الحاجةُ إلى الائتساء بأسوته صلى الله عليه وسلم لا إلى مُجَرَّد إحياء ذكرى مولده

كلمــة العدد

ما إن يُهِلُّ شهرُ ربيع الأوّل حتى يستعدُّ كثيرٌ من المسلمين للاحتفال بمولد النبيّ الكريم – صلى الله عليه وسلم – الذي يسمّونَه إحياءَ ذكرى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكأنّهم يرون أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قد أصبح – ونعوذ بالله من ذلك – منسيًّا ؛ فلا بدّ لهم من إحياء ذكراه حتى تعود إلى الذاكراة ، وتتجدّد صورتُه صلى الله عليه وسلم في مخيّلة المسلم ، بعد ما تقادم عهدُها بها .

على حين إنّ ذكراه – صلى الله عليه وسلم – قائمة حيّة ، ماثلة شاخصة في وجدان المسلمين ، وواقع المجتمع الإسلاميّ ، لاتغيب عنه ، ولن تمحّي فيه ، ولا تخفى عليه ، ولا تخفت لديه بإذن الله ، مهما ضعُف المسلمون ، وهانوا وصاروا غثاءً كغثاء السيل ، كما هو الحال اليومَ . إن المسلم مرتبط بذكراه – صلى الله عليه وسلم – وذكرُه لايفتر عنه ؛ فهو يصلّى عليه – صلى الله عليه وسلم – في داخل صلواته الخمس وخارجها، وفي أدعيته وتضرّعاته وابتهالاته إلى الله – عزّ وجلّ – فذكرُه – صلى الله عليه وسلم – حاضرٌ قائمٌ على لسانه وفي قلبه ، وجزءٌ من حياته اليوميّة ، ونصيبٌ من رتابة العمل اليوميّ لديه .

ومع ذلك لابأس أن تكون هناك مناسبات يستغلّها المسلمون لذكره – صلى الله عليه وسلم – والحديث عن فضائله وشمائله وتفاصيل حياته وتضحياته في سبيل القيام بالدعوة وأداء الأمانة وتبليغ الرسالة؛ حتى ينشطوا للتأسّي به صلى الله عليه وسلم بشكل أكثر، وجدّ أكبر، وقدرة أوفر ؛ ولكن لايجوز أن تقام الاحتفالات، وتعقد المناسبات لمجرد إلقاء خطب رنّانة ، وكلمات مُدَوِّيَة ، وقصص أسطوريّة ، وأحاديث جوفاء تنطلق من ألسنة من لايصلّون أبدًا ، ولا يهتمّون بشعيرة من الدين ، ولا يُعْنَوْن بشيء من الفرائض والواجبات ، ولا يتقيّدون بأيّ من الأوامر والنواهي الإلهيّة ، ولا ينتبهون أبدًا للاقتداء بأسوة من القول والفعل والتقرير الذي هو التراث النبويّ الأصيل الذي ينبغي أن يعضّ عليه المسلم بالنواجذ .

إن كثيرًا من المسلمين يكتفون من السَنَة الكاملة بساعات من اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، فيعقدون فيها حفلات صاخبة ، ومهرجانات مُدَوِّيَة ، ويزينونها برايات وبيارق ، وأغانٍ ومزامير، وقصائد في المديح النبوي تُتْلَىٰ بأصوات صارخةً . وإلى جانب ذلك ينظمون مسيرات طويلة تطوف بالمدن أو بالقرى ، وتتخلّلها هتافات ونعرات وأناشيد مرتفعة؛ وخلال ذلك تمرّ عليهم مواعيدُ الأذان للصوات قد يرتفع به صوت المؤذنين من شتى المساجد؛ ولكنهم لاينتبهون له ، ولا يدخلون المساجد ، ولايؤدّون أيّ صلاة ، ومع ذلك يزعمون : أنهم يُحْيُون ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتفلون بحبّه ؛ فمن خالفهم في ذلك فهو عدوّ للرسول – صلى الله عليه وسلم – وعدوّ للدين ، وخارج عندهم من الإسلام !.

