دراسات إسلامية
بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض
الخلّ هو الصديق المعافى، والصاحب الملازم الناصح، والوفيّ هو الصدوق، المخلص في مودّته، الوفيّ في نصحه.. والعرب في أمثالهم يرون أن الخليل النّاصح، الصادق في مشورته، ومودّته، نادر الوجود، بل قد ينعدم العثور عليه، أو من المستحيلات؛ لأنها غايات مقترنة بأسباب .
ومن باب التشاؤم، ونكران الوفاء في بعض المجتمعات، باعتبار أن النّاس لايفون إلا لمصالحهم، ولاينصحون إلا لمآرب ذاتية، ومنافع وقتية، فإذا زالت هذه الأمور، أو ضعف الرجاء فيها، تخلّى ذلك الصديق عن صاحبه، وإذا حلّتْ به مشكلة أدبر الناس عنه.
وقد جاء في أمثالهم ما يدلّ على ذلك، بأنه مما يندر وجوده في المجتمعات، بل حكموا بأنه لا وجود له، وهو من ثلاثة أشياء، منها العنقاء، والخلّ الوفيّ، إذ جاء في أشعارهم أن ذلك من المستحيلات، وهذا حكم جائر، فالعنقاء طائر وهميّ لاوجود له، ولم يروه، وإنما يتشاءمون به.. ولذا لما قال رجل لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عندما بدأ ظل الأمور ينحسر عنه، ومن كانوا له أصحاباً يتخلّون عنه: ما بال الناس انفلّوا من حولك يا أمير المؤمنين وقد كانوا كثيرين من قبل؟
قال: رأيتهم والدنيا مقبلة، فكانوا كثيرين، ثم رأيتهم بعدما بدأ ظل الأمر ينحصر فصاروا قليلين. ومفهوم قلتهم من عدم الوفاء.
ولذا يُرى في كثير من المجتمعات التي يكثر فيها عدم الوفاء، أن الإنسان إذا كان الآخرون يطمعون في نفع من مكانته أو رفد من ماله أوجاهه، ويرجون أن يحظوا بما يحقق أمنيات في نفوسهم: مالية أو معنوية لهم أو لمن يعزّ عليهم، يتقرّبون من وجاهته، ويتزلّفون من مجلسه: مدحًا متكلفاً، وكلامًا ليّنًا، فيحسنّون من أقواله وأفعاله، ما يتحول قدحاً عندما تتغير حاله، وهؤلاء ممّن وصفهم الرسول عليم اللّسان؛ لأن تلك الخلة، لم تكن خالصة بعد، وذلك المديح لم يكن عن صدق ولا عن حب في الله ولله .
وهذا من عدم الوفاء، وما أكثر هذه العادة، في بعض المجتمعات النفعية والماديّة، إذ يتقرب إلى صاحب المكانة من لم يعرفه من قبل، ويمجّده سماعًا في وجهه، وعند من يتوجّس منه تبليغًا له.
وتتأكد هذه الخلال، تعلقًا بأدنى معرفة، وتمسّكاً بأقرب رابطة من الرّوابط التي كانت من قبل بعيدة ثم اعتقدها بعضهم قوية مع وشيجة المصلحة المرتقبة .
تكون هذه العلاقة التي يحرص عليها النفعيون، قوية ببدء النجم في البروز، ماليًا أو وظيفيًا؛ لكنها صداقة متكلفة، وأساسها سريع الأنهيار؛ لأنها لم تبنَ على مودّة وصفاء، ولم ترتكز على صدق ووفاء، حيث تنتهي بانتهاء المسببات لها، ومع عدم توافر ما يؤمله صاحبها، فإن أُعطُوا منها رضوا، وإن لم يُعْطَوا سخطوا، وابتعدوا في تلمس أرض أخرى، ينبت فيها زرعهم، مثل من وصفهم سبحانه في كتابه الكريم: ﴿فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأمَّا ما يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض﴾ (17) سورة الرعد.
