دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
بدايةً فإن الزكاة لا تحل للغني ولا لكل قوي قادر على العمل تتوفر له فرص العمل المناسب ، قال رسول الله ﷺ (لاتحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي «القوة والشدة ، السليم الأعضاء») رواه أبوداود والترمذي وصححه . وإن لم يكن لصاحب القدرة الجسمانية كسب يغني ويكفي فلا يعتد بها، لأن القوة بغير كسب لاتكسو من عري ولا تطعم من جوع ، قال النووي : إذا لم يجد الكسوب من يستعمله ، حلت له الزكاة ، لأنه عاجز . وإذا كان الحديث المذكور قد اكتفى بذكر (ذي المرة السوي) فإن حديثًا آخر قيد هذا الإطلاق وأضاف إلى القوة الاكتساب ، فعن عبيد الله بن عدي الخيار، أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي ﷺ يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر، ورآهما جلدين «قويين» فقال (إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أحمد وأبو داود والنسائي . وإنما خيرهما الرسول ﷺ لأنه لم يكن على علم بباطن أمرهما ، فقد يكونان قويين في ظاهر أمرهما ولكنهما غير مكتسبين أو يكتسبان ما لا يكفيهما ، والمراد بالاكتساب : اكتساب قدر الكفاية ، وإلا كان من أهل الاستحقاق . ولا يصح أن يقال بوقوف الزكاة على الزمنى والمرضى والعجزة فحسب . قال النووي : والمعتبر كسب يليق بحاله ومروءته وأما ما لا يليق به فهو كالمعدم. على أن حديث تحريم الزكاة على (ذي المرة السوي) يعمل بإطلاقه بالنسبة للقادر الذي يستمرئ البطالة ، مع تهيؤ فرص الكسب الملائم لمثله عرفًا. قال الخطابي : هذا الحديث أصل ، في من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم ، وفيه دليل على أنه لم يعتبر في أمر الزكاة ظاهر القوة والجلد ، دون أن يضم إليه الكسب ، فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه ، ويكون مع ذلك أخرق اليد لايعتمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة، بدلالة الحديث . وقال الأحناف يجوز للقوي أن يأخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدًا . قال النووي سئل الغزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن ، هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء ؟ قال : نعم . وهذا صحيح جار على أن المعتبر حرفه تليق به .
ومن ملك نصابًا من أي نوع من أنواع المال، وهو لا يقوم بكفايته لكثرة عياله ، أو لغلاء السعر فهو غني ، من حيث إنه يملك نصابًا ، فتجب الزكاة في ماله ، وفقير من حيث إن ما يملكه لا يقوم بكفايته ، فيعطى من الزكاة كالفقير . قال النووي : ومن كان له عقار ، ينقص دخله عن كفايته ، فهو فقير، يعطى من الزكاة تمام كفايته ، ولا يكلف بيعه . وفي المغني قال الميمون : ذاكرت أبا عبد الله «أحمد بن حنبل» فقلت : قد يكون للرجل الإبل والغنم ، تجب فيها الزكاة وهو فقير، وتكون له أربعون شاة ، وتكون له الضيعة لا تكفيه، فيعطى الصدقة ؟ قال : نعم ، وذلك ، لأنه لا يملك ما يغنيه ، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة ، كما لو كان ما يملك لاتجب فيه الزكاة .
والخلاصة : أن كل قادر على الكسب مطلوب منه شرعًا أن يعمل ليكفي نفسه بنفسه ، فمن كان عاجزًا عن الكسب لضعف ذاتي كالصغر والأنوثة والعته والشيخوخة والعاهة والمرض ، أو كان قادرًا ولم يجد بابًا حلالاً للكسب يليق بمثله، أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته ، أو مكفيه بعض الكفاية ، دون تمامها! فقد حل له الأخذ من الزكاة ولا حرج عليه في دين الله …(1)
ومن الرائع حقًا ما ذكره هنا فقهاء الإسلام فقالوا : إذا تفرغ إنسان قادر على الكسب لعبادة الله تعالى بالصلاة والصيام ونحوهما ، لا يعطى من الزكاة ، لأنه مأمور بالعمل والمشي في مناكب الأرض ، ولا رهبانية في الإسلام ، والعمل في هذه الحال لكسب العيش من أفضل العبادات إذا صدقت فيه النية ، والتزمت حدود الله .
