسع “للهجرة” بسبب ما بلغه عليه الصلاة والسلام من أن الروم تجمّعت جموعهم بالشام، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فرأى غزوهم.

       ثم قال: وخرج لهذه الغزوة بسبعين ألفاً من الرجال وعشرة آلاف فرس، وعند ارتحاله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر، ورايته للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى الحجاب بن المنذر، ودفع لكل بطن من العرب لواء وراية.

       ولما نزلوا تبوك، وجدوا عينها قليلة الماء فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده غرفة من مائها، ومضخ بها فاه، ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت وقال لمعاذ: “يوشك إن طالت بك حياة أن ترى هنا(14) ملىء جناناً” قلت والكلام للسنوسي: وجدنا بها جنانًا من نخيل، غير أن نخلها ذكر لا تمر فيه، وبها وجدنا عنبًا ويقطيناً ومياهاً، لم يكن مثلها، فيما مررنا عليه من المراحل السابقة، وبذلك شاهدنا آثار إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيّبات.

       ثم قال: وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة، واستشار أصحابه في مجاوزتها فقال عمر: إن للروم جموعًا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا وأفزعهم ذلك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرًا. ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة. ثم بدأ في وصف المدينة ومبانيها فقال: أما بناء تبوك فهو من لبن غير مطبوخ وجدرانها قصيرة، دون قامة الإنسان، ومسجدها الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عمر بن عبد العزيز، ومنها إلى المدينة كان مزروعاً في عهد عمر بن الخطاب.

       وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ثنية تبوك وأشار إلى جهة الشام وقال: “هذا شامي” وأشار إلى جهة اليمن وقال: “هذا يمني” واستدل العلماء بذلك على أن الحجاز من اليمن .

       وقلعة تبوك ذات بئر، بناها السلطان سليمان، ولبركتها عين جارية، ولا أدري هي التي كان يبوكها البايك أو غيرها.

       وعند نزول الركب في هاته المنزلة السعيدة قبل أمير الركب سعيد باشا مكاتيب الدولة العليّة التي وجدها في انتظاره تأمره بالكرنتينه في الزرقاء عشرة أيام. وكان الباشا قبل ذلك حرَّر شهادة في سلامة الركب من الأمراض، وأراد أن يوجّه بها بريده جوخدار غير أنه سبق السيف العذل، وتقدمت الأوامر على الاستئذان وامتثل ما ورد إليه من الأمر(15)، بل لقد قرأت في إحدى الصحف مقابلةً مع أحد أبناء مدينة تبوك، وهو الآن عضو في المجلس الإداري للمنطقة، أن مدينة تبوك التي هي حاضرة الإمارة ويتبعها محافظات عدة كان سكانها إلى عهد قريب عربًا رحّلاً، ولا يوجد في البلد إلا دكان صغير واحد يصعب على المسافر فضلاً عن المقيم الحصول عنده على الضروريات كالدقيق، ولا يوجد بالبلد مخبز فضلاً عن الكماليات .

       ولذا فإن المقارنة بين حال تبوك قبل أربعين عامًا، وبينها الآن لا يكاد يصدقها إلا من عاينها بنفسه؛ فالتقدم فيها كشأن مدن المملكة، في مرافق الحياة جميعها، لا تسير سيرًا وإنما تقفز قفزات متسارعة، بفضل الله، ثم بفضل ما تيسِّره الدولة وتهيء أسبابه، مع توفر العامل الرئيسي الذي أرسى دعائمة الملك عبد العزيز رحمه الله، حيث كان من هواجس نفسه الأولوية في مسيرة البناء وتوحيد أجزاء المملكة، ذلك هو الأمن، الذي تستقيم معه جميع الأمور، ويترابط أبناء البلاد حكاماً ومحكومين فيما بينهم بوشاج المحبة والألفة.. فهو أمن في النفوس، وأمن في الاقتصاد، وأمن في القلوب.. وأمن في البلاد المترامية، وطرقاتها، وأمن لكل وافد لهذه المملكة التي منَّ الله عليها بحماية الحرمين الشريفين، وبذل النفس والنفيس لخدمة ضيوف الرحمن.

       ذلك أن ما تحقق لكل جزء من أطراف البلاد، وتبوك التي هي بوابة المملكة الشمالية الغربية، في أمور عديدة: علمية وزراعية، واقتصادية واجتماعية وغيرها، يطغى على جميع المقاييس العلمية الحديثة بمفاهيم المختصين، وهي نعم من الله تذكر فتشكر، لأن بالشكر تدوم النعم كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ تّأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيْدَنَّكُمْ﴾(16) ووعد الله حق لا مراء فيه، إذا أدى الإنسان ما عليه لله من حق النعمة شكرًا لله واستجابة لأمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .

       مع شكر النعمة القولية باللسان، والفعلية بالجوارح، والعقدية بالقلب؛ فقد أمر الله بالتحدث بنعمه سبحانه؛ فقال تعالى آمرًا نبيه بذلك: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾(17). والأمامة تبع له صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي إلا ما هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.

*  *  *

الهوامش :

  • سورة الأنبياء، الآية 30.
  • سورة النجم، الآيتان 3، 4.
  • الصحاح للجوهري 4: 1576.
  • وادي القرى: وادٍ كبير شمال المدينة به قرى عديدة فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، بعد فتح خيبر.
  • معجم البلدان للحموي 2: 14- 15.
  • المصباح المنير للرافعي بتصحيح مصطفى السقا 1: 74.
  • الاصطفا في سيرة المصطفى لمحمد النجار 3: 142.
  • المعارف لابن قتيبة 165.
  • سورة التوبة، الآيتين 28، 29.
  • تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2: 347.
  • المنجد في اللغة والأدب والعلوم، 2: 103.
  • الاصطفا في سيرة المصطفى للخباز، 3:146.
  • رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار ط عام 1386هـ كتاب التحرير ص 78.
  • كذا في الأصل وصحة الحديث: “ترى ما هاهنا قد مليء..”. انظر ص (      ) من هذا البحث .
  • الرحلة الحجازية لمحمد التونسي، 2: 240-242.
  • سورة إبراهيم، الآية 7.
  • سورة الضحى، الآية 11.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33

Related Posts