إن الخلّ الوفي هو الذي لايتزلّف، ولا يطلب لنصحه عوضًا ولا معروفًا، وإنما يزور لمامًا، ويعطي من جهده ووفائه بما يرتق خللاً في خليله، ويثبّت أمامه المعنى الحقيقي للصدّاقة لأنه يدرك بأن الصديق من صدقك، لا من صدّقك.
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام تقوّي أواصر الصدق في الحديث، والوفاء عندما تدلهم الأمور، وتدعو إلى النصح وحسن الثنــاء من دون تكلف أو تزلّف وذلك في آيات كثيرة من كتاب الله – عز وجل – يمدح الله بها الصادقين في حديثهم ونصحهم ، المــوفين بعهدهم إذا عاهدوا ، والثابتين على المودة والصفاء، لالمصلحة دنيوية، أو مطامع ذاتية، وإنما طمعًا في الأجر من الله، وثباتًا على مبدأ أحبه الله وحث عليه، وحذر من ضدّه رسول الله ﷺ، حيث ذمّ صفات هي: الكذب، والبهتان والنميمة، والغدر في العهد، والخيانة في الأمانة والغيبة، ووصفهم بالنفاق، لأنهم يقولون ما لا يفعلون، وتكذّب أقوالهم ما تضمره قلوبهم: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(3) سورة الصف .
ويضربُ المثل الأعلى في بذل النصح والصدق وحسن المودّة، رجال كثيرون قديمًا وحديثًا، هم النموذج للخلّ الوفيّ، لايطمعون وراء ذلك عرضًا زائلاً، ولا محمدة موقت زمانها، برزوا في تاريخ الإسلام: نبلاً ووفاء، وشهامة وإخلاصًا أمثال :
– الفضيل بن عياض عندما كلّم الرشيد، وهو في مكة للحج، من قلب نقي، فبدأ بنصحه، وبذكر مشورة كل من سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة على عمر بن عبد العزيز بعدما وُلِّي الخلافة وعدّها بلاء، ولما ذكر كلامهم، قال للرشيد: فهل معك – رحمك الله – من يشير عليك بمثل مشورتهم على عمر بن عبد العزيز، فإنّي أخاف عليك أشد الخوف، يومًا تزلّ فيه الأقدام ولما أكثر في بذل نُصحه، ومن قلب صادق، قال له الرشيد: أذكر حاجَتك، وبين دينك!! قال: إن ربي لم يأمرني بهذا.
فأعطاه ألف دينار، وقال: خذها وانفع بها غيرك، وانفق منها على عيالك، وتقوّبها على عبادتك؛ لكنه رفضها، وقال له: سبحان الله أنا أدلّك على النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا.. ثم هرب منه إلى سطح المنزل .. فأدرك هارون نصحه ووفاءه، حيث دخل كلامُه قلبه ، وقال للفضل بن الربيع : إذا دللتني على رجل ، فدلّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين .
والفضيل في حكايته مع هارون الطويلة، ونصحه له فإنه حريص على ما ينفعه، وهذا يمثل نظرة الإسلام في الوفاء وأداء الأمانة، والنّصح لما فيه مصلحة المنصوح، ولذا رقّت حواس الرشيد لكلماته التي خرجت من قلب صادق، لتلج في قلب متفتح للنّصح، لأن الثلاثة النّاصحين قبل الفضيل أسرعوا في المجيء للنصح طمعًا في المنحة المالية، حيث لم يدخلا نصحُه قلبَه لهذا السبب.
دعوات مستجابة
كان منصور بن عمار من العبّاد الزهاد، وكان واعظاً ترقّ القلوب لحديثه، وتدمع العيون مع خطبه، وله مواقف كثيرة، فمن ذلك ما جاء في كتاب محاضرات الأبرار، ومسامرات الأخيار، وتداور هذه الحكاية عنه: قال جلس رجل من المُسرفين على نفسه، في مجلس راحته مع ندمائه، ثم دعا بغلامه، فدفع إليه أربعة دراهم، وأمره أن يشتري بها من المشمومات، ما يليق بمجلس راحته، فمرّ الغلام بمجلس منصور بن عمارة وهو يسأل للفقير بين يديه.
