بقلم : صلاح عبد الرحيم محمد

حينما نقلت صفحات تأريخ اليهود، عَبْرَ العصور الإسلامية، نجد أنهم نعموا في المجتمعات الإسلامية بروح التسامح والمودة التي تفيض بها الشريعة الإسلامية السمحة ، التي تدعو إلى احترام حقوق أهل الكتاب في ديار الإسلام، فقد شعر اليهود في ظل الحكم الإسلامي – بفضل مودة المسلمين لهم – بالأمن والأمان ، إذ كفل الإسلام لأهل الذمة من يهود ومسيحيين حرية العقيدة دون حظر، وحرية الرأي دون مصادرة ، وحرية الفكر دون حجر ، مؤكدًا بذلك أنه دين التسامح ، والحرية ، والسلام ، لايفرق بين مسلم، ويهودي ، ومسيحي ، فالكل فيه سواء.

       وفي المدينة المنورة، كتب الرسول صلى الله عليه وسلم كتابًا عاهد فيه اليهود،ووادعهم، وأقرّهم على دينهم، وأموالهم، وأمنَّهم على أنفسهم، فصار هذا الكتاب فتحًا جديدًا في إقرار السياسة الدينية باعتباره وثيقة تقرر لليهود حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرمة المال، وحرمة النفس، فقد أراد النبي أن يجعل المدينة وطنًا واحدًا، ومن الجميع أمةً واحدةً، لايفرق بينهما اختلاف في الدين، لذلك يمكن وصف هذه الوثيقة بأنها وثيقة تآلف وأمان لليهود.

       وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أوصى لليهود بأن يُوَفَّى لهم بعهدهم، ولا يكلفون فوق طاقتهم، وكتب أمير المؤمنين إلى عامله بالكوفة يأمره أن يعطيَ أهل الذمة ما بقي من خراج الكوفة ليسدد ديونهم، ويساعد من أراد الزواج منهم، وكان من سماحة الإسلام وعدالته أن عمر أجرى الصدقة على يهودي كفيف البصر، وأمر له بعطاء دوري من بيت مال المسلمين، وقال لخازن بيت المال: “انظر لهذا وأمثاله، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم”، ثم وضع عمر عنه الجزية، واشتغل كثير من اليهود بفلاحة الأرض، وترك لهم عمر أرضهم مقابل دفعهم الخراج، واحترف اليهود أيضًا التجارة، واشتغلوا بالصناعة، وكان منهم الأطباء، فقد كان للحجاج بن يوسف الثقفي طبيبان يهوديان، وفتح العرب المسلمون كثيرًا من الأمصار، منها العراق، والشام، ومصر، فرحب معظم أهل الذمة من يهود ومسيحيين بالفتح العربي، تخلصًا من الاضطهاد الروماني، والصراع الديني، ودعا العرب الفاتحون أهل الذمة إلى الإسلام، وأعلنوا أن من يسلم منهم يصبح له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، ولذا دخل في دين الله أفواج من اليهود والمسيحيين، ويروى البلاذري في “فتوح البلدان”: “أنه كان على أهل الذمة طوال عهد الخلفاء الراشدين والأمويين واجبات، ولهم في مقابلها حقوق. أما الواجبات فكان على أهل الذمة أن يدفعوا الجزية، فكانت على الموسر 48 درهمًا، وعلى متوسط الحال 24 درهمًا، وعلى الفقير 12 درهمًا”. وقيل: أُعْفِيَ النساء، والصبيان، وذوو العاهات، والرهبان من الجزية، والحقيقة أن الجزية لم تكن عقابًا لأهل الذمة، فهي نظير إعفائهم من الجندية، ومقابل حماية الإسلام لهم.

       ويروى البلاذري: “أنه كثيرًا ما كان بعض أهل الذمة ينقضون ما شرطه المسلمون عليهم، فكان المسلمون لا يؤذونهم، أو يتعرضون لأموالهم”.