وقد صدق عليهم وعلى أمثالهم ما قال الله تعالى:

          “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِيْنَ أَعْمَالاً الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيـٰـوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا” (الكهف/103-104).

          إنّ حبّه – صلى الله عليه وسلم – معناه الواضح المتبادر المُؤَكّد بوحي الشريعة ، ونصوص الكتاب والسنة ، أن نعمل بما أمر به ، ونجتنب ما نهى عنه ، ونصنع كما صنع ، وننطلق حيثما انطلق ، ونتوقّف حيثما توقف ، ونأتسي به – صلى الله عليه وسلم – في جميع المواقف وفي كلّ الأحوال ؛ فقال تعالى :

          “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَر اللهَ كثيرًا” (الأحزاب/21) .

فالراجي ما عند الله من الثواب والجزاء والنعم التي لا تُحْصَىٰ والتي لم ترَها عين ، ولم تسمعْها أذن ، ولم تخطر من إنسان على بال ؛ والذاكر اليومَ الآخرَ الذي تزلّ فيه الأقدامُ ، ولا ينفع فيه أحدًا مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى اللهَ بقلب سليم ؛ إنّما يأتسي به – صلى الله عليه وسلم – ويفعل ما قد فعل ، وينتهي عما انتهى . وذلك وحده يؤكّد أنّه ذاكر لله كثيرًا ، ولا يغفل عن ذكر الله لحظة ؛ ومن صنع ذلك فهو المهتدي ، وهو المسلم الحقّ الفائز بحظّ كامل ، الذي وعد له الله بالجنّة وأنعم عليه. قال تعالى :

          “وَإِنْ تُطِيْعُوهُ تَهْتَدُوا”(النور/54).

          وقال :

          “وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَه يُدْخِلْهُ جَنّـٰـتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهـٰـرُ” (النساء/13) .

          وقال:

          “وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلـٰـئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ” (النساء/69) .

          وقال:

          “وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَه وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فأُولـٰـئِكَ هُمُ الْفَائِزُوْنَ” (النور/52) .

          وقال:

          “وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوزًا عَظِيْمًا” (الأحزاب/71) .

*  *  *

إنّ الإسلام أساسُه العملُ وفقَ ما أمر اللهُ به ونهى عنه عن طريق نبيه وحبيبه محمد – صلى الله عليه وسلم – ومن أوامره – تعالى – أن نقتديه – صلى الله عليه وسلم – في كل ما قال وفعل ، وصنع وترك ، وانطلق وتوقّف . وليس الإسلامُ مجرَّدَ الأماني والأحلام ، وإطلاق النعرات، ورفع الهتافات ، وإقامة الحفلات والمناسبات ، وإلقاء الخطابات والكلمات ، وتنظيم المسيرات والمظاهرات ، في غنى عن الهدي النبويّ ، والأسوة النبويّة ، والقدوة التي تركها لنا – صلى الله عليه وسلم – مشرقةً وضّاءَةً وَهَّاجةً ليلُها كنهارها لن يضلّ أبدًا من تمسّك بها .

فمناسبةُ ميلاده – صلى الله عليه وسلم – ينبغي أن نستغلّها لتنبيه الغافلين منّا ، وتنشيط الكاسلين ، وتحريض اللاَّمُبَالِين ، ودفع المُهْمِلِين إلى العمل والإنتاج ، والقيام بالطاعات ، واجتناب المنهيّات ، والتقيّد بما يُغَيِّر ليلَنا نهارًا ، ونومتنَا صحوةً ، وغفلتنا يقظةً ؛ فنسعد – كما سعد سلفنا – بعد هذا الشقاء الطويل الذي يكاد ليله لاينجلى بصبح .

إنّ إحياءَ هذه المناسبة ينبغي أن لا يعنيَ إلاّ إحياءَ من مات منّا قلبُه وضميرُه ووعيُه ؛ فلا يرى حاجةً لاتّباعه – صلى الله عليه وسلم – واقتدائه ، وإنّما يرى السعادةَ كلَّها في التحرّر من كل منهج رَسَمَه – صلى الله عليه وسلم – للعلم والعمل ، وللقول والفعل ، وللفوز بالحياة السعيدة بمعناها الكامل الشامل الصحيح.