فسمعه يقول: بقيت لهذا الفقير أربعة دراهم، فمن دفعها إليه، دعوت له بأربع دعوات، فدفع الغلام له الدراهم، فقال له منصور: ما الذي تريد أن أدعولك به؟ فقال: سيدي أريد أن أتخلّص منه، فدعا له بذلك. فقال له: وما الذي تريد أن أدعو لك به ثانية؟ فقال: أريد أن تُخلفَ على هذه الدراهم. فدعا له بذلك .
قال منصور: فما الدعوة الثالثة؟ قال أحبّ أن يتوب الله على سيّدي. فدعا له بذلك، وسأله عن الرابعة فقال أحب أن يغفر الله لي ولسيدي ولك، وللقوم الحضور، فدعا منصور بذلك، وانصرف الغلام إلى سيده راجعًا، وقد أبطأ عليه، فقال له: لمَ أبطأت عليّ؟ وأين الحاجة التي أمرتك بشرائها؟ فقصّ الغلام عليه القصّة، فقال: أخبرني ما الذي دعا لك به؟ فقال: سألته أن يدعو لي بالعتق. فقال له: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى.
فما الثانية؟ قال: أن يتوب الله عليك. قال: فإني أشهد الله أني تائب. فما الثالثة؟ قال: أن تخلف علي على الدراهم. فقال: لك من مالي أربعمائة درهم. قال: فما الرابعة؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وللمذكور ولأهل مجلسه. قال: ذلك لله عز وجل.
فلما كان في الليل وقف للرجل هاتف في منامه، فقال له: يقول الله لك أنت فعلت ما إليك وأنت عبد ضعيف أتراني أفعل ما كان إلي، وأنا المولى الكريم؟ قد غفرت لك وللغلام، وللمذكور، ولأهل مجلسه(212:1).
ومثال آخر فهذا أبو جعفر المنصور، عندما كان يطوف بالبيت ليلاً، سمع قائلاً يلهج في دعائه قائلاً: اللهم إنّا نشكو إليك، ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله، من الطمع والأثرة .
فجلس المنصور ناحية المسجد الحرام، ثم طلب الرّجل، فلما جاء وسأله عمّا سمع منه، طلب منه الأمان ليصدقه، فأمّنه المنصور.. فأخبره الرجل بحال من حوله، وظلمهم للناس، وأن من جاء متظلّمًا يحال بينه وبين الوصول إلى المنصور.
وأكثر الرجل في النّصح والتّوضيح، في هذا الأمر وخوّف المنصور من موقف يوم القيامة، فبكى أبو جعفر المنصور، ولم يوبّخ الرجل؛ لأنه وفا له بما طلب، بل استرشد منه كيف يحتال لنفسه.
فنصح الرجل المنصور بمشورة العلماء، وأهل الديانة، ليكونوا بطانته وأهل مشورته، فقال المنصور: قد بعثت إليهم فهربوا، فقال النّاصح: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح الباب للنّاس، وسهّل حجّابك، وانصر المظلوم، وأقمح الظّالم، وخذ الأمور على وجهها وأنا ضامن لك عنهم، أنّهم يأتونك، فيساعدونك على صلاح الأمة .
فالمنصور وفا له فيما يطلب، حتى يتكلّم وينصح براحة نفس، والنّاصح أعطى من نفسه ما يحبّ الله من المشورة الحسنة، والنّصح الذي لم يطلب له عوضًا، إلا أنّه الوفاء، وأداء الأمانة في نصح السلطان، الذي بصلاحه تصلح الأمة .
ولما أراد أن يكافئ المنصور هذا النّاصح، سلّ نفسه وانصرف خِلْسةً، لأنّه لم يفِ بالنّصح طمعًا في مأرب من منافع الحياة، وإنما أراد أن يكون خلاًّ وفيًا، وناصحًا أمينًا.
– والشّواهد كثيرة في سجل رجالات في تاريخ الإسلام مما يرسّخ مفهوم أن الخلّ الوفي موجود في البيئة المسلمة، يبذله النّاصح بأمانة وصدق، ويتقبّل المنصوح ذلك بسعة صدر، ورغبة في المزيد، لأنّ ما يخرج من القلب، يدخل في القلب.. أمّا ما يصدر من اللسان فلا يتجاوز الآذان ولذا فإن الوفاء، إذا حرص عليه الإنسان، وبذله بصدق لحماية من لايعرفه، وبدون تجاوز لشرع الله، أو أضرار لعباد الله، وإنّما بذله لأداء حق الوفاء، فإنه يُعتَبَر من أقوى أواصر الأخوة والصداقة.