       ويتحدث الماوردي في “الأحكام السلطانية” فيقول: “أما حقوق أهل الذمة، فهي الكف عنهم، والحماية لهم، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم”. وكان يتولى شؤون اليهود رئيس ديني يسمى “رأس الجالوت”، ففي العصر العباسي، تولى هذا المنصب “دانيال بن حسداي” وكان يشغل أيضًا وظيفة قاضي اليهود عامةً، ويستعين بعشرة مساعدين، وهو يقوم على شؤون جميع اليهود في البلاد الخاضعة للخليفة(1)، وكان “البستاني” هو أول رأس جالوت تولى شؤون اليهود في العهد الإسلامي، وقد بقي هذا المنصب في أعقابه، يتوارثه الخلف عن السلف عهدًا طويلاً، وكان البستاني موضع تقدير عمر بن الخطاب ورضائه، فأوصى بحسن معاملة اليهود(2)، وقد صار ليهود مصر رئيس طائفة مستقل عن غيره هو “أبوالحسن بن الموفق بن شموئيل” سنة 684هـ، وكان يشرف على مصالح الفرق اليهودية من قرائين، وسامريين في جميع ديار مصر(3)، ويذكر “بينيامين التطيلي” في رحلته: “أن اليهود زمن الفتح الإسلامي لمصر، كان لهم في الإسكندرية جالية يتراوح عددها بين أربعين ألفًا، وسبعين ألفًا، وجاء في نصوص الهدنة بين العرب والبيزنطيين نص خاص باليهود يسمح لهم بالإقامة في الإسكندرية، ولقد أبقى العرب المسلمون المعابد، والكنائس، ولم يتدخلوا في الشؤون الدينية لأهل الذمة من يهود ومسيحيين، ولم يتشددوا معهم في بناء معابدهم وكنائسهم، وتركوا لهم حرية الاحتفال بأعيادهم”.

       وفي العصر الطولوني اعتنق كثير من اليهود الإسلام، وانخفضت مقادير الجزية المفروضة على غير المسلمين، حتى بدأت تختفي كباب من أبواب الإيرادات، وكان يعمل في بلاط أحمد بن طولون عدد من الأطباء اليهود، وكان منهم الصيارفة، والتجار الذين حققوا ثروات طائلة، وكان لأهل الذمة محاكم دينية خاصة بهم كما يروى المؤرخون، وفي العصر الفاطمي يذكر المؤرخون أن الفاطميين عاملوا اليهود بالمودة والرحمة، وقد تقلدوا أرفع المناصب وأعلاها في عهد الخليفة العزيز، كما شغلوا المناصب العالية في عهد المستنصر، ومن جاء بعده. ومن اليهود من تقلد الوزارة، فقد انتهج الفاطميون سياسة التسامح تجاه اليهود، وهذا واضح في السماح لهم ببناء معابدهم وترميمها والمحافظة عليها، ولقد شاع في العصر الفاطمي شغل اليهود لأعلى المناصب في الدولة، وعلا شأنهم فيها مما دفع أحد الشعراء لنظم هذه الأبيات حيث قال(4):

       يهود هذا الزمان قد بلغــــــــوا

                           غايــــــةَ آمالهم وقـــد ملكــوا

       العـــز فيهم والمـــالُ عندهمـــو

                           ومنهمــوا المتسشــــارُ والملكُ

       ياأهلَ مصر إني نصحتُ لكم

                           تهـــودوا قــــد تهــود الفلك

       وفي العصر الأيوبي، وبعد انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين توسط لديه طبيبه الخاص “موسى بن ميمون” فسمح لليهود بالعودة، فعادت أعداد كثيرة منهم من المنافي إلى فلسطين، إذ كانوا يتعرضون للاضطهاد والقتل في أوروبا، وقد استقبل الملك العادل أخو صلاح الدين ثلاثمائة حاخام يهودي استقبالاً وديًا حين أتوا من أوروبا لزيارة القدس، كما يروى المؤرخون، وقد ذكر الشاعر اليهودي الأسباني “يهود الخرزي” الذي زار بيتَ المقدس سنة 1216م: “أن فتح صلاح الدين لبيت المقدس أعقبتْه هجرة جموع كبيرة من اليهود إليها، وأن صلاح الدين نفسَه لم يمنعهم من الإقامة فيها”، وهذا يدل على سماحة صلاح الدين، فكانت فلسطين في عهده واحة الأمان لليهود، إذ وجدوا فيها الحماية والرعاية. وفي العصر العثماني وصل اليهود إلى أعلى المناصب في الدولة، فقد عين “يوسف حامون” طبيبًا خاصًا “لبايزيد الثاني” ثم سليم الأول، وارتقى ابنه “موسى حامون” ليكون الطبيب الخاص لسليم الثاني. وقد نعم اليهود – في كنف الدولة العثمانية – بالهدوء والاستقرار، والحرية، ولما فتح العرب المسلمون الأندلس أعادوا لليهود أملاكَهم وأراضيهم التي استولى عليها الحكام السابقون، وسُمح لليهود ببناء معابدهم، وتوفر لهم الاستقلال القضائي في المسائل الشرعية.

