الاجتهادُ ودستورُ المجتهدين ولمحاتٌ من شمائله صلى الله عليه وسلم (2/2) 

دراسات إسلامية  

بقلم : فضيلة الشيخ إبراهيم الدسوقي / جمهورية مصر العربية

من أوصافه صلى الله عليه وسلم

ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم في كُتب الأنبياء، قال تعالى: ﴿اَلَّذِيْنَ يَتَّبِعُوْنَ الرَّسُوْلَ النَّبِىَّ الاُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولـٰـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الأعراف: آية 157.

وأما ما اختص اللهُ به نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن منه حديث جابر بن عبد الله الذي رواه عنه صلى الله عليه وسلم قال: “أُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركتْه الصلاةُ فليصلّ، وأُحِلّتْ لي الغنائمُ ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيتُ الشفاعةُ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبُعِثْتُ إلى الناس عامةً” متفق عليه، وليست خصائصه محصورةً في الخمس، بل تزيد كثيرًا كما بيّنه الأئمةُ، والتخصيصُ بالعدد لا ينفي الزيادة .

وروى مسلم بسنده إلى أبي موسى الأشعري t قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لايسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار”، ومن الخصائص ما رواه ابن مسعود t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحدٍ إلا ومعه قرينُه من الجن وقرينه من الملائكة” قالوا: وإياك يارسولَ الله؟ قال: “وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير” رواه مسلم. الخصائص الكبرى للسيوطي ج3، كما أن أمته خيرُ الأمم وآخرُ الأمم، فعن معاوية بن عبيدة أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران: آية 110، قال: إنكم تتمُّون سبعين أمةً أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى” رواه أحمد والترمذي وحسنَّه ابن ماجة – الخصائص الكبرى ج3.

وقد كان الرسل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون على مخالفيهم فيُنَزِّلُ اللهُ بهم عذابَ الاستئصال مع وجودهم. كما قال تعالى: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلـٰـكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ العنكبوت: آية40، أما نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الكفارَ طلبوا من الرسول تعجيل العذاب وهو موجود وقالوا ﴿اَللّهُمَّ إِنْ كَانَ هذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ اْئتِنَا بِعَذَابٍ اَلِيْمٍ﴾ الأنفال: آية 72، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيْهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُوْنَ﴾.

وروى الترمذي بسننه إلى أبي موسى بن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي – الآية .. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفارَ إلى يوم القيامة”، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسنديهما عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الشّيطان قال وعزّتك ياربِّ لا أبرحُ أغوي عبادَك مادامتْ أرواحُهم في أجسادهم، فقال الربّ: “وعزّتي وجلالي لاأزال أغفرُ لهم ما استغفروني”، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وصدق الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾، وحين قال المسلمون له: اُدع الله على المشركين قال: إني لم أُبعث لعانًا وإنما بُعثت رحمةً” انفرد به مسلم، كما رواه أبو هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا رحمة مهداة”.

وكما حفظ الله به أمتَّه من عذاب الاستئصال في حياته وبعد مماته، وحتى يؤدي صلى الله عليه وسلم مهمته ويبلغ رسالتَه فقد أعطاه اللهُ الأمانَ أن يصيبَه أحد بشرٍّ أو يلمَّ به ما يهدِّدُ حياته، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِنْ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ المائدة: آية 67، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة وقال: “يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنا الله عزوجل” رواه الترمذي، كما قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِيْنَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِيْنَ﴾ الحجر: الآيتان 95، 96. والمعنى: إنا كفيناك المستهزئين يا محمد الذين يستهزئون بك ويسخرون منك، فاصدع بأمر الله ولا تخف شيئًا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك، وعاداك وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ الطور: آية 48، أى واصْبِرْ يا محمد لحكم ربك الذي حكم به عليك، وامضِ لأمره ونهيه، وبلِّغْ رسالتَه، فإنك بمرأي منا، نراك ونرى عملك ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك من المشركين بسوء، وعن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له اصحابُه شجرةً ظليلةً فيقيل تحتَها، فأتاه أعرابيّ (في الصحيح أنه غورث بن الحارث) فاخترط سيفَه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم “والله عزوجلّ” فرعدتْ يدُ الأعرابي وسقط السيف منه، وضرب برأسه الشجرةَ حتى انتثردماغُه، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وعفا عنه صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قومه وقال: جئتُكم من عند خير الناس. ابن كثير- الشفاء للقاضي عياض .