ولئن كان الله سبحانه، قد مدح الوفاء بالعهد، وجعل ذلك من أمكن الخصال الحميدة، في المؤمن، حيث أثنى الله على الموفين بعهدهم، في عدة مواضع من القرآن الكريم، واعتبر رسول الله ﷺ الإخلال بالوعد، من الصفات الذّميمة، التي تتنافى مع كمال الإيمان، ومن السجايا القبيحة، التي لايتحلى بها إلا من لا خلاق لهم، لأنّها جزء من الصفات التي يعرفون بها ظاهرًا في الأعمال، أو مستترًا في الأفعال، فكانت من علامات النّفاق والمكر.
كما اعتبر رسول الله ﷺ، المكافاة على المعروف، والوفاء في العلاقات بين الناس، من مكارم الأخلاق التي يحبها الله، وجاء الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، ليتممها، كما قاله لسفّانة لما وقعت في الأسر، وطلبت منه ﷺ: أن يخلّى عنها، فإنَّ أباها حاتم الطائي، يحبّ مكارم الأخلاق.. فقال ﷺ لأصحابه: (خلّوا عنها، فإن أباها يحبّ مكارم الأخلاق، والله يحبّ مكارم الأخلاق، ولو كان أبوك مسلمًا لترحّمناعليه).
ولذلك يضرَب المثل عند العرب بـ(فكيهة)، ويقال: أوفى من فكيهة.
– وفكيهة هذه امرأة من بني قيس بن ثعلبة، كان من أمرها في الجاهلية وقبل بعثة رسول الله ﷺ، في الوفاء: أن السّليك بن السلكة – وهو من صعاليك العرب المشهورين – غزا بكر بن وائل، وخرج جماعة من بكر، فوجدوا أثر قدم، على مورد من موارد الماء، فقالوا: إن هذا الأثر، قدم قد ورد الماء ، فقعدوا له .
فلما وافى السّليك الماء حملوا عليه، فعدا – وكان من العدّائين المشهورين – ففاتهم حتى ولج قبّة (فكيهة)، فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها، فجاء من لحق بالسّليك من بني بكر بن وائل، فانتزعوا خمارها، فنادت إخوتها، فجاءوا وهم عشرة، فمنعوهم عنها، ونجا السّليك من طالبيه، نتيجة وقائها لمن استجار بها، وهي لم تعرفه من قبل؛ ولكن هذه الخصلة مما يُمْدَح بها من تحلّى بها.
ومثل ذلك وفاء السموءل بن عاديا، الذي أودع عنه امرؤالقيس، الشاعر الجاهلي المعروف، دروعه عندما ذهب يستنجد بهم.. فمات وجاء قوم من خصوم أمرئ القيس، لأخذ الدروع من السموءل فرفض حتى يأتي ورثته، فهددوه بقتل ولده، فأبى ثم قتلوا ابنه ليرغموه على تسليم الدّروع أمامه حتى يسلمها لهم؛ ولكنه أبى عليه وفاؤه أن يخون الأمانة، حتى جاء الورثة فأعطاهم ما لديه من دروع وغيرها، أودعها امرؤالقيس عنده .
– أما الضدّ وهو الجانب السلبي في الوفاء، وهو الغدر والخيانة، بل ما ينميه الشر من الحرص على الإضرار بالآخرين، والتّقرب إليهم لمارب، حتى يتصيد العثرات، وينمي الحزازات، وهي صفة تاباها النفوس الطيّبة، وتنفّر منها تعاليم الإسلام، التي تبث الأخوة، وتدعو إلى سلامة الصّدور، كما روي عن الحسن بن علي، أنه قال لجلسائه: (لا تحدثوني عن الآخرين إلا بما فيه الخير، حتى أخرج إليكم، وصدري نظيف من الغل والكراهية لأحد .