       ويذكر “أرسكين تشايلدر” في كتابه “العرب في نظرالغرب”: “أنه يكفي أن نقارن بين حسن معاملة العرب لليهود، وسوء معاملة الغرب لهم، فقد جاءتْ وفود اليهود الأسبان إلى الجيوش العربية في المغرب تنشد مساعدتها تخلصًا من اضطهاد الأسبان لهم”. وفي أواخر الحكم الإسلامي للأندلس، في عهد بني الأحمر نعم اليهود بسماحة الإسلام، ففي عام 1367م استقبل “محمد الخامس” ثلاثمائة عائلة يهودية هربت من اضطهاد القشتاليين، فلجأوا إلى غرناطة، ولمع في بلاط محمد الخامس، من بني الأحمر، الطبيب اليهودي “إبراهيم بن ثرثار”، كما عمل “صموئيل بن تغرالة” اليهودي طبيبًا لبني زيري.

       وقد أجاد اليهود اللغة العربية والقشتالية، فكان منهم مترجمون مشهورون أمثال “عزر الرُندي”، واستعان “عبدالله” آخر ملوك بني الأحمر بمترجمين يهوديين هما: “إسحاق بردونيل” وصهره “بودا”. وبرز من اليهود كُتاب وشعراء، وفلاسفة، وعلماء بفضل مناخ التسامح والحرية الذي أتاحه الإسلام لهم.

       ويعترف كثير من المستشرقين بأن المسلمين واليهود والمسيحيين عاشوا جنبًا إلى جنب في مجتمع واحد، تربطه صلات المودة والتسامح، يقول “جولد تسيهر”: “إن ما يشاهد من تسامح الحكومات الإسلامية يرجع إلى ما كان في النصف الأوّل من القرن السابع الميلادي من مبادئ الحرية الدينية التي منحت أهل الكتاب حق مباشرة شعائرهم الدينية، فإن روح التسامح الإسلامي قديمة، وهي روح اعترف بها المعاصرون من غير المسلمين، وأصلها في القرآن “لا إكراه في الدين” واعترف “أرنولد توينبى” بتسامح الإسلام مع أهل الذمة من يهود ومسيحيين، فقال: “لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف غير المسلمة على قبول الإسلام أو عن اضطهاد منظم قصد منه استئصال الأديان الأخرى”.

       ويقول أحمد علماء اليهود وهو “عما نوئيل دوبش” مثنياً على الإسلام، وفضله، وروحه الصادقة: “إن المسلمين حملوا بفضل القرآن قبس العرفان إلى أوروبا، وعلموا الشرقيين والغربيين الفلسفة، والطب، والفلك، والشعر، وأحيوا تراث اليونان وعلومهم، لقد كانت الدنيا غارقة في ظلمات الجهل، فغمر المسلمون كل أرجائها بنور العلم، فهم لهذا الاعتبار واضعوا أساس العلم”.

