دراسات إسلامية
بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض
مثلما جبل الله الإنسان على حبّ الدينا، والتّطلع إلى الزيادة منها، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾(8) سورة العاديات؛ لأنّ نقصها ظاهر أمامه، ونتائجه مجسّمة، فكذلك مناسبة الخير، والتّنافس في الطاعات، يحسن بالإنسان أن يوطّن نفسه عليها؛ لأن نفعها يتذوقه أهل الإيمان، كما يروى عن إبراهيم بن الأدهم الذي زهد في الدنيا، وتلذّذ بالعبادة، في قوله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك، ما نحن فيه من لذّة وسرور، لجالدونا عليه بالسّيوف .
فكان أصحاب الطاعات في لذّة وحبور، وكانت أيام رمضان الذي ودعوه بالحزن والتأسّف قصيرة، لأن العرب تقول في أمثالها: وأيام السرور قصار. إذْ كأنّ إطلالة هذا الشهر بالأمس القريب، رغم مكثنا فيه شهرًا، وكأن الناس وهم يتراؤون هلاله، وهم في حبور من قدومه، لم يمض عليهم غير ساعات.. لأنه شهر العبادات والقربات، وموسم للزيادة من الأعمال الصالحة، افتقده جماعات أراد الله بهم خيرًا، ففازوا بالسّبق إلى الأعمال، واحتسبوا القبول من الله؛ لأنهم عرفوا فعملوا، وسمعوا فاستجابوا.
ولئن كان ربّ العزة والجلال، قد فرض العبادات في كلّ يوم، وفضّل بعضها بالأعمال الصّالحة، ليتجدد النشاط، ويتمّ التّسابق إلى الخيرات، كلما وجدت النفوس نشاطاً، وبرز أمامها بالدعوة وحُسْن التّوجيه ما يرقّق القلوب. وهذا من سرّ خلق الإنسان على وجه الأرض، بعد عمارتها والاستيطان فيها: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِْنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾(56) سورة الذاريات.
فإنه سبحانه غنيّ عنهم، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضرّه معصية العاصين، وإنّما وضّح لهم التشريعات، لينظر كيف يعملون. كما جاء في بعض الأحاديث القدسية: (إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه). لأن الله سبحانه حرّم الظلم على نفسه، فهو حكم عدل .
فقد عوّد شهر رمضان المسلم، على تنظيم أوقاته، وساعات ليله ونهاره.. في غذائه وجبتان، بهما يقوى صلبه ويشتدّ ساعده، سحورًا ولو قل ففيه البركة، كما حثّ على ذلك رسول الله، وفطورًا تبتلّ به العروق، ويجب الأجر إن شاء الله. وقيامًا في الليل بين ذلك، وهكذا بقية السّاعات منظّمة: صلاة تريح، وذكرًا يرطّب اللسان، وصدقة تعين المحتاجين، وقراءة لكتاب الله، تزداد به الحسنات، إنّها لذة العبادة في هذا الشّهر وروحانيته، فلا تكن أخي المسلم مضيّعًا هذا التنظيم، أو مستثقلاً لذة العبادة في رمضان، لتغيّر الأسلوب، بالنّشاط في رمضان والتكاسل بعد خروج رمضان، ولا تكن ممن يحب الخير عملاً ودعوة في رمضان، ثم بعدما خرج رمضان تنزع نفسك إلى الموبقات، والميل للشرّ ومخالطة أهله، لأنّ من صاحب الأردى، جذبه إلى الرّداء .
وعلى كلّ منّا أن يتذكر أن ربّ رمضان هو ربّ الأيام والشهور الأخرى، وأمر الله سبحانه بالثّبات على مجاهدة النفس، وحبّ العبادات، والتّزود من الخيرات، وأداء الأمانات، وحفظ اللّسان عن الغيبة والنّميمة وبرّ الوالدين، وصلة الرّحم، وغير هذا من شمائل الأخلاق التي هي من فضائل دين الإسلام، تنفتح لها النفوس في شهر رمضان، وجَرّبْتَ هذا بنفس راضية، فكُنْ حريصًا على هذه الأعمال في غير رمضان، كما هو مبدأ دين الإسلام الذي بثبات تلك القيم: عملاً وتعاملاً، في رمضان وغير رمضان، أحبّ أبناء الملل الأخرى، هذا الدين ودخلوا فيه طواعية، وبالقدوة الحسنة واجتهدوا في وضع بصمات، تسلْسَلَتْ في أعقابهم أحيالاً عدة، لأنّ من أحبَّ شيئًا داوم عليه، وهذه مآثرهم وجهودهم، في بناء حضارة الإسلام، بارزة المعالم بلّغتْ هذا الدين بالعربية التي نزل بها كتاب الله، وتناسوا لغات أجدادهم، وما يربطهم بماضيهم.
فرمضان بدروسه العدة، ونفحاته العطرة، يترك في القلوب أثرًا، ومحبّة لكل خير، ولذا نرى العلماء – رحمهم الله – يحثّون على عدم التّكاسل في الطاعات، بعد رمضان، ولكن بإعطاء البدن قدرته: ﴿لاَ يَكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا﴾(286) سورة البقرة، فلا مشقّة على النفوس حتى لاتملّ، ولا تفريط يخلّ بالواجبات، ولكن الوسط والقدرة ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(16) سورة التغابن، لأن لذة العمل في رمضان من أمكن الدروس المنشطة، فلا يرون النّشاط يقتصر على رمضان، والتّباطؤ عن فعل الخيرات بعد رمضان، بل الإحساس الوجداني والهمة في طاعة الله، وفعل ما يرضيه، في رمضان وغيره، من دون تفريق، ويؤنّبون من تدعوه نفسه للتكاسل بعد رمضان، بعبارة لها دلالة في الحفز، ومدّ جسور العمل بالنّشاط والقدوة الصالحة، وهي مقولة بعض العلماء: بئس القوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان .
ومن هنا يدرك المسلم أن الأعمال البدنية بعد رمضان تختلف بحسب أوقاتها، وتُخَفَّفُ في التّحمل الجسدي، لكنها تضاعف جزاء، ففي الحديث: (من صام رمضان، وأتبعه ستًا من شوال، فكأنما صام الدهر كلّه).
وهي ليست محدّدة؛ بل للإنسان أن يختار من هذا الشهر، بحسب وضعه وظروفه، الأيام التي تناسبه، ولا يشترط فيها التتابع، إلاّ أنّه أرأف بالبدن. وهذا من العمل الذي يحسن الاهتمام به بعد رمضان .
قال العلماء: كما كانت الحسنة بعشر أمثالها، فإن رمضان بهذه المضاعفة كأنه عشرة أشهر، وستة أيام كأنها ستون يومًا، يَعْني شهرين، فالجميع أثنا عشر شهرًا، يعني سنة كاملة.. وهذا من فضل الله على عباده، ويضاعفُ لمن يشاء .
ثم تأتي المواسم المتتابعة، بما يطيقه البدن، حتى يكون من عبادة إلى عبادة، ومن موسم إلى آخر، طوال العام، ولكل موسم سواء كان شهرًا، أو أيامًا، أو يوماً واحدًا، أو حتى ساعات كساعات الإجابة، التي يحسن بالمسلم أن يهتمّ بها، لعلّه يوافق منها بابًا مفتوحًا تُسْتَجَابُ دعواته، ويتمّ بذلك فلاحه ونجاته.
ولكل موسم – هذا فضلاً عن الأعمال اليوميّة والليلية المستمرة، وفي مقدّمتها الصلاة، على عظم أجرها، وأهميّتها ومكانتها في ميزان الأعمال – فإن هذه المواسم لها ميزة في العمل، وثواب عظيم، تفضّل به الخالق على عباده (لينظر كيف يعملون)، ولكي ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(7) سورة الكهف، ولم يطلب منهم الكثرة، وإنما الأهم الحسن وما فيه إخلاص .
نمثّل لذلك بالاثنين والخميس، والجمعة وآخر ساعة فيها، وساعة الإجابة، وثلث الليل الآخر، والتهجّد فيه، والاعتكاف في المساجد، ويوم عرفة، حيث يغفر الله للحجاج فيه، ويباهي بهم ملائكته، وصيام يوم عاشوراء وعشر ذي الحجة، وغير ذلك من فرص تستمر مع المسلم في رمضان وغيره ما يحسن الاهتمام واغتنام الفرص .
النية الصادقة
روى ابن كثير في تاريخه قصة حكاها البخاري – رحمه الله – في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي – ﷺ – قال: (اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرّجل الذي اشترى العقار، في هذا العقار جرّة فيها ذهب، وقال له الذي اشترى: خذ ذهبك منها، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنّما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال لهما: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدّقا. رواها البخاري في أخبار بني إسرائيل .
ورويت هذه القصّة، بأنها وقعت في زمن ذي القرنين، وقد كان قبل بني إسرائيل، بدهور متطاولة، قال إسحاق بن بشر في كتابه: المبتدأ عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة عن الحسن أنّ ذا القرنين كان يتفقّد أمور ملوكه وعماله بنفسه، وكان لا يطلع على أحد منهم خيانة، إلاّ أنكرها عليه، وكان لايقبل ذلك حتى يطَّلع بنفسه هو .
فبينما هو يسير متنكرًا في بعض المدائن، فجلس إلى قاضٍ من قضاتهم أيامًا لا يختلف إليه أحد في خصومه، فلما أن طال ذلك بذي القرنين، ولم يطّلع على شيء من أمر ذلك القاضي، وهمَّ بالانصراف، إذا هو برجلين قد اختصما إليه، فادّعى أحدهما، فقال: أيها القاضي إني اشتريت من هذا دارًا، عمرتها ووجدت فيها كنزًا، وإني دعوته لأخذه فأبى عليّ .
فقال له القاضي: فما تقول أنت؟ (يعني البائع) ، فقال: ما دفنت وما علمت به، فليس لي هو، ولا أقبضه منه، قال المدّعي: أيها القاضي مُرْ من يقبضه، فضعه حيث أحببت، فقال القاضي: تفرّ من الشرّ وتدخلني، ما أنصفتني، وما أظن هذا في الملك، ثم قال القاضي: هل لكما أمرًا نَصَف مما دعوتماني إليه؟ قالا: نعم. قال للمدعي: ألك ابن؟ قال: نعم. وقال للآخر: ألك ابنة؟ قال: نعم، قال: اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا، وجهّزها من هذا المال، وادفعا فضل ما بقي إليهما يعيشان به. فعجب ذوالقرنين حين ذلك وقال للقاضي: ما ظننت أن في الأرض أحدًا يفعل مثل هذا. (البداية والنهاية 2:140)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.