إشراقة
كثيرًا ما مُنِيتُ بمواقف كلما ذكرتُها شعرتُ بالألم المُمِضّ الذي قد لا يشعر به الإنسان إلاّ عند لدغ الحيّة الخبيثة.. مواقفَ قرصتي فيها الألسنةُ، فتَرَكَتْ في أعماق قلبي نُدُوبًا لم تَمْحُها الأيامُ التي تمحو كثيرًا من حقائق الحياة مهما كانت مُتَجَذِّرَةً. وكثيرًا ما تَمَنَّيْتُ أن لا تُعَاوِدَني ذكراها الأليمةُ؛ فيُعَاوِدَني الأَلمُ. وصدق حكماءُ البشر عندما أكّدوا في ضوء تجاربهم الطويلة أنّ جميع أنواع الجروح تَنْدَمِلُ وتَلْتَئِمُ إلاّ الجروح التي تُحْدِثُها الألسنة القارصة؛ حيث لاتَلْتَئِمُ بشكل مهما تَوَفَّرَ الأطباءُ النِّطَاسِيُّون على مداواتها بكل ما أُوْتُوا من حذاقة وتجربة، ونبوغ وذكاء في تشخيص الداء ووصف الدواء، وسرعة الاهتداء إلى صحيح ناجع من الدواء. وصَدَقَ الشاعر العربي الذي نطق في بيته في هذا الصدد بأصدق الحقائق الصارخة؛ فأصبح ما قاله مضربًا للأمثال:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ ، لَهَا الْتِيَام
وَلاَ يلْتَــامُ مَــا جَــرَحَ اللِّسَان
و«الاِلْتِيَامُ» في الأصل «الاِلْتِئَامُ» فحُوِّلت الهمزةُ ياءً لكونها متحركة بعد الكسرة. أما «لاَيَلْتَامُ» فكان أصلاً «لاَيَلْتَئِمُ» فصارت أوّلاً «لايَلْتَيـِمُ» لأن الهمزة المكسورة يجوز تحويلها ياءً، ثم صارت «لايلتيم» «لايَلْتَامُ» لأن الياء المتحركة بعد الفتحة تتحول أَلِفًا كما تقضي بها قاعدة من قواعد التعليل .
وإذا كانت جِرَاحاتُ الرماح قد تُمِيتُ الإنسانَ، فتُرِيحُه من الألم المُتَّصِل الذي يُمِيتُ الإنسانَ كلَّ لحظة من لحظاته وهو حيّ في الظاهر؛ فإن جراحات اللسان لا تَدَعُه يموت ليستريح، وإنما تُبْقِيه على حياته ليذوق ويلاتِ الجروح، ويتجرَّع لسعاتها المؤلمة، ولدغاتها المؤذية، وقرصاتها القارعة؛ فيموت مرات لا تُحْصَى، ويتنفّس ليُعَالِجَ آلامَه المُبَرِّحَة .
وإذا يَنْسَى الإنسانُ جروحَه من آلات الجرح والقتل، بمرور الأيام التي تُنْسِي الناسَ حوادثَ الحياة، مهما كانت سَارَّةً أو حازِنَةً، فإنها – الأيّام – لا يتأتّى لها بشكل من الأشكال أن تُنْسِيَه – الإنسانَ – آثارَ الجروح اللِّسانية التي تغور في ثرى القلب. إن الجروح السنانيّة مهما كانت غائرة فهي «سطحيّة» بالقياس إلى الجروح اللسانية التي تنفذ في أعماق القلب . إن الأولى فَتَّاكَةٌ بكل ما يمكن أن يكون في الكلمة من معنى، والثانيةُ مروجوٌّ الشفاء منها ولو بعد حين، وكلُّ الأحيان قريبةٌ في هذه الحياة مهما بَدَتْ بعيدةً .
