الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور محمود محمد بابللي
ويتضمن هذا الموضوع الفقرات التالية :
- التنظيم وضع القواعد الملزمة .
- أنواع الأنظمة .
- القواعد التشريعية قواعد محكمة ومستمرة .
- مايهدف إليه التدخل .
1- التنظيم وضع القواعد الملزمة :
لابد هنا من أن نقدم كلمة ولو موجزة عن الفرق بين التنظيم وبين التدخل ؛ لكي لايلتبس الأمر على القارئ في التعرف على مجال كل منهما .
إن التنظيم – كما سبق ذكره – هو وضع القواعد الملزمة للجميع ، حاكمهم ومحكومهم ، لمراعاتها والعمل بموجبها ، ويُطْلَق عليها في كثير من البلاد الأخرى (القوانين) ، فهي ملزمة فيما ورد النص فيها ، كالأنظمة التي تتعلق بالتعامل المدني والتجاري والشخصي ، وغيرها .
وهذه الأنظمة (أو القوانين) إنما وُضِعت تحقيقًا للمصالح المشتركة بين الناس ؛ لأنها تسري عليهم جميعًا دون تفريق بين مواطن وغيره في التزامه بها ، أو هي أمور تنظيمية فرضت المصلحة العامة وجوبها على المواطنين في مختلف المجالات ، كأنظمة السير ، وأنظمة المقاييس والمعايير وأنظمة قمع الغش .. وأمثالها .
2 – أنواع الأنظمة :
تختلف الأنظمة باختلاف موضوعاتها ، فمنها ما يتعلق بالحقوق المدنية ، وما يتفرع عنها من أنظمة تجارية ومالية وإدارية ، ومنها ما يتعلق بالحقوق الشخصية للإنسان ، مثل نظام الأحوال الشخصية ، والأحوال المدنية .. ومنها ما يتعلق بالتنظيم العقاري ، أو الصناعي ، أو التخطيط أو الإحصاء .. وغير ذلك من التنظيمات المتنوعة في فروع الحياة جميعها .
وهناك أنظمة تدخل في نطاق الحق العام ، الذي لايجوز إسقاطه بعفو أو صلح أو تنازل ، إذا ما بلغت الحاكم ، وهي تُسمَّى حدود الله ، كحدّ الزنا أو حد القذف أو السرقة أو الحرابة أو المُسكِرات ..) ، والحق العام يفترق عن الحق الشخصي لعلاقته بالدولة ، وما توجبه على مواطنيها التزامًا واجتنابًا .
أما الحقوق الشخصية ، فهي العلاقات الفردية بين المواطنين بعضهم مع بعض ، أو إنها تتعلق بأحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق والنفقة والوصية .. وكالأنظمة التي تتعلق بالأحوال المدنية من تسجيل ولادة أو وفاة أو مسكن .. وما إلى ذلك .
كما يوجد نوع آخر من التنظيم يتعلق بالنظام العام ، أي مالا يصح الاتفاق على مخالفته، وما تحرص الدولة على مراعاته من جميع من يعيش على أرضها من مواطن أو أجنبي فإن عليه مراعاة واحترام الآداب والأخلاق العامة ، والأمن العام والسلامة العامة ، التي تتمسك بها الدولة .. وهي أيضًا من حدود الله التي لايصح لأحد تجاوزها ، لأن المُشرع لها هو الله سبحانه ، ورسوله المصطفى الذي استمد حق التشريع منه سبحانه وفقًا لما خصه من طاعة ، لقوله تعالى :
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا﴾(1)
ولقوله أيضًا :
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(2)
ولقوله جل شأنه :
﴿وَمَنْ يُّشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدٰى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّىٰ وَنُصْلِه جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا﴾(3) .
وإن طاعة الرسول ﷺ طاعة مستقلة عن طاعة الله ، لقوله سبحانه :
﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(4).
وإن طاعة الله سبحانه وطاعة الرسول واجبة النفاذ على المسلمين ، ولو أن طاعة الرسول تابعة من حيث الوجوب لطاعة الله ، وتم الاقتصار على طاعة الله ولم يأخذ المكلف بأوامر الرسول ، لما كان هناك من حاجة لإفرادها بالذكر والأمر بالتزامها .