ورع وعفّة
جاء في محاضرات الأبرار، ومسامرة الأخيار، أن لفاطمة بنت عبد الملك، زوجة الخليفة العادل، عمر بن عبد العزيز، جارية حسناء، كان عمر يهواها، فطلبها منها لنفسه، وحرص على ذلك، فأبت عليه غيرة، ولم يزل مشفوعًا بها، فلما أفضت إليه الخلافة، طلبت فاطمة الحظوة عنده، بتقريب الجارية إليه، فأمرت بإصلاح شأنها، وأدخلتها عليه في أحسن صورة، وقالت له: إنّك كنت بفلانة جاريتي مُعْجَبًا، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك، وأنا اليوم قد طبت نفسًا بذلك، فدونك إيّاها، فسُرَّ بذلك وظهر الفرح في وجهه، وازداد بها عجبًا، وقال لها: ألْق ثوبك أيّتها الجارية، فلمّا همّتْ، قال لها: أخبرَيني لمن كُنْتِ، ومنْ أين أنْت لفاطمة؟
قالت: كانَ الحجاج بن يوسف أغرم عاملاً كان له، من أهل الكوفة مالاً، وكنت في رق ذلك العامل فأخذني وبعثني إلى عبد الملك بن مروان، وأنا يومئذ صبيّة، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة .
فقال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك. قال: وما ترك ولدًا؟ قالت: بلى، قال: وما حالهم؟ قالت: سيء .
قال: شُدِّي عليك ثوبك. ثم كتب إلى عبد الحميد عامله، أن سرح إلى فلان بن فلان على البريد، فلمّا قدم عليه، قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك. فما رفع إليه شيئًا إلى دفعه، ثم أمر بالفتاة فدُفِعَتْ إليه، فلما أخذها بيدها، قال: إيّاك وإيّاها، فإنّكَ حديث السنّ، ولعل أباك أنْ يكون وطئها، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، قال: فابتعها مني، قال: لست إذًا ممن ينهى النفس عن الهوى.
فمضى بها الفتى، فقالت الجارية له: فأين وجدك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: على حالها، ولقد ازدادت: فقيل: إنها مازالت في نفسه حتى مات رحمه الله(1-113).
هذه الخصلة الذميمة التي حذّر الحسن بن علي رضي الله عنه، جلساءه هي التي يتولَّد عنها: الكذب والحسد، والغيبة والنَّميمة، والكراهية بين الناس، والتشاحن والتباغض، وغير هذا من مولِّدات الشرور بين البشر، في كل مجتمع، فهي لا تنمو إلا مع نقص الإيمان وبعد وازعه عن الإنصاف بكماله.
وهي متأصلة في الشَّياطين، حيث غرس جذورها، ونمَّى نبتها إبليس عندما عَصَا ربه وأخذ العهد على نفسه، أن يُضلِّل عباد الله وأن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، لينكروا شكر الله والاستقامة على شرعه، فقال الله سبحانه: (إلا عبادي المخلصين). فهو لن يستطيع النَّفاذ إليهم، وأعوانُه من المردة، وشياطينُ الإنس الذين يخدمونه بالفساد والإفساد والإغواء لأن الله حفظهم عنه، بقوَّة الإيمان، وبخصال هذا الدين الذي لايقبل الله من البشر دينًا سواه .
فإبليس وذرِّيته المردة، أخذوا على أنفسهم عهدًا، بالترصُّد بني آدم حسدًا وتكبرًا على الله ويسعون في التّنفيذ جاهدين بغير ملل ولا كلل، ومطيّتُهم في ذلك الخصال الذميمة التي مرَّت بنا التي يتولَّد عنها كُلُّ شر ومن ذلك عدم الوفاء والغدر وفساد القلوب بالغلِّ والحسد.
ويمثِّل ذلك ما رُوي عن يحيى بن زكريا، عليهما السلام أنه لقي إبليس فقال له: أخبرني مَنْ أحب الناس إليك، وأبغضهم إليك، قال: أحبّ الناس إليَّ كل مؤمن بخيل، وأبغض الناس إليَّ، كلّ منافق سخي، قال يحيى: ولم ذلك؟.. قال: لأن السخاء خُلق الله العظيم (يريد الأعظم) فأخشى أن يطَّلع الله عليه، في سخائه، فيغفر له.