الجروح اللِّسانية التي تغور في ثرى القلب. إن الجروح السنانيّة مهما كانت غائرة فهي «سطحيّة» بالقياس إلى الجروح اللسانية التي تنفذ في أعماق القلب . إن الثانية فَتَّاكَةٌ بكل ما يمكن أن يكون في الكلمة من معنى، والأولى مرجوٌّ الشفاء منها ولو بعد حين، وكلُّ الأحيان قريبةٌ في هذه الحياة مهما بَدَتْ بعيدةً .
لو تَأَمَّل إنسانٌ خطورةَ الجرح الذي يصيب به أخاه بلسانه، لما أَقْدَمَ على إصابته به، ولاَكْتَفَى بدونه من وسائل الانتقام إذا رَأَى الانتقامَ من أحد شيئًا لامَعْدَىٰ له عنه لكي يَبْقَىٰ حيًّا؛ لأنه أدرك – عن طريق تجارب الحياة – أن ممارسته للانتقام تجاه من يريد الانتقامَ منه كبسولةُ حياةٍ بالنسبة إليه!. أجل إنّ الإنسانَ لو تَوَقَّفَ لحظةً، ودَرَسَ الجرحَ الكبير الذي يُؤَدِّي إليه لسانُه القَارِصُ، لَمَا أَقْدَمَ على ترك لسانه يصيب من أحد، ويجرح قلبَه. إي والله! عجيبٌ شأنُ اللِّسانِ الذي يَتَحرَّكُ بين الأسنان في الفم وراء الشفتين، فيصل أَثَرُه بسرعة البرق وبطريقه سحريّة عجيبة إلى قلب المُخَاطَبِ، فيقُطِّعُه تقطيعًا لايقدر عليه أَحَدُّ سكينٍ . إنك عندما تُدير آلةً صغيرةً مُكَوَّنَةً من قطعة من لحم مجرد لاشائبة فيه من عنصر العظم، لا تدري أيَّ آلة سحرية غريبة تديرها، هي أخطر الأعضاء في جسمك تُؤَثِّر من بعيد على قلب أخيك سلبًا أو إيجابًا. والسلبية والإيجابيّة تتوقّفان على نوعيّة الكلمات التي تُطْلِقُها – الآلة – وتصوغه؛ فقد تكون الكلماتُ أحلى من العسل، وأنعمَ من الخميل، وألينَ من الحشيّة، وأعذبَ من جميع أنواع الحلاوى، التي يمكن أن يصنعها صَانِعُها الحَاذِقُ النّابِغُ. وقد تكون أَمَرَّ من الحنظل، ومن كل ما يُوْجَدُ في الكون من أنواع السمّ القاتل، والمادّة المصنوعة لإيقاع الموت، بشكل مُؤَكَّد، على أيّ حَيَوَانٍ مُسْتَعْصٍ على الموت .
قد يَحْصُدُ اللِّسانُ بأسرع من كلّ نوع من المَحَاصِد القديمة والحديثة. ويحتار المِحْصَدُ لدى كثرة الحصائد التي يحصدها اللسان، ولا يستطيعها المِحْصَدُ الموضوع لها. من هنا حَذَّر النّبِيّ الخاتَم سيِّدُنا ونبيُّنا محمد ﷺ أمَّتَه مغبةَ اللسان وعَاقِبَتَه الوخيمةَ ونتيجةَ فضول الكلام السيئة؛ حيث إنها قد تؤدّي بالإنسان إلى النّار؛ فقد قال ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : «كُفَّ عليك هذا» وأشار ﷺ إلى اللسان آخِذًا بلسانه هو ﷺ. يقول معاذ: قلتُ: يارسول الله! وإنَّا لَمُؤَاخَذُون بما نتكلم به؟ فقال ﷺ: «ثكلتك أُمُّك! وهَلْ يَكُبُّ النّاسَ في النّار على وجوههم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟» . (رواه الترمذي ضمن حديث طويل عن معاذ رضي الله عنه، وقال: حديث حسن صحيح. رقم الحديث:2619).
وفي حديث شهير رواه كل من الإمامين الكبيرين البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي المسلمين أفضلُ؟ قال: «مَنْ سَلِمَ المسلمون مِنْ لسانِه ويَدِه». (البخاري: 1/51، 52؛ مسلم:42)
وفي حديث متفق عليه عن سهيل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لي ما بين لِحْيَيْهِ وما بين رجليه، أَضْمَنْ له الجنّةَ» (البخاري 11/264، 265).