ينبغي أن نُوَجِّهها دعوةً مُؤَثـِّرةً إلى كل من يرى أن المنهجَ النبويَّ بكل حسناته وفضائله – التي نعمت بها البشريّة في ظلّه عَبْرَ هذه القرون المتطاولة – قد تَقَادَمَ عهدُه ، ووَلَّىٰ دورُه ، ونَفِدَتْ بطاريتُه ، وعاد لا ينفع في هذا العهد المُتَنَوِّر المُتَقَدِّم السيَّار، الذي بدأ فيه الإنسان يُسَخِّر ما في الفضاء حتى المريخ بعد ما سَخَّر – كما يزعم الملحدون – كلَّ ما على البرّ وفي البحر – وأنّ الإنسان العصريّ غنيٌّ بعقله وإنتاجاته ، وانتصاراته واكتساباته ؛ وأنّه قادر على إيجاد منهج من عنده مُتَجَدِّد يساير عهدَه المُتَجَدِّد ويُغَطِّي حاجاته ، ويفي بمتطلباته ، ويكون على مستوى مُعْطَيات تقدّمه .

يجب أن نُقَدِّمُها دعوةً فاعلةً إلى هذا الإنسان الذي شَقِيَ الشقاءَ كلَّه ؛ ولكنه لايشعر بأنّه إنما شقِيَ لأنّه استغنى عن المنهج النبوي ، والهدي الربّاني الذي جاء به نبيُّه الخاتم محمد – صلى الله عليه وسلم – وإنما يبحث عن أسباب كثيرة ، ويتعلّل بتعليلات، ويَتَشَبَّثُ بتأويلات ، ويتخَبَّط خبطَ عشواءَ ؛ فيعالج الأمراضَ بأمراض أشدَّ منها ، ويُدَاوِي الأدواءَ بأدواء دويّة يستعصي علاجُها . وانقلب فكرُه ، وضلَّ عقلُه ضلالاً بعيدًا ؛ فلا يرى الأشياء إلاّ مقلوبةً ، ولا يتبيّن الحقائقَ على ما هي عليه ، وإنما يظنّها معكوسةً .

هذا الإنسانُ الـذي أصبح مقلــوبًا على رأسه، ولم يتعلّم كيف يمشي على الأرض ؛ ولكنه بدأ يُفَكِّر في أن يطير كالطير في الجوّ وأن يساكن سُكَّان الفضاء ويعايش “الملائكة” في السماء في تصرّفاتها البريئة ؛ يحتاج كثيرًا إلى من يُصْلِحه ويعود به إلى المنهج النبويّ الذي لن يَصْلُح إلاّ به، لأنّه تقدير العزيز العليم ؛ فالحاجةُ ماسّةٌ إلى من يأخذ بيده مُسْتَغِلاًّ هذه المناسبةَ وغيرَها من المناسبات الكثيرة ؛ لتكون مبذولة في موضعها، ومُوَجَّهة إلى وجهتها الصحيحة ، ولتكون حقًّا ذات معنى وإفاديّة ، ولا تكون فارغة جوفاء.

إنّ السعادةَ بجوانبها كلّها ستغمر الإنسانيّةَ كلَّها إذا اتّبعتِ المنهج النبويّ ، ولن تتخبط بعدُ خبطَ عشواءَ ، ولن تتشرَّدَ على السُّبُل وفي دياجير ظلام الهتافات والنعرات ، والدعوات والديانات ، التي حطّمتْها من الداخل والخارج ، وتركتْها تتسكّع دون أن تهتدي إلى الصِّراط المستقيم : صراط السعادة والهناء واللذّة الحقيقية .