كما رُوِيَ أنه في عزوة غطفان وقع له مثل هذا مع رجلٍ يقال له “دُعثور” بن الحارث، وأن الرجل أسلم، فلما رجع إلى قومه قالوا له: أين ما كنت تقول وقد أمكنك، فقال: إني نظرتُ إلى رجلٍ أبيضَ طويلٍ دفع في صدري فوقعتُ لظهري وسقط السيفُ فعرفتُ أنه حقٌّ وأسلمتُ، قيل: وفيه نزلت: ﴿يـٰـا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَّبْسُطُوْا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُوْنَ﴾ مناهل الصفا للسيوطي والشفاء للقاضي عياض.

بَقِي أن الله تعالى اختصَّه بأن الشيطان لا يتَمَثَّل به، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَآني في المنام فقد رآني فإن الشيطانَ لا يَتَمَثَّلُ بي” البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى لأبي هريرة يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثَّلُ الشيطانُ بي”، وفي رواية مسلم قال: “من رآني في النوم فقد رآني فإنه لاينبغي للشيطان أن يتشبه بي”.

قال ابن العربي: إن أكثر ما تقع رؤياه بالقلب، ثم بالبصر، لكنها ليست كالرؤيا المتعارفة، وإنما هي جمعية حالية، وحالة برزخية، وأمر وجداني، فلا يدرك حقيقته إلا مَنْ باشره” زاد المسلم ص178، وأما أن هذه الرؤيا تثبت بها أحكام شرعية فقد حقَّقَ الحافظُ بن حجر هذه المسألةَ وقال: إن النائم لو رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء لابدَّ أن يعرضه على الشرع الظاهر، فإن وافقه قبل وكان الشرع هو الحجة، وإن خالفه فهو مردود ككل إلهامٍ خَالَفَ الشرعَ. زاد المسلم ج3.

فلم يبقَ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلماء الشريعة في كل عصر وفي كل حقبة إلا اتباع ما أجمع عليه المجتهدون مما استند على دليل منهما (أي الكتاب والسنة) وما استنبط من أدلتهما أو قِيْسَ قياسًا لا قادحَ فيه على بعض نصوصهما، أو جزئيةً أدخلت تحت عموم كلية تشملها.

وفي الخصائص الكبير للسيوطي أن أحب البقاع إلى الله مكان قُبِضَ فيه نبيُّه، كما أنه لا تحلّ له صلواتُ الله وسلامُه عليه – ولا لآله الصدقات زكاة أو غيرها كما رواه مسلم، وأنه لا يورث، فعن أبي بكر الصديق t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا نورث، وما تركنا صدقة” إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أُغيِّرُ شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملَنَّ فيها ما عمل به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ” متفق عليه.

وعن أبي هريرة t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تقتسم ذرّيتي دينارًا ولا درهمًا.. ما تُرِكتْ بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فإنه صدقة” رواه البخاري ومسلم.

وقد روىٰ ابنُ ماجة عن أبي الدرداء: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن العلماء هم وَرَثَةُ الأنبياء، لأن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ” الخصائص ج3.

خلقه وحسن معاملته

وأما عن خلقه وحسن معاملته فحسبه قبل كل شيء صدق عبوديته لربه على كل أحيانه في يقظته ومنامه، وحلّه وترحاله، وعافيته وسقمه، وصحته ومرضه، مع الناس وفي وحدته، مع أهله وفي خلوته، وحسبه في ذلك كله ذلك الوصف الجامع الذي وصفتْه عائشةُ رضي الله عنها ، حين سُئِلَتْ عن خُلْقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ للسائل: ألستَ تقرأ القرآنَ؟ قال: بلىٰ، قالتْ: “كان خُلقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن”، ومن حديث رواه الإمام أحمد في مسنده أن حكيم ابن أفلح دخل على عائشةَ ومعه سعيدُ بن هشام قالتْ لحكيم: من معك؟ قال: سعيد بن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر، قالت: فترَحَّمَتْ عليه وقالتْ: نعم المرء كان عامرًا، قلت: يا أمَّ المؤمنين، أنبِئِيْني عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: فهممتُ أن أقوم ثم بَدَا لي قيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا أمَّ المؤمنين، أنْبِئِيْني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ هذه الآية؟ ﴿يـٰـا أَيُّهَا المْمُزَّمِّلُ﴾؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض قيامَ الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه حولاً حتى انتفختْ أقدامُهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيفَ في آخر السورة، فصار قيام الليل تطوّعًا”.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم

وإذا كان لكل نبي من المعجزات ما يؤيِّدُ صدقَه فيما جاء به عن ربه، فقد كانتْ معجزات جميع الأنبياء قبل الرسالة المحمدية حِسِّيَّةً، كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المعجزات الكثير والكثير مما غصتْ به كتبُ الخصائص والسير.

