كلمة العدد
منذ نحو عام كامل لاتزال الدولةُ الصهيونيّةُ تفرض على أهالي “غزة” البالغ عددُهم المليونَ ونصفَ المليون حصارًا شاملاً، لم يرحم طفلاً أو شابًّا أوشيخًا أو امرأةً ، يُشَكِّل أفظعَ صور العنصريّة والتمييز بشاعةً ؛ حيث لم يُؤَدِّ فقط إلى انعدام الوقود الذي أوقفَ الحياةَ في هذه البقعة الجغرافيّة التي لاتتجاوز الثلاث مائة والخمسين كلومترًا مُرَبَّعًا ، وإنّما جعل أهاليها كلَّهم يعيشون مُحَاصَرين من كل جانب غير مسموح لهم بالخروج منها وغير مسموح بدخول الموادّ الغذائيّة إليهم . وإلى جانب ذلك مُسْتَهْدَفُون كلَّ وقت بقصف ونيران واجتياح من قبل جيش الاحتلال الصهيونيّ .
إنّ العالم الذي يدّعي التنوّر والتحضّر والتركيز على حقوق الإنسان ؛ بل على حقوق كلّ حيوان ، يقف اليوم مُتَفَرَّجًا على هذه المشاهد الفظيعة ، خاليًا من كلّ إحساس ، عاجزًا عن التفاعل مع هذه الانتهاكات الصارخة تجاه آدميّة شعب بأكلمه لم يرتكب ذنبًا سوى أنّه مسلم عربي يودّ مُصِرًّا أن يُتَاحَ له أن يعيش في بيته الذي شُرِّد منه ظلمًا واستكبارًا. وكأنّ الإنسان لايستحق أن يعيش إذا كان مسلمًا ؛ لأن المسلم لاحقوقَ له في شريعة الحضارة الأوربيّة والدستور الغربيّ الصهيوني الصليبيّ !.
الصمتُ الدوليّ إزاءَ الحصار الطويل المفروض على قطاع “غزة” من قبل دولة الكيان الصهيونيّ غير الشرعيّة ، يجدر بكل نوع من الاستنكار والشجب والتنديد . الرأي الدوليّ الذي يُقِيم الدنيا ، فلا يدعها تقعُد تجاهَ أيّ معاناة خفيفة تصيب الصهاينةَ أو الصليبيين أو شريحةً من الشرائح غير المسلمة نشاهده يلازم الصمتَ المُتَعَمَّد تجاهَ هذا الظلم الفادح الذي يمارسه الاحتلالُ الصهيوني تجاهَ الفلسطينيين ، ليس من عام أو عامين ؛ ولكن منذ ستّين سنة متتابعة ؛ ولكن هذا الحصارَ الذي فرضته دولةُ الكيان على قطاع “غزة” فاق أنواعَ الظلم التي ارتكبها الظلمةُ عَبْرَ التاريخ البشريّ ؛ حيث إنّه مصحوب بالقصف وفتح النيران والاجتياح المتّصل ، وإنّه مُؤَدٍّ إلى إبادة بطيئة لشعب بأكلمه. وقد صدق القياديّ البارز بحركة “حماس” الدكتور “خليل الحية” عندما قال: “إنّ معاناة المواطنين بسبب الحصار باتت أشدَّ من معاناتهم بفعل المحرقة والجرائم الصهيونية ، وإن الأوضاع في قطاع “غزّة” أصبحت خانقةً ومأسويّةً وكارثيةً ، ولم تَعُدِ الأمورُ قابلةً للاحتمال أكثر من ذلك ، مُعْتَبِرًا أنّ ما يجري في “غزة” هو حكم بالإعدام البطيء ، لأكثر من مليون ونصف المليون مُوَاطِن فلسطيني مُحَاصَرين خلف أسوارِ أكبرِ سجنٍ عرفه التاريخُ”.
وقد أوضحت وزارة الصحة الفلسطينيةُ أن أكثر من 71٪ من أطفال “غزة” يعانون من جرّاء الحصار سوءَ التغذية ونقصًا حادًّا في مُكَوِّنَات الغذاء الأساسيّ ، مُشِيرَةً إلى أنّ أكثر من 35 طفلاً قضوا من بين ضحايا الحصار . كما أشارت إلى أنّ الحصار أَدَّىٰ إلى وفاة 134 حالة حتى الآن ، وتَسبَّبَ في نقص الدواء وتعطّل الأجهزة الطبيّة في المُسْتَشْفَيَات .