3 – القواعد التشريعية قواعد محكمة ومستمرة :
هذه القواعد الملزمة التي وضعها الشارع في الإسلام لم تأت متدرجة حسب مقتضيات الزمن أو المصلحة ، أو تبدل الأحوال ، وإنما هي قواعد ثابتة محكمة ومستمرة ، من يوم أن أعلن الله سبحانه إكمال هذا الدين إلى قيام الساعة ، وإن لهذه القواعد من صيغ العموم والشمول ، ما يجعلها صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان ، لأن الذي وضعها هو الحكيم الخبير .
أما القوانين الوضعية ، فإنها لاتستقر على حال ، فهي عرضة للتبدل والإلغاء والزيادة والتعديل .. لأنها من وضع البشر.. ولكنها من حيث اللزوم فهي ملزمة لمن وُضِعت لهم ، مالم يأت من يُجْري عليها تبديلاً أو إلغاءً ..
فالتنظيم هو فرض القواعد على المكلفين لالتزامها والعمل بها ، وليست هذه القواعد حقوقاً خاصة بهم ، وإنما هي ضوابط لسلوكهم وتصرفاتهم ، وحدود لما يجب عليهم الوقوف عندها ، والتزامات عليهم الأخذ بها لتحقيق المصلحة العامة .
4 – ما يهدف إليه التدخل :
لايكون التدخل إلا في حالات تجاوز الفرد حدّه في استعمال حقه المشروع بالحيلولة دون انتفاع الآخرين بما يحقق لهم النفع ولايضر بصاحب الحق .
وقد سبق أن ضربتُ أمثلةً على التدخل عندما تقتضيه المصلحة دون تعد على صاحب الحق ، كما أنه سيرد معنا صورة للتدخل في سبيل دفع مفسدة أكبر، بارتكاب مفسدة أصغر .. وكل ذلك يتم ضمن حدود المصلحة التي يقدرها الشرع ويوليها رعايته .
وهذا التدخل في حقيقته ودوافعه هو إعادة التوازن بين مصالح الأفراد بشكل تقرّ فيه النفوس وتهدأ ، وبخاصة عندما يقع تدخل الدولة في إلزام صاحب الحق بتمكين غيره من الاستفادة من هذا الحق من غير أن يسبب بهذه الاستفادة ضررًا آخر يلحق بعدها بصاحب الحق ، لأن الضرر لايزال بمثله ، وإنما يزال الضرر بقدر الامكان ، حتى إذا ما تعارضت مصلحة لها من الأهمية شأن يسير مع مصلحة لها أهمية أكبر، فإنه يراعي في سبيل تحقيق الأهم التجاوز عن المصلحة الصغرى ، مع التعويض العادل على صاحب الحق لفوات انتفاعه من حقه في سبيل تحقيق هذه المصلحة الهامة أو الأكبر إذا اقتضى الحال ذلك . لأن الاضطرار لايبطل حق الغير .
وإن لوليّ الأمر في هذا الشأن تقدير المصلحة بما يحقق هذا التوازن المنشود بين مصالح الأفراد ، وهو بهذا التصرف يستمد سلطانه هذه من الطاعة الممنوحة له بنص القرآن الكريم في الآية المستشهد بها قبل ذلك وهي قوله تعالى :
﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(5).
وله في سبيل ذلك وضع ما يراه من توجيهات وأوامر ملزمة مستمدة من المصلحة التي يحرص على رعايتها .
وهذا التدخل يلتقي مع التنظيم المبني على إقرار القواعد الآمرة والناهية من حيث إن كلاً منهما يهدف إلى الصالح العام الذي تحرص الدولة على رعايته .
ويفترق عنه على أساس أن التنظيم أمر ثابت لايحق لولي الأمر التغيير فيه ، تعديلاً أو إلغاء ، لأنه تشريع رباني لايملك وليّ الأمر سوى رعاية نفاذه .
أما التدخل فقد تدفع إليه مصلحة الأفراد أو مصلحة الجماعة ، ويكون في الأصل حقاً من حقوقهم ، ولكن استعمال هذا الحق لايكون متوازناً مع مصلحة الآخرين ، أو أنه اقتضته مصلحة عامة ، كما سبق بيانه .
* * *
الهوامش :
- سورة الحشر الآية 7 .
- سورة النور الآية 63 .
- سورة النساء الآية 115 .
- النساء آية 59 .
- النساء آية 59 .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو – أغسطس 2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.