       وعلى الرغم من سماحة الإسلام التي نعم اليهود بها في المجتمعات الإسلامية، على مر العصور، فإننا نرى أحفادهم اليوم في إسرائيل يعيثون في الأرض فسادًا، فيغتصبون أرض العرب بالقوة المسلحة في فلسطين، والجولان، وجنوب لبنان، ويمارسون أبشع أساليب التعذيب والاضطهاد، والقمع، ويصادرون أراضي العرب في الأرض المحتلة، ويهدمون المنازل، ويشردون أصحابها، ويقيمون المستوطنات اليهودية على أرض ليست أرضهم، مغتصبين بذلك حقوق غيرهم عنوة، ويرفضون الامتثال للقانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، ويسوِّفون، ويماطلون، ويراوغون في مفاوضات السلام الحالية، وينقضون العهود، ولا يحترمون المواثيق، ولا ينفذون ما تعهدوا به، من اتفاقات، لا يردعهم رادع من قانون، أو من ضمير، وتمادوا في غيهم، وصلفهم، وزهوهم بقوتهم، واعتبروا أنفسهم فوق الجميع، فاستخفوا بالعرب وعضوا اليد العربية والإسلامية التي آوتهم حيث لم يكن لهم مأوى في أوروبا بعد طردهم منها، لقد عاملهم المسلمون، في ظل الحكم الإسلامي، معاملةً حسنةً بوصفهم أهل كتاب، لقد نسي يهود اليوم في إسرائيل ما قدمه العرب والمسلمون لهم من معروف يوم أن كان العالم الإسلامي الملاذ الآمن لهم من ذل العبودية في أوروبا، والملجأ الهادئ لهم من هوان العذاب الذي عانوه في العصور الوسطى، يؤكد ذلك ما جاء في كتاب “العرب وإسرائيل شقاق أم وفاق”، لأحمد ديدات، على لسان “بول فندلي” – أحمد أعضاء الكونجرس الأمريكي الأسبق – فيقول: “يروى “إسرائيل شاحاك” – وهو أستاذ كيمياء يهودي – أنه يوجد بين الأحداث التي وقعت ضد اليهود بألمانيا بعد عام 1930م والأحداث التي تقع في إسرائيل اليوم ضد العرب وأوجه شبه كبيرة، ففي ألمانيا كان اليهود يعتبرون مجرد أشياء، وكان اليهود معرضين للامتهان والتعذيب، والاضطهاد والطرد من البلاد، وبذلك كانت حياة اليهود في ألمانيا آنذاك في غاية البؤس والشقاء الذي وصل إلى ذروته عندما طلب منهم الألمان النازيون أن يحزموا أمتعتهم، وأن يغادروا ألمانيا، أو بالأحرى كانوا مجبرين على مغادرة كل أوروبا هربًا من العذاب، والموت في معسكرات قتل اليهود، وإبادتهم، ووجد اليهود الحل في إقامة دولة لهم، يعيشون فيها. واليوم يقول قادة وزعماء إسرائيليون للفلسطينيين: “يجب أن تذهبوا عن البلاد. يجب أن تخرجوا من البلاد”. تمامًا كما كان النازيون في أوروبا يقولون لليهود: “يجب أن تذهبوا من البلاد، يجب أن تخرجوا”، نعم، إن تعبير “يجب أن تخرجوا” هو عنوان كتاب نشره واحد من زعماء إسرائيل، وعضو كنيست عندهم هو “مائير كاهاني”، لقد أصبح شعار “يجب أن يذهبوا” هو الحل لمشكلة الفلسطينيين في إسرائيل، في نظر إسرائيل، إن على الفلسطينيين في نظرهم ليسوا بشرًا، إنهم مجرد أشياء، إن اليهود يضغطون الفلسطينيين إلى حد السحق بالأرض المحتلة”. هذه شهادة صريحة على لسان يهودي يعمل أستاذًا للكيمياء بجامعة “كابل” بواشنطن تدمغ عدوانية إسرائيل. ونجد مراسل صحيفة التايمز الأمريكية “إليكس أ. سميث” في عددها الصادر في 19/11/1989م يتسائل قائلاً(5): “أيّ نوع من الناس أولئك الذي يطلقون الرصاص على ظهور الأطفال الفلسطينيين، وهم يهربون من المكان لمجرد إلقائهم الحجارة تعبيرًا عن احتجاجهم على الظلم الذي حاق بهم، وبأهليهم، وبذويهم؟.

       ويمتد العقاب أكثرَ فأكثر ليشمل هدم البيوت، ونسفها بالديناميت والقنابل من جانب القوات الإسرائيلية، أي نوع من الناس – نحن الأمريكيين – ونحن نعطي إسرائيل آلاف الملايين من الدولارات التي جمعتْها الحكومة الأمريكية من دافعي الضرائب الأمريكين كل عام لترتكب إسرائيل مزيدًا من الجرائم ضد الفلسطينيين؟”.

       وليس عندي ما أضيفه بعد هذه الشهادة التي تدين يهود إسرائيل، وحكومتها المدعومة من أمريكا، والتي جاءت على لسان مراسل صحيفة التايمز الأمريكية إذ وصف إسرائيل بالعدوانية، وارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض المسلوبة، لقد نسي يهود اليوم في إسرائيل ماضي أجدادهم يهود الأمس عندما كانوا يعيشون في كنف المجتمعات الإسلامية في أمن وأمان، وسلام، ولكن سنة الله في كونه تؤكد أن المعتدي الظالم، والغاصب لحقوق الغير، لا يمكن أن يفلت من عقاب الله، وإن طال الزمن، ولعل الله القاهر فوق عباده، يأتي بقوم يحبهم ويحبونه فيستردون ما سلب من حق، ويعيدونه إلى أصحابه في فلسطين، والجولان، وجنوب لبنان.

*  *  *

الهوامش:

  • العرب واليهود في العصور القديمة الإسلامية، للدكتور علي حسن الخربوطلي، ص102.
  • المرجع السابق، ص96.
  • المرجع نفسه، ص102.
  • المرجع السابق، ص108، نقلاً عن السيوطي، حسن المحاضرة.
  • “العرب وإسرائيل” شقاق أم وفاق” لأحمد ديدات، ص50 – 51.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو  2008م ، العـدد : 7  ، السنـة : 32

Related Posts