ومعنى ما بين لحييه اللسان، وما بين رجليه الفرج.
ولم يدلّ ﷺ على كفّ اللسان والسيطرة عليه والإمساك به بهذا التأكيد الشديد إلاّ لكونه – اللسان – مُؤَدِّيًا بالمسلم إلى النار إذا فَقَدَ السيطرةَ عليه وتركه يَحْصُدُ ما يريد، ويَجْرَحُ من القلوب ما يشاء، بقوارص الكلام، وقوارع الحديث، التي تُحْدِثُ جُرْحًا لم يَصِلِ العلمُ الحديثُ، بكل انتصاراته ومُعْطَيَاتِه، إلى إيجاد دواءٍ يجعله يلتئم.
* * *
إنّ اللسان، قد يكسب به المرأُ قلوبَ كل من حوله؛ بل قلوبَ العالم كله . قد يُحَقِّقُ بحلو الحديث الذي يكون فيضًا من اللسان الليِّن الناعم العسَّال انتصاراتٍ لايُحَقِّقُها البَطَلُ الكَمِيُّ بكل ما عنده من عدة وعتاد، وأسلحة مُتَطَوِّرة، وآلات حربية جبّارة؛ قد يكسب به دنيًا واسعةً عريضةً لايتمكّن المرأ من كسبها برحلات الصيف والشتاء والتطواف في البرّ، والركوب المتّصل الطويل للبحر؛ قد يكسب به النجاحَ الفائقَ في جميع امتحانات الحياة، الذي لايكسبه فيها حتّى الطُّلاَّبُ المُجِدُّون الواصلون الليلَ بالنهار؛ قد يُدْرِكُ به الآمالَ العريضةَ التي لايكاد يُدْرِكُها الناسُ بكدّ اليمين وعرق الجبين وبذل الغالي الثمين من الوقت والجدّ، والصحة والراحة؛ قد يُحَوِّلُ به الأعداءَ الألداءَ أصدقاءَ أخلاّءَ، ولايقدر على تحويلهم هذا التحويلَ حتى الموهوبون النُبَغَاءُ في العلم والفضل من ذوي المُؤَهِّلاَت العالية وحاملي الشهادات الكبيرة؛ قد يحظى بفضله بالسمعة الواسعة والصيت المطبق، الذي ربما لايحظى به العالمون العاملون وعبادُ الله الصالحون؛ قد يجعل به المجتمعَ البشريَّ يخضع له خضوعَ العبد الوفيّ لسيّده، الأمرُ الذي قد لايُتَاحُ للسلطان ذي المُلْكِ العريض المُوَطَّد الأركان .
وبالعكس من ذلك، باللسان وحده قد يصير الأصدقاءُ أعداءَ حُنُقًا لايكادون يتشبّعون إلا بإراقة دمائه وتقطيع أعضائه أو تكسير أضلاعه على الأقل.
وقد ينهزم به في الحرب التي كاد ينتصر فيها، ويخسر المعركةَ التي كاد يكسبها؛ وقد يفقد به الأرباحَ الكبيرةَ التي كاد يجنيها بعد جهود جبّارة، ومَسَاعٍ مُكَثَّفَة، ضَحَّى من أجلها بكثير من لذّات الحياة وأطايبها.
قد يحدث أنه أَثْبَتَ كونَه مُؤَهَّلاً لأداء دور في مجال هامّ من مجالات الحياة، وَانْتُخِبَ لذلك، وكاد يجني ثِمَارَ فضله ومواهبه؛ إذ فَشِلَ في الاِختبار اللساني الشفويّ الذي لم يساعد فيه لِسَانُه الفظُّ السليط القارص الذي أطلق كلماتٍ قاسيةً كَرِهَها المحاورون معه كلَّ الكراهية؛ فنجح من كل الاعتبارات وسقط من ناحية اللسان الذي أدّى في حقّه دورَ العدوّ الحَنِق.