*  *  *

والمسلمون – وهم يحفلون بهذه الذكرى العطرة – أَوْلَى بالمبادرة إلى الائتساء بأسوته – صلى الله عليه وسلم – نبيًّا ورسولاً ، وداعيًا وسراجًا منيرًا ؛ فهو أسوة لنا في نبوته ورسالته ، ودعوته وقيادته ، وفي قضائه وسياسته ، وفي أبوّته وزوجيّته ، وفي تجارته وأمانته ، وفي صدقه ووفائه ، وفي لينه ورأفته ، وفي سلمه وحربه ، وفي أخلاقه العظيمة، وسلوكه العامّ ، وفي المجالس والخلوات ، وفي المسجد والبيت ، وفي الرضا والغضب ، وفي السرّاء والضرّاء ، وفي جميع جوانب الحياة ، وتجارب المجتمع ، وممارسات الفرد البشريّ الكامل المثاليّ الذي لم يَرْتقِ ولن يرتقي إلى مستواه فردٌ من البشر .

إنّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – بصفاته الفرديّة والاجتماعيّة المثاليّة غَيَّر جميعَ قطاعات الحياة ، وصَهَرَها في المجتمع المثاليّ السعيد الذيّ لم يشهد العالمُ مثلَه فيما بعدُ : المجتمع العفيف النظيف الطاهر النزيه ، الذي ساده العدلُ والمساواةُ ، والعطفُ والمواساةُ ، والحبُّ والوئامُ ، والتآخي والتكافلُ ، والتضحيةُ والإيثارُ ؛ فكان حقًّا المجتمعَ الذي يشعر فيه أعضاؤه كلُّهم كأنهم الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى ، مجتمع القيم والمثل الإنسانيّة في أصحّ معانيها ، وأدقّ تفاصيلها ، وأشمل دلالاتها ، وأصدق صفاتها ، الذي أصبح اليومَ بالنسبة إلى المجتمعات البشريّة الحائرة الهائمة على وجهها أسطورةً لاتتحقق إلاّ في نطاق التصوّر ، وصعيد الخيال ، ولا يمكن أن تتمثّل على أرض الواقع .

ولكنّ عودة مثل هذا المجتمع الفاضل – إن لم تتحقق عودة نفسه – ممكنةٌ اليوم كإمكان عودته بالأمس إذا عادت الإنسانيّةُ أدراجَها إلى اتّباع التعاليم النبويّة حقّ الاتّباع ؛ لأنّه على قدر اتّباعها ظلّ يطلعُ المجتمعُ الإنسانيُّ بوجهه الجميل في فترات تاريخيّة عديدة ، ولاسيّما على عهود ملوك عادلين ، وحكّام صالحين ، وسلاطين زاهدين ، كانوا حريصين على اتّباع الهدي النبويّ والأسوة المحمديّة – على صاحبها الصلاة والسلام – فنَعِمَتِ الشعوبُ في ظلّه بالسعادة الموفورة ، ولذّة الحياة ، وراحة البال ، وطمأنينة الحال . وظهورُ مثلِ هذا المجتمع ممكنٌ اليومَ أو غدًا ، إذا صدق العزم ، وخلصت النية ، ونزه القصد ، واستقام مسارُ الإنسانيّة على درب الهدي النبويّ في ظلّ قيادة صالحة ، ودعوة حكيمة ، واعية ذكيّة ، تجمع بين الفراسة الإيمانية وقراءة بصيرة للواقع ، تستطيع بها التوفيقَ بين مُقْتَضَيَات الدين ومُتَطَلَّبات الدنيا ، وتقدر على شقّ الطريق في كل أرض وَعِرة ، وظرف قاسٍ ،ووضع صَعْب ، وموقف حِرَج ، ومُنَاخ غير مُلاَئِم . “وَاللهُ غالب عَلَىٰ أمْرِهِ وَلـٰـكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَيَعْلَمُوْنَ” (يوسف/21)

( تحريرًا في الساعة 10 من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء: 12-13/ محرم 1429هـ الموافق 22-23/ يناير 2008م )

نور عالم خليل الأميني

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3  ، السنـة : 32.

Related Posts