ومن هذا وذاك، تبين خصال الوفاء في الصديق الصادق، والخلال التي تحثُّ عليها تعاليم دين الإسلام، الذي جعل الله أمته، خير أمة أُخرجت للناس إذا حرصوا على تطبيق الأسس والقواعد، التي بينها الله سبحانه، وحثَّ عليها رسوله، ودورهم في قيادة البشرية: أفرادًا وأسرًا، وشعوبًا وجماعات، إلى الأمن والأمان والرخاء والاطمئنان، ونشر العدل والوفاء، لتأخذه الأمم الأخرى، قدوةً صالحةً ومثلاً يُحتذى كما حصل في الدور الأول الذي اتّسع به مجال الإسلام في أرض الله الواسعة دون أن تصلها جيوش أو حروب في رد على مَنْ يريد تشويه صورة الإسلام في بلاد الغرب بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقهر والظلم.. وحاشا الإسلام وشرع الله من هذا المسلك .
كما تبرز الخصال الأخرى المضادَّةُ لعدل الإسلام وسمو شرعه في نفع البشرية التي لم ينشأ منها إلا الظلم ونهب أموال الشعوب وخيرات بلادهم ومن ثم السعي لإذلالهم، بنشر الفساد والسعي وراء الإفساد والله سبحانه لايحب الفساد وحرَّم الظلم على نفسه.
فالقاعدة لهذه الأمور، هي ما حرصت عليه الصفات الحميدة التي تأتي من حسن طاعة الله وفهم كل خصلة تنبعث من هذه الطاعة، حيث يحقق المولى سبحانه تبعًا لهذه الطاعة الحقيقية، محبَّةً بين الناس في القلوب، وأمانًا في الأوطان وفتح أبواب الرزق الكثيرة وازدهارًا في الاقتصاد، وتوسعًا في النعم، أَلم يقلْ سبحانه [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوْا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْض](96) سورة الأعراف .
وإنّ من صفات الخلِّ الَوفيِّ وهو الذي يقف معك في الضراء، ليخفف عنك ألمها، ويواسيك مما قد حصل لك، بدون تملُّق أو طلب عوَض، ويفرح لك بالسّراء ليمحضك نصحه، في كل أمر تعرضه عليه، ويعطيك من تجاربه النَّافعة، ما به يزداد سرورك، وفي كل أمر تعرضه عليه ولا يطلب لك أو لأسرتك إلا الخير والمنفعة الحسنة، ويدافع عنك الشرّ وأنت لا تدري فيحفظ عرضك في غيابك ويراقب ما يقوله الناس عنك: ما بين قادح ومادح، ليوازن الأمور يفتح لك الباب المفيد السير فيه، ليفيدك عن الطريق الأسلم الذي يجب أن تأخذ به، وهذا هو الذي يُقال عنه: الصديق مَنْ صدقك وأعانك على ما فيه مصلحتك الدنيوية والأخروية .
ومن صفاته أن يقف معك في المُلمَّات، ويحرص على حفظ عرضك في غيبتك، فإن احتجتَ إليه نفع بجــاهه وماله، أو مشورته النافعة، ولا يسعى في مضرتك بل يدافع عنك ويحذِّرك من عواقب الأمور يحكم تجربته أو أقل تقدير شاركك ألمك، وتوجع لمصابك كما قال الشاعر:
ولا بُّدَ من شكوى إلى ذي مروءة
يــواسيك أو يسليك أو يتــــوجَّــع
لأنه صاحب مروءة يريد لك – من وفائه – ما يريد لنفسه، وإن جاورك حَفظَ لك سرَّك، وأدى حق الجوار لأفراد عائلتك، بالنفع وَالنصح، دون إضرر أو الغدر والخيانة ..