وأفادتِ المصادرُ أنّ القطاعات الأخرى أيضًا تعطّلت ؛ فالمصانعُ كلُّها متوقفة أو مشلولة. وبلغت نسبةُ البطالة أكثر من 80٪ وبلغت نسبةُ الفقر 65٪ . وصَرَّحَ مدير العمليّات في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) “جون كنج” أن الحصارَ جعل وضعَ السجناء في العالم أفضلَ من وضع سكان قطاع “غزّة” . وقد أكّدت “الأونروا” يومَ السبت 12/4/2008م (5/4/1429هـ) أن سكان قطاع “غزّة” مازالوا يواجهون نقصًا حادًّا في الموادّ الأساسيّة والغذائيّة وموادّ الطاقة نتيجةً للحصار المفروض منذ يوليو 2007م (منتصف جمادى الثانية 1428هـ) وقالت الوكالة – الأونروا – إنّ مُعَدَّل دخول الشاحنات للقطاع انحفض من 10 آلاف شاحنة في شهر مارس 2008م إلى 2400 شاحنة في شهر أبريل 2008م . وقال تقرير لمنظمة الصحة العالميّة : إن 70٪ من أطفال القطاع دون سنّ 16 سنة يعانون مرضَ “فقرالدم” و “الأنيميا” . وقالت تقارير أخرى: إن هناك 20 ألف طفل مريض لايتمكّنون من تلقّي وجباتهم الطبيّة بسبب انقطاع الوقود . وأكّدت اللجنةُ الشعبيّةُ الفلسطينيةُ لمواجهة الحصار أن 85٪ من وسائل النقل والمركبات الخاصّة والعموميّة و 60٪ من سيّارات الإسعاف و 75٪ من مُعَدَّات البلديّة متوقفة تمامًا عن العمل . كما أن محطات معالجة مياه الصرف الصحيّ متوقفة ، ومياه المجاري والصرف بدأت بالتسرّب للمياه الجوفيّة، وتتسبّب في تلوّثها .
إنّ إسرائيل وسيدتها أمريكا – ومن معهما من الاتّحاد الأوربي وغيره – كانتا قد راهنتا على أنّ الشعب الفلسطينيّ المُحَاصَر الذي يعيش هذه المعاناةَ سينقضّ على “حماس” وقادتها وأنه ستنشب في قطاع “غزة” خصوصًا ومنطقة سكنى الفلسطينيين عمومًا حرب أهليّة شديدة ، وأن الشعب الفلسطيني سيُحَمِّل مسؤوليةَ معاناته قادةَ “حماس” وحدهم ، مُعْتَبِرًا إيّاهم مصدرَ الويلات من أجل سياستهم وإصرارهم على الصدام مع إسرائيل ومع عصابة محمود عباس العلمانيّ العامل لحساب الكيان الصهيوني وأمريكا أكثر من عمله لحساب الشعب الفلسطينيّ .
ولكن توهّمات كل من الكيان الصهيوني وأمريكا لم تتحق لحدّ الآن ، وبقي الشعب الفلسطيني صامدًا في وجه الاحتلال رغم كل المعاناة و وقائع الظلم الفظيع ؛ لأنه تَعَوَّدَ تفهّمَ الوضع ووُفِّقَ أن يُمَيِّزَ بين الصديق والعدوّ، ولم يلتبس عليه الأمرُ كما التبس على كثير من الشعوب المسلمة والعربيّة التي تُعَالُ صبرًا عاجلاً؛ لأنّها لاتعرف الصديقَ من العدوّ .
ولكنّ المؤسف هو موقفُ كثير من القادة والساسة العرب والمسلمين الذين جُلُّهم يُشَكِّلون مصيبةً كبرى للشعوب الإسلاميّة ؛ فكثيرٌ منهم لايهمُّهم معاناةُ الشعب الفلسطيني كما لايهمُّهم معاناةُ شعوبهم المسلمة والعربيّة . ويزيدنا أسفًا وقلقًا عندما نشاهد كثيرًا منهم يتسابقون إلى معانقة ومصافحة ومباركة القادة الصهاينة ومسؤولي دولة الكيان الصهيوني في الوقت الذي تجري فيه فصولُ هذه الجريمة البشعة ضدّ الإخوة الفلسطينيين ؛ فقد استقبلت دولةُ قطر – الإسلاميّة العربيّة – بترحاب حارّ وزيرةَ الخارجيّة الصهيونيّة “تسفني ليفني” ، وخلال كلمتها في “منتدى الدوحة الثامن للديموقراطية والتنمية والتجارة الحرة” مساءَ الاثنين: 14/4/2008م (7/4/1429هـ) شنّتِ الوزيرةُ الصهيونيّةُ هجومًا لاذعًا على من وصفتهم بـ”المتطرفين الذين يُهَدِّدُون عمليّةَ السلام” وكلٌّ يعلم أن المعنيَّ لدى الوزيرة بالمتطرفين هم قادة المقاومة الفلسطينية المشروعة التي تسعى لتحرير فلسطين واسترداد العزّ السليب.