إلاّ أن الله عزوجل اختص نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بمعجزة فريدة، هي القرآن الكريم المنزلُ بلفظه ومعناه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للتحدي والإعجاز، والمنقول إلينا بالتواتر، والمكتوب في المصاحف، وهو المعجزة التي تشهد للرسالة العامة الخالدة عبر العصور المتعاقبة، ومع اختلاف الزمان والمكان، ولجميع بني الإنسان على اختلاف ألسنتهم وألوانهم إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها، قال تعالى: ﴿قُلْ يـٰـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيْعًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيْرًا وَنَذِيْرًا﴾، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِىْ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلىٰ عَبْدِه لِيَكُوْنَ لِلْعَالَمِيْنَ نَذِيْرًا﴾، بينما كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصةً، كما خصه سبحانه وتعالى بأنه قد كفل حفظه من التغيير والتبديل حين قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ﴾ الحجر: آية9، كما قال في الكتب السابقة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيْهَا هُدىً وَنُوْرٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّوْنَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوْا لِلَّذِيْنَ هَادُوْا وَالرَّبَّانِيُّوْنَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوْا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوْا عَلَيْهِ شُهَدَاءُ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوْا بِآيَاتِىْ ثـَمَنًا قَلِيْلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولـٰـئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ﴾.

وَفي الآية أن الله عزَّ وجلَّ وكَّل إلى الربانيين والأحبار حفظ التوراة، فغيَّرُوا وبدَّلوا، يقول ابن كثير: والصحيح أن الآية في اليهوديين الذين زينا، وكانوا قد بَدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجَلد مائة جَلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين، فلما رفعت هذه الحادثة بعد الهجرة قالوا: تعالوا حتى نحتكم إلى محمد فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجةً بينكم وبين الله، ويكون نبيٌّ من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حُكِمَ بالرجم فلا تتَّبعوه في ذلك، وقد وردتْ الأحاديثُ بذلك، وفيها ما يفيد أنهم غيَّروا وبدَّلوا، وأن التوراة قد جاء فيها الرجم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفذه في اليهوديين، (ابن كثير ج2 ص58)، ونزل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوْكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ فأمر رسولُ الله أن يحكم بينهم بما في كتابنا، ولا ينصرف عن الحق الذي أمره الله به إلى أهوائهم .

وللقرآن الكريم مهمَّتان أساسيَّتان، إحداهما الإعجاز والتحدي لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة حيث عجز الناسُ عن الإتيان بمثله، بل بعشر سور، بل بسورة واحدة، والمهمة الثانية هي الهداية، قال تعالى: ﴿إنَّ هـٰـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِىْ هِىَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: آية9، وقال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلىٰ صِرَاطِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ﴾ إبراهيم: آية20، وأمرنا الله باتباعه فقال: ﴿اِتَّبِعُوْا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَّبِّكُمْ﴾ الأعراف: آية3، وقال: ﴿هـٰـذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوْهُ وَاتَّقُوْا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ﴾ الأنعام: آية 155، وأن نرد إليه كل نزاع ليفصل فيه، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِىْ شَىْءٍ فَرُدُّوْه إِلَى اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ النساء: آية59.

وحذرنا سبحانه من ترك الاهتداء بهديه الذي أنزله على جميع أنبيائه، كما قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِىْ فَإِنَّ لَه مَعِيْشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُوه يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمـٰـى﴾ طه: الآيتان 123، 124.

وقد اشتمل على جميع ما يهمّ الناس في معاشهم ومعادهم، عقيدةً وعبادةً وسلوكاً على المستوى الفرديّ والجماعيّ، المحليّ، والعالميّ، وذلك في المجلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية.. وغيرها قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرٰى لِلْمُسْلِمِيْنَ﴾ النحل: آية89.

إنه أقوى الروابط لجمع كلمة المسلمين وتأليف قلوبهم وتوحيد صفوفهم، ومصدر عزهم، وموئل مجدهم، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحارث الأعور عن عليٍّ – كرم الله وجهه – قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ألا إنها ستكون فتنةً” قلت: وما المخرج منها يارسولَ الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من حبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنتهي عجائبُه” رواه الترمذي .

مكارم الأخلاق

وإليك بعض ما صاغ الحق عليه نبيَّه من مكارم الأخلاق التي فطره الله عليها، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ﴾ آل عمران: آية 159، وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِيْنَ﴾ الأعراف: آية 199، وقد روىٰ ابنُ جرير بسنده إلى سفيان بن عيينة عن أبيه قال: لمَّا أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَاْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِيْنَ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا ياجبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفوَ عمَّن ظلمك، وتعطيَ من حرمك، وتصلَ من قطعك”. وقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوْفٌ رَحِيْمٌ﴾ التوبة: آية 128، وقوله: ﴿عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، قال صلى الله عليه وسلم : “بُعِثـْتُ بالحنيفية السمحاء”، وفي الصحيح: “إن هذا الدين يُسْرٌ وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه”، وقوله: ﴿حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم”.

وروى الطبراني بسنده إلى أبي ذرٍّ قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا”، وقال صلى الله عليه وسلم: “ما بقي شيء يقرّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بيّن لكم”، وروى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم “إن الله لم يحرِّم حرمةً إلا وقد علم أنه سيطّلعها منكم مطَّلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب”، وروى أحمد سنده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملَكان فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومَثَل أمته، فقال: إن مَثَلَهُ ومثل أمته كمثل قوم سفر (مسافرين) انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازةَ ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلَّةٍ حبرةٍ، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضًا معشبةً وحياضًا رُواءً تتّبعوني؟ فقالوا: نعم. فانطلق بهم فأوردهم رياضًا معشبةً وحياضًا رواءً فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم أُلْفِكُمْ على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردتْ بكم رياضٌ معشبة وحياضًا رواءً أن تتبعوني؟ فقالوا: بلىٰ، فقال: فإن بين أيديكم رياضًا هي أعشب من هذه، وحياضًا هي أروٰى من هذه، فاتبعوني، فقالتْ طائفة: صدق والله لنتَّبِعَنَّه، وقالتْ طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه”.

وقوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوْفٌ رَّحِيْمٌ﴾ مثل قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِئٌ مِمَّا تَعْمَلُوْنَ* وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعِزِيْزِ الرَّحِيْمِ﴾.

وفي هذا المقام يقول الإمام عليّ مجيبًا الحسنَ حين سأله عن مجترع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا يعينهم ويؤلفهم ولا يفرِّقهم، يُكرم كريم قوم ويولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوِيَ على أحد منهم بِشْرَهُ وخلقه، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسن ويُقَوّيه، ويقبِّح القبيحَ ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يسلو، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوز إلى غيره، أفضلٍ الناس عنده أعمهم نصيحةً، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً ومؤازرةً” الشفاء.

كما كان صلى الله عليه وسلم يُعطي كلَ جلسائه نصيبَه ، لا يحسب جليسُه أن أحدًا أكرم عليه منه من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجةً لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وسع الناس بَسْطُهُ وخلقه فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، وكان دائمَ البشر، سهلَ الخلق، ليِّنَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخابٍ ولا فحّاشٍ ولا عِيابٍ ولا مداح، يتغافل عما لايشتهي ولا يؤيِّسُ منه” أخرجه بن سعد. الشفاء ج1.

وما أجمل ما قِيْلَ في شأنه صلى الله عليه وسلم :

دَعْ مَا ادَّعَتْـــهُ النَّصَارٰى فِـــي نَبِيِّهِـــمْ

وَاحْكمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيْه وَاحْتَكِم

فَمَبْلَغُ الْعِلْــــــــمِ فِيْـــــــهِ أَنَّــــــــه بَشَرٌ

وَأَنَّــــــــه خَيْـــــــرُ خَلْــقِ اللهِ كُلِّهِــم

وصلّى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3  ، السنـة : 32.

Related Posts