ولئن كانت تعاليم ديننا الإسلامي، بمصدريها كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، تدعو للخير، فإنَّ بعض النفوس الصافية تراعي ذلك الخير، فإنْ كان صاحبها مسلمًا وفَّى له أجره بحسب نيَّته، وإن كان كافرًا فليس له من حظ في الآخرة وفي الدَنيَا يَكفيه ثناء الناس، كما أخبر ﷺ في قصة حاتم الطائي وفي مكارم أخلاق عبد الله بن جدعان الذي لم يُقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وأحسن ما وجدتُ في صَفوِّ الوداد، والخلِّ الوفيِّ الصدوقِ هذه الأبيات التي أختمُ بها حديثي:
إذا المـــــرء لا يـــــرعــاك إلا تكلُّفــــًا
فدعْه ولا تكثــــــر عليــــه التـــأسفــا
ففي الناس أبدالٌ وفي الترك رحمـــــةٌ
وفي القلب صبرٌ للحبيب ولــو جفـا
فما كلُّ مَنْ تهـــــواه يهواك قلبُـــــــهُ
ولا كُلُّ من صافيتـــه لك قـــــد صفا
إذا لم يكن صفــــو الــــوداد طبيعــــــةً
فلا خيـــــر في خـــل يجيء تكلفــــــــا
ولاخيــــــر في خـــل يخـــــون خليلـــه
ويلقاه مِنْ بعـــــد المــــــودة بــــالجفــا
وينـــــكر عيشًا قـــــد تقـــادم عهـــده
ويظهر ســــرًّا كان بالأمس قــــدخفا
سلامٌ على الـــدنيا إذا لم يكـــن بهـــــا
صديقٌ صدوقٌ صادقُ الوعد مُنْصِفَا
أحكام عادلة من الجنْ
جاء في محاضرة الأبرار، قائلاً: حدثنا الضرَّير إبراهيم بن سليمان الخابوري، من دير الرُّمان بحلب، قال: كنت بذي نصر فخرج رجل يحتطب لعياله، فَفُقِد أيامًا، حتى حزن عليه أهله، فدخل عليهم بعد ذلك ضعيفًا، متغيِّر اللون، كاسف البال، أثر الرُّعب والجزع عليه ظاهر.
قال: فسألناه عن شأنه، فقال: بينما أنا أحتطب، إذْ عرضت لي حيَّة فقتلتها، فغشي علي، وغبت عن نفسي، فأخذني جماعة منهم، فجاؤوا بي إلى شيخ فيهم كبير، هو زعيمهم، فمثلوني بين يديه، فقال: ما شأنكم؟ فقال: هذا قتل ابن عمنا، وأشاروا إليَّ، فَقُدْ لنا منه، فقال الشيخ لي: ما تقول؟، فقلت: لا أعرف ما يقولون، وإنما أنا رجل كنت أحتطب، فعرضت لي حيَّة فقتلتها.
فقالوا: ذلك ابن عمّنا، فقال ذلك الزّعيم: امسكوه عندكم، واستوصوا به خيرًا، حتى أرى في أمركم وأمره، فأخذوني إليهم، وجاؤوا بأطعمة لا أعرف منها سوى اللَّبن، فكنت أشربه، لا أعدل إلى غيره مدَّة هذه الأيام، التي غبت عنكم فيها، فبينما أنا على ذلك، إذ جاؤوني فأخذوني وحضروا بي عند الشيخ ذلك، فذكروا مثل مقالتهم الأولى، من الدعوى، فسألني الشيخ فذكرت له الأمر على ما جرى، فقال الشيخ للقوم: مالكم عليه حقٌّ، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: مَنْ تصوَّر في صورته، فقُتل فلا عقل فيه ولا قود، وصاحبكم تصوَّر في صورة حيَّة، فخلُّوا سبيله .
فقلت: يا شيخ وهل رأيت رسول الله ﷺ، فقال: نعم كنت في وفد جنِّ نصيبين، حين قدم رسول الله ﷺ، وما عاش إلى هذا اليوم، من ذلك اليوم غيري.
فهؤلاء الجنُّ قومنا، يتحاكمون إلينا في أمورهم، فأحكم بينهم، ثم قال لهم: ردُّوه إلى حيث أخذتموه، فما شعرتُ إلا وأنا في موضعي(2:61).
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.