أما إذا تفرغ لطلب علم نافع ، وتعذر الجمع بين الكسب وطلب العلم ، فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يعينه على أداء مهمته ، وما يشبع حاجاته، ومنها كتب العلم التي لابد منها لمصلحة دينه ودنياه ، وإنما أعطي طالب العلم لأنه يقوم بفرض كفاية ، ولأن فائدة علمه ليست مقصورة عليه ؛ بل هي لمجموع الأمة ، فمن حقه أن يعان من مال الزكاة لأنها لأحد رجلين ، إما لمن يحتاج من المسلمين ، أو لمن يحتاج إليه المسلمون ، وهذا قد جمع بين الأمرين ، واشترط بعضهم أن يكون نجيبًا يرجى تفوقه ، ونفع المسلمون به ، وإلا لم يستحق الأخذ من الزكاة ، ما دام قادرًا على الكسب . وهو قول وجيه ، وهو الذي تسير عليه الدول الحديثة حيث تنفق على النجباء والمتفوقين ، بأن تتيح لهم دراسات خاصة أو ترسلهم في بعثات خارجية أو داخلية …(2)
وقد حدد الإسلام الجهات التي تُصْرَفُ إليها الزكاة والتي بينتها الآية الكريمة في قول الله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ وَالْعَامِلِيْنَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوْبُهُمْ وَفِيْ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِيْنَ وَفِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيْلِ فَرِيْضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ) سورة التوبة آية 60 . وتعطى الزكاة للمسلم ، إذا كان من أهل السهام ، وذوي الاستحقاق ، سواء أكان صالحًا أم فاسقًا «الفاسق هو المرتكب للكبيرة أو المصر على الصغيرة» إلا إذا علم أنه سيستعين بها على ارتكاب ما حرّم الله ، فإنه يمنع منها ، سدًا للذريعة ، فإذا لم يعلم عنه شيء ، أو علم أنه سينتفع بها ، فإنه يعطى منها . وينبغي أن يخص المزكي بزكاته أهل الصلاح والعلم ، وأرباب المروءات ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال (مثل المؤمن ، ومثل الإيمان ، كمثل الفرس في آخيته يجول ، ثم يرجع إلى آخيته ، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان ، فأطعموا طعامكم الأتقياء ، وأولوا معروفكم المؤمنين) رواه أحمد بسند جيد وحسّنه السيوطي . وقال ابن تيمية : فمن لا يصلي من أهل الحاجات ، لا يعطى شيئًا حتى يتوب ، ويلتزم أداء الصلاة . وهذا حق ، فإن ترك الصلاة إثم كبير ، لا يصح أن يعان مقترفه ، حتى يحدث لله توبة ، ويلحق بتارك الصلاة ، العابثون ، والمستهترون الذين لا يتورعون عن منكر، ولا ينتهون عن غي ، والذين فسدت ضمائرهم ، وانطمست فطرهم ، وتعطلت حاسة الخير فيهم ، فهؤلاء لا يعطون من الزكاة إلا إذا كان العطاء يوجههم الوجهة الصالحة ويعينهم على صلاح أنفسهم ، فإيقاظ باعث الخير، واستثارة عاطفة التدين …(3)
وكما حدد الإسلام الجهاتَ التي تُصْرَف إليها الزكاة فقد حدد أيضًا الجهاتَ التي لاتحل لهم الزكاة ولا يستحقونها وهم :
1- الكفرة والملاحدة ، وهذا مما اتفقت عليه كلمة الفقهاء ففي الحديث (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) والمقصود بهم أغنياء المسلمين وفقراؤهم دون غيرهم . قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا ، ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم. ويجوز أن يعطوا من صدقة التطوع ففي القرآن (وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلىٰ حُبِّه مِسْكِيْنًا وَّيَتِيْمًا وَّأَسِيْرًا) وفي الحديث (صلي أمك) وكانت مشركة.
2- بنو هاشم والمراد بهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس وآل الحارث ، كما تحرم الصدقة على بني عبد المطلب ، فعن المطلب بن ربيعه بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه ، والفضل بن العباس انطلقا إلى رسول الله ﷺ ، قال : ثم تكلم أحدنا فقال : يا رسول الله ، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات ، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس ، فقال عليه الصلاة والسلام (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ، ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس) رواه أحمد ومسلم . وفي لفظ (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ويجوز أن يكونوا من الأغنياء فعن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني) رواه أحمد . وعن أبي هريرة قال : أخذ الحسن تمرةً من تمر الصدقة ، فقال النبي ﷺ (كخ، كخ، لطرحها ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة) متفق عليه . وكما حرم رسول الله ﷺ الصدقة على بني هاشم ، حرمها كذلك على مواليهم «أي الأرقاء الذين أعتقوهم» فعن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ ، أن النبي ﷺ بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة ، فقال : اصحبني كيما تصيب منها، قال : لا، حتى آتي رسول الله ﷺ ، فأسأله ، وانطلق فسأله فقال (إن الصدقة لاتحل لنا وأن موالي القوم من أنفسهم) رواه أحمد وأبوداود والترمذي، وقال : حسن صحيح . واختلف العلماء في صدقة التطوع ، هل تحل لهم أم تحرم عليهم ؟ قال الشوكاني ملخصا الأقوال في ذلك : واعلم أن ظاهر قوله (لا تحل لنا الصدقة) عدم حل صدقة الفرض والتطوع . قال أبويوسف وأبو العباس : إنها تحرم عليهم كصدقة الفرض لأن الدليل لم يفصل ، هذا هو الراجح .
