الأدب الإسلامي
بقلم : د. السيدة مسرت جمال
الأستاذة المساعدة بقسم اللغة العربية
جامعة بشاور – باكستان
2 – «فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ» (51)
انظر كلمة «رقبة» هل يستطيع المرء أن يحرر رقبة فقط بدل كل العبد أو الأمة؟ لا، بل أنه يحرر العبد أو الأمة لا أجزاء جسمهما فقط. فما العلاقة بين الرقبة والإنسان؟ لا توجد أية علاقة بين الرقبة والعبد إلاّ أن الرقبة جزء من أعضاء العبد، فالعلاقة جزئية.(52)
وسرّ جماله، هو أن الجزء محترم على حد حتى ينوب مناب الكل لأنه يلزم لوجود الكل. وذلك لأنه إذا ينتفي الجزء ينتفي الكل نفسه. أما إنتقاء الكل فهو لا ينتفي به الجزء(53). فنيابة الكل بالجزء يجعل الجزء هامًا، ومع ذلك أنه يهب العبارة المبالغة القوية، وتنشأ كلمة المفردة ذلك النغم الذي لايوجد في الجمع كقوله تعالى:
«اللهُ الَّذِيْ خَلَقَ سَبَعَ سَمـٰـواتٍ وَّمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ».(54)
وكلمة «الأرض» فإنها لم ترد في القرآن إلاّ مفردة، فإذا ذكرت السمآء جمعًا جيئ بها مفردة في كل موضع منه، ولو ذكرت في صورة الجمع أي: «خلق سبع سموات ومن أرضين مثلهن»، لذهبت الروعة، لما في هذا من الخلل في اللفظ وعدم التناسق في النظم(55).
وتحت هذه العلاقة قول الله تعالى:
«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» (56) و «وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (57) و «يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا» (58) و «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ» (59) و «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (60) و«وَيَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ» (61) وغيرها.
انظر إلى كلمة «القلوب، الأذقان، الأعين، والركوع، والوجه»، هل ترى أنها أُستُعملت في المعنى الحقيقي؟ لا، فما العلاقة إذًا بين المعنى الحقيقي والمجازي؟ هل بين الكلمة والكلمات، وبين القلوب وأصحابها، وبين الأذقان والأشخاص، وبين الأعين والناس، وبين الركوع والصّلاة، وبين الوجه والرب علاقة المشابهة؟ لا، كلا، بل بين المعنى الحقيقي والمجازي لايوجد أيّ ربط سوي الجزئية. فالعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي جزئية.(62) .
وسرّ جمال استعمالها في المعنى المجازي هو المبالغة القوية والانسجام اللفظي، يعني لوحاولنا أن نأخذ هذه الكلمات في المعنى الحقيقي لذهبت تلك المبالغة التي تنشأ في أخذها في المعنى المجازي، «أولو وضعنا كلمات الكل موضع الجزء – الكلمات، الأصحاب، الأشخاص، الناس، الصلاة، والرب – لاضطرب الانسجام اللفظي الذي يوجد في هذه الكلمات. وهذا