كما التقاها وزيرُ الخارجية العُمَاني “يوسف بن علوي” في أوّل لقاء علنيّ بين مسؤول صهيوني ومسؤول عماني .
ولاشكّ أن هذه اللقاءات العربية الصهيونية في مثل هذا الوقت الذي تعيش فيه غزةُ هذه المعاناةَ الحِصَاريّة التي فرضها عليها الكيان الصهيوني ، يُكَوِّن عاملاً قويًّا لتشديد الصهاينة الحصارَ على الشعب الفلسطيني ولتقتيله بشكل أشنع من هذا الذي هو قائم الآن، وممارسة المزيد من المجازر الوحشية بحق الإخوة الأشقّاء في الدين والمصير .
واللقاءاتُ العربيةُ مع الصهاينة ظلّت مُكَثَّفة منذ وقت طويل ، بعضُها تَعَرَّتْ ، وبعضها بقيت طيَّ الخفاء ؛ ولكن الوقت كشف عنها الغطاءَ عندما أراد الله أن يفضح الخَوَنَة العملاءَ الفاقدين الغيرةَ والحميّةَ .
ولو أن القادة جميعًا وقفوا موقفًا مُوَحَّدًا ، ومَجُّوا في وجوه القادة الصهاينة والصليبيين المتصهينين الواقفين اليومَ بجانبهم – الصهاينة –بكل ما عندهم من غال ورخيص ، لما حَصَلَ ما حَصَلَ عبر هذا التاريخ الطويل من الظلم المنقطع النظير تجاه الشعب الفلسطيني وترابه ، وأرضه وعرضه ، وأرواحه وممتلكاته .
إنّ موقف هؤلاء القادة المسلمين الفاقدين للغيرة الدينية والحميّة القومية والنخوة العربية ، هو الذي ظلّ يزيد الشعبَ الفلسطينيَّ معاناةً ، وهو الذي جعل العدوَّ الصهيوني اللعين يفعل معه الأفاعيلَ .
موقفُ الأمم المتحدة ومنظماتُ حقوق الإنسان المزعومة وموقف الأمريكان والغرب الصليبي المتواطئ مع الصهاينة لايؤلم الشعبَ الفلسطينيّ والشعوبَ الإسلاميّة بمثل ما يؤلِمُها موقفُ هؤلاء القادة العرب والمسلمين المحسوبين على الإسلام المنتمين إلى التراب العربيّ الإسلاميّ .
غيرُ المسلمين من القادة والساسة مهما فسقوا وفجروا وتنكروا لدينهم وطينهم وبني جلدتهم لايبلغون في الوقاحة وفقد الحياء والتجرد من كلّ غيرة قومية ودينية هذا الحدَّ الذي يبلغه القادةُ والساسة العرب والمسلمون إلاّ من رحم منهم ربُّك .
تلك هي نقطةُ الضغف الكبرى الأساسيّة في جسد الأمّة الإسلاميّة ، ومن أجلها تُرْمَىٰ بما تُرْمَىٰ به من كل جانب ؛ ومن هنا يصطلح على محاربتها الأعداء بمن فيهم العدوُّ الصهيونيّ اللعين الذي لم تقبله أرضٌ في دنيا الله ، حتى أسكنته المؤامرة الغربيّة العالميّة في فلسطين : الأرض العربية الإسلاميّة .
إن الشعب الفلسطيني بعد كل هذه المعاناة سينتصر بإذن الله ، إذا لاذ بالصبر، وصَمَدَ في وجه الظلم والاحتلال ، وتغلّب على كيد العدوّ في داخل الصفّ قبل خارجه . كما ظلّ يتغلّب عليه لحدّ اليوم “إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِيْنَ اتَّقَوْا وَالَّذِيْنَ هُمْ مُحْسِنُونَ” (النمل/128).
( تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأحد : 5/5/ 1429هـ = 11/5/2008م )
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.