3- صرف الزكاة في وجوه القرب : لا يجوز صرف الزكاة إلى القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى غير ما ذكره في آية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ) فلا تدفع لبناء المساجد والقناطر، وإصلاح الطرقات ، والتوسعة على الأضياف ، وتكفين الموتى وأشباه ذلك . قال أبو داود : سمعت أحمد وسئل يكفن الموتى من الزكاة ؟ قال : لا، ولا يقضى من الزكاة دين الميت ، وقال : يقضى من الزكاة دين الحي ، ولا يقضى منها دين الميت ، لأن الميت لا يكون غارمًا . قيل : فإنما يعطى أهله . قال : إن كانت على أهله فنعم .
4- الآباء والأبناء : اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز إعطاء الزكاة إلى الآباء والأجداد والأمهات والجدات والأبناء وأبناء الأبناء والبنات وأبنائهن ، لأنه يجب على المزكي أن ينفق على آبائه وإن علوا، وأبنائه ، وإن نزلوا ، وإن كانوا فقراء ، فهم أغنياء بغناه ، فإذا دفع الزكاة إليهم فقد جلب لنفسه نفعًا، يمنع وجوب النفقة عليه . واستثنى مالك ، الجد والجدة وبني البنين ، فأجاز دفعها إليهم لسقوط نفقتهم «يرى ابن تيميه أنه يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين ، إذا كان لا يستطيع أن ينفق عليهم وكانوا هم في حاجة إليها» هذا في حالة ما إذا كانوا فقراء ، فإن كانوا أغنياء ، وغزوا متطوعين في سبيل الله ، فله أن يعطيهم من سهم سبيل الله ، كما له أن يعطيهم من سهم الغارمين ، لأنه لا يجب عليه أداء ديونهم ، ويعطيهم كذلك من سهم العاملين ، إذا كانوا بهذه الصفة .
5- الزوجة : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة ، وسبب ذلك ، أن نفقتها واجبة عليه ، تستغني بها عن أخذ الزكاة ، مثل الوالدين ، إلا إذا كانت مدينة فتعطى من سهم الغارمين ، لتؤدي دينها …(4)
إذا كان للزوجة مال ، تجب فيه الزكاة ، فلها أن تعطي لزوجها المستحق من زكاتها ، إذا كان من أهل الاستحقاق ، لأنه لايجب عليها الإنفاق عليه ، وثوابها في إعطائه أفضل من ثوابها إذا أعطت الأجنبي ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن زينب امرأة ابن مسعود قالت : يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلى ، فأردت أن أتصدق به ، فزعم ابن مسعود أنه وولده، أحق من تصدقت به عليهم ، فقال النبي ﷺ (صدق ابن مسعود ، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) رواه البخاري ، وهذا مذهب الشافعي ، وابن المنذر ، وابي يوسف ، ومحمد ، وأهل الظاهر، ورواية عن أحمد . وذهب أبوحنيفة وغيره : إلى أنه لا يجوز لها أن تدفع له من زكاتها، وقالوا: إن حديث زينب ورد في صدقة التطوع، لا الفرض . وقال مالك : إن كان يستعين بما يأخذه منها على نفقتها فلا يجوز ، وإن كان يصرفه في غير نفقتها جاز . وأما سائر الأقارب كالأخوة والأخوات والأعمام والأخوال والعمات والخالات فإنه يجوز دفع الزكاة إليهم ، إذا كانوا مستحقين في قول أكثر أهل العلم . لقول الرسول ﷺ (الصدقة على المسكين صدقة أي فيها أجر الصدقة ، وعلى ذي القربة اثنتان : صلة ، وصدقة) أي فيها أجران، أجر صلة الرحم وأجر الصدقة ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسّنه . إعطاء طلبة العلم من الزكاة دون العباد قال النووي : ولو قدر على كسب يليق بحاله ، إلا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية ، بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل ، حلت له الزكاة ، لأن تحصيل العلم فرض كفاية . وأما من لا يتأتى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة إذا قدر على الكسب ، وإن كان مقيمًا بالمدرسة . وقال : وأما من أقبل على نوافل العبادات والكسب يمنعه منها ، أو من استغراق الوقت بها ، فلا تحل له الزكاة بالاتفاق ، لأن مصلحة عبادته قاصرة عليه ، بخلاف المستغل بالعلم …(5)
* * *
المراجع :
- العبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص 262 & مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام يوسف القرضاوي ص 84 و 85 & فقه السنة السيد سابق ج1 ص 385و386 .
- مشكلة الفقر و كيف عالجها الإسلام يوسف القرضاوي ص 84 و 85 .
- فقه السنة السيد سابق ج1 ص 404 و 405 .
- فقه السنة سيد سابق ج1 من ص 398 إلى ص 402 .
- فقه السنة سيد سابق ج1 ص 406 و 407 .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com