الفكرالإسلامي

بقلم :   الأستاذ شوقي عبد اللطيف

قلب الحقائق:

       لقد تناسى أعداء الإسلام بأن عباءته تتسع للجميع “المسلم وغير المسلم” وأنه رسالة عالمية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَةً لِلْنَّاسِ بَشِيْرًا وَنَذِيْرًا وَلـٰـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُوْنَ﴾ سبأ: آية 28، تناسوا بأن دين الإسلام هو دين الرحمة رحمة العامة وليستْ رحمة المسلمين وحدهم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾ تناسوا بأن هذه الرسالة عنوانها السلامُ ورمزها الحبُ وهدفها الأخوة والتعاون وغايتها سعادة البشرية قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾ الحجرات: آية13.

       ومع وضوح هذه الحقيقة وسطوعها سطوع الشمس في كبد السماء، ونور القمر في الليلة الظلماء إلا أن الحقد والحسد أكل كبد أعداء الإسلام وأعمى بصيرتهم وأبصارهم فرموا الإسلام بما ليس فيه ظلمًا وعدوانًا فقالوا أخرس الله ألسنتَهم ولُعِنوا بما قالوا:

  • بأنه دين يهوى القتلَ ويتعطش للدماء ويعشق الخرابَ والدمار.
  • لقد تصوّروا أن هذه الافتراءات والترهات تنال من عظمة الإسلام أو تقلّل من شأنه أو تحجب نوره.
  • ولكنّ هيهات هيهات وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يُرِيْدُوْنَ لِيُطْفِئُوْا نُوْرَاللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُوْرِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُوْنَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوْلَه بِالْهُدٰى وَدِيْنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْنَ﴾ الصف: الآيتان 8، 9.
  • والأنكى والأمرّ أن الذين يتطاولون على الإسلام ويجادلون في الحق بعدما تبين لهم أنهم مصّاصو الدماء وعشاق الخراب ورموز الظلم وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَإِذَا قِيٍلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُوْا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوَنَ* أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُوْنَ وَلـٰـكِنْ لاَ يَشْعُرُوْنَ﴾ البقرة: الآيتان 11، 12.
  • إن التجارب والواقع يؤكّدان أن الاقتناع بأية فكرة أو عقيدة لايكون إلا عن الرضا والاختيار والحرية التامة.
  • لهذا فإن من سخف العقول بعد ذلك أن يوجه أي اتهام أو أية شبهة بأن الإسلام الذي انتشر سريعًا لم ينتشر إلا بحد السيف وعن طريق الإكراه.
  • إن الفضلَ ما شهدتْ به الأعداءُ فهذا الكاتب الغربي الكبير “توماس كارليل” مؤلف كتاب الأبطال وعبـــادة البطــولـــة يقــــرر حقيقةً تزلزل أباطيل الحاقدين وتخرس ألسنتهم فيقول: “إن اتهامه بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة إلى دعوته سخف غير مفهوم”.
  • إن السلام في الإسلام هو الأصل والحرب هو الفرع، إنه دين يبغض الحرب ولا يحبذها ولا يحب الدخول في غمارها إلا إذا اضطُرّ إلى ذلك اضطرارًا وسُدّتْ أمامه جميعُ مسالك السلام ونوافذه.

       عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالتِ الشمسُ ثم قام في الناس فقال: “يا أيها الناس لاتتمنوا لقاءَ العدو وسلوا اللهَ العافيةَ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزْمهم وانصرنا عليهم” رواه البخاري ومسلم.

  • ومن هنا يتضح أن الإسلام حقًا هو دين السلام دين ينبذ العدوانَ بجميع صوره وكل أشكاله، إنه دين الحرية والسماحة فلم يثبت أن الإسلام أكره أحدًا على اعتناقه أو الدخول فيه.

       قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ﴾ البقرة: آية 256.

  • ألم يأن للمعاندين الجاحدين أن يعلموا بأن الحرب والسلام يدخل تحت ما يسمى بالسياسة الشرعية وبيان ذلك أن مشروعية الجهاد من حيث الأصل حكم تبليغي لايخضع لأي نسخ أو تبديل.
  • كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لايجوز إبطاله واجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية، والميزان المحكم في ذلك كله، إنما هو بصيرة الحاكم المتدين العادل وسياسة القائد المحنك المتبحر في أحكام الدين إلى جانب اعتماد الحاكم في كل خطواته مشاورةً من تحت يده من المسؤولين والاستماع إلى آرائهم والاستفادة من خبراتهم لأنّ مسألة الحرب والسلام من أهم المسائل التي تتعلق بمستقبل أمته.
  • إن أمان الناس وأمنهم مبدأ إسلامي أصيل لايفرق بين المسلم وغير المسلم؛ فحق الحياة وما يستلزمها هو حق مكفول لكلّ بني البشر على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وأوطانهم لهذا قرّر القرآن الكريم بأن اللجوء إلى الحرب لايكون إلا دفاعًا عن العقيدة والنفس والوطن والحرية والأرض والعرض قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ الَّذِيْنَ يُقَاتِلُوْنَكُمْ وَلاَتَعْتَدُوْا إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ المُعْتَدِيْنَ﴾ البقرة: آية 190.
  • إن جميع المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا في حدود الدفاع عن النفس ودفع الظلم الواقع على المؤمنين ﴿الَّذِيْنَ أُخْرِجُوْا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُوْلُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ الحج: آية 40.

       إن كل من يتتبع المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدءًا من معركة بدر وحتى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم إنما كانت كلها للدفاع عن النفس والعقيدة لرد المعتدين وكسر شوكتهم، ولهذا حصر القرآن دائرةَ القتال في الدفاع عن النفس والعقيدة ومقابلة القوة بالقوة ﴿فَمَن اعْتَدٰى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوْا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدٰى عَلَيْكُمْ﴾ البقرة: آية 194.

  • إن الإسلام يعشق السلام ويدعو إليه ولهذا نجد القرآن يأمر أتباعه بمسالمة المسالمين ويحذر من قتالهم ﴿وَإِنْ جَنَحُوْا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ﴾ الأنفال: آية 61.
  • ﴿فَمَا اسْتَقَامُوْا لَكُمْ فَاسْتَقِيْمُوا لَهُمْ﴾ التوبة: آية 7.
  • ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوْكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيْلاً﴾ النساء: آية90، فالإسلام إذا لايقر الحرب العدوانية وإنما يؤكد على الحرب الوقائية تأمينًا للإنسانية من البطش والإرهاب والغدر. قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيْها اسْمُ اللهِ كَثِيْرًا﴾ الحج: آية 40.
  • ولما كان الظلم من شِيَم النفوس وكان الكافرون لايعبأون بخلق ولا يكترثون بحقوق الغير مغترين بقوتهم .
  • ولما كانت القوة لايرد عليها إلا بالقوة وكان الحق في حاجة إلى حراسة تحميه من العدوان أمر اللهُ المسلمين أن يكون استعدادهم كاملاً للدفاع عن أنفسهم وإرهاب من تحدث نفسه بالاعتـــداء عليهم حتى لا يدفعه غرورُه إلى الاعتـــداء، لهـــذا أمـــر الله المسلمين بالاستعـــداد والتــأهب والتسلح بالقــــوة وبين لهم وظيفة القوة التي يوفّرونها لأنفسهم. قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوْا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُوْنَ بِهِ عَدُوَّاللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال: آية 60.
  • ومن خلال فهمنا للآية نلاحظ أنها خصت الخيل بالذكر لأنها كانت العدة القوية في الحرب وهي ترمز الآن إلى الدبابات والطائرات وكل المعدات الحربية الحديثة. كما نلاحظ بأن الآية قد بينتِ الغايةَ من تلك القوة وهي إخافة العدو حتى لايطمع في الهجوم على المسلمين وبذلك تكون الآية في حقيقة أمرها هدفها السلام لأن الاستعداد للحرب يمنع وقوعَ الحرب.
  • أفبعد هذا يظن عاقل أن الإسلام يقر الحربَ الهجوميّةَ العدوانية أو يشرع الحربَ لقهر الناس وإجبارهم على الإسلام.
  • وحُبًا في التعايش السلمي وحرصًا على سلامة النفس البشرية حرص الإسلام على أن يعامل المسلمين غيرَهم من أهل الكتاب ومن في حكمهم إذا كانوا تحت سلطانهم بالعدل الذي شرعه الله والرحمة التي أمربها سبحانه، وبذلك تكون لهم كل الحقوق العامة التي للمسلمين وفي المقابل يجب عليهم ما يجب على المسلمين وفقًا للقاعدة الشرعية التي تنص على أن “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
  • كتب أبوعبيدة عامر بن الجراح قائدُ الجيش في الشام إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عن الجميع – يخبره بما أفاه الله به على المسلمين وما أعطى أهل الذمة من الصلح فكتب إليه الخليفة يقول له: “وامنع المسلمين ظلمَهم والإضرارَ بهم وأكل مالهم إلا بحقها، ووفِّ لهم بشروطهم التي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم”.

       وكان قواد الجيش الإسلامي كخالد بن الوليد أو أبا عبيدة حين يدخلون بلدًا يكتبون لأهلها عهدًا ومما جاء في كتاب خالد لأهل الحيرة “على ألا تهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا يمنعون من ضرب النواقيس” إلا في أوقات الآذان والصلاة حتى لا يحدثوا فتنةً كما جاء في عهد آخر: “ولا يمنعون من إخراج “إبراز” الصلبان في عيدهم”.

       وجاء مثل ذلك في عهد أبي عبيدة أيام عمر ابن الخطاب على أن تترك لهم كنائسهم وبيعهم وحادثة عمر بن الخطاب حين ذهب للقدس وامتنع عن الصلاة في الكنيسة بعد أن طلب القائمون على شأنها منه الصلاة فيها بعد أن حان وقتها، لكنه خرج وصلى خارجها حتى لا يتعلل المسلمون بذلك على مر الزمن بحجة أن عمر صلى فيها.

  • ومما جاء في بنود معاهدة خالد “أيُّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابتْه آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه معرفةً بحاله، طُرِحَتْ عنه الجزية، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله”، وهو بذلك يقتدي بما فعله عمر مع اليهودي الذي كان يسأل الناسَ إحسانًا في المدينة، فلما عرف حاله، حط عن الجزيةَ وجعل له ولأولاده معاشًا من بيت مال المسلمين فلم يكن المسلمون يستغلون ضعفهم المالي للضغط عليهم، للدخول في الإسلام، كما أن الجزية لاتمثّل ضغطاً وإنما كانت تمثّل مساهمةً في بناء الدولة وقوتها.
  • وهكذا كان موقف الإسلام من المسلمين الأول من الحرب والسلام وموقفهم من غير المسلمين، مواقف كلها عدل وإنصاف ورحمة لا نجد لها مثيلاً على مر التاريخ، مواقف متناسقة ومتلاقية من الخلفاء وقوادهم، لأنها تصدر عن منبع ومصدر واحد وهو نبع الإسلام دين الله الخالد ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس  2008م ، العـدد : 8  ، السنـة : 32

Related Posts