وقد يحدث أنه يجذب إليه كلَّ من عَرَفَه وجَلَسَ إليه واطَّلَعَ عليه، بجميل مظهره، وأنيق تعامله، وأدب سلوكه، وحسن هندامه، والمواهب الكثيرة التي يجمعها، والمُؤَهِّلات العديدة التي تُوْجَدُ لديه؛ ولكنه يُنَفِّرهم جميعًا من شخصه بلسانه الذي لايكاد يُبـِـيْنُ، وبحديثه الفَوْضَوِيّ الذي لايعرف لباقةً ولاتنسيقًا؛ فهو ومثلُه إنّما يُؤْتَيَانِ من قبل لسانيهما اللذين هما مستوران في إطار فميهما وراء الأسنان والشفتين؛ ولكن دورَهما كبير في نجاح حياتهما وفشلها وفي كون شخصيهما محبوبين أو مرفوضين لدى الناس .
* * *
والجرحُ الذي قد يُحْدِثه اللسان في قلب أحد، لايَدْمُلُه إلاّ هو. جرحُ السنان يعالجه الدواء الذي يأتي من خارجه – السنان – ولكن جرحَ اللسان علاجُه إنما يَتَأَتَّى منه وحده إذا شاء الله تعالى. ذلك أن جرحَ اللسان في الأغلب لايكاد يندمل حتى بمعالجة اللسان كذلك؛ لأنه أراده الله أن يَحْدُثَ فلا يَزُوْلَ وأن يُوْجَدَ فلا يُعْدَمَ؛ لأنه وُجِدَ ليُعْطِيَ مفعوله المسموم دائمًا، ويُؤْتِيَ تأثيره المؤلم أبَدًا، ليمسح صاحبُه سطحَه – الجرح اللساني – فيشعر بالألم الثائر منه في قرارته؛ فيذكر مَنْ كان لسانُه مُحْدِثًا له؛ فلا ينساه في ضوء النهار أو ظلام الليل، ولاينساه في حالة الاجتماع أو حالة الانفراد؛ فيعود عليه باللوم والعتاب إن كان عجولاً لايحتمل، ويحتسب أجر الألم على الله، فيمسك عن اللوم والعتاب إن كان صبورًا.
على كل، فلم يعرف المجتمع البشري جرحًا أغير من جرح اللسان، ولاجرحًا أشدّ إيلامًا من هذا الجرح الذي لايكاد يُبْصَرُ بعيني الرأس مهما كانتا ثاقبتين، وما عرف بنو آدم جرحًا لايُرَى ولا يُلْمَس ولا يُتَحَسَّس ورغم ذلك يؤلم إيلامًا لايؤلمه رُمْحٌ نَافِذٌ، أو سِنَانٌ راعِفٌ، أو سَيْفٌ بَتَّارٌ، أو سِكِّيْنٌ حَادٌّ، أو أَيَّةُ آلةٍ جارحة. ثم الآلام الناشئة عن الجروح الناتجة عن الآلات الجارحة، يسهل علاجُها ويمكن مداواتها بشكل أو بآخر أو بدواء أو بآخر؛ ولكن الآلام التي يَبُثُّهَا جرحٌ من جراحات اللسان لايقبل علاجًا، ولا ينفع فيه دواءٌ مهما كان ذا مفعول سريع .
فليتأمل صاحبُه – اللسان – ألف مرة قبل أن يُقْدِمَ على إحداث جرح في قلب أحد عن طريقه – اللسان – لأنه سيبقى معه مادام حيًّا يُرْزَقُ ، وسيبقى يذكره في الأغلب بغير الخير وبغير الدعاء؛ بل وبالشر وبأسوأ الأدعية ، وإن جريح القلب إذا دعا يُسْتَجاب من فوق سبع سماوات استجابةً قد لا تتأتّى لعامة الداعين مهما كان من عباد الله الصالحين؛ لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم .
( تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الاثنين: 7/7/1428هـ = 23/7/2007م ) .
أبو أسامة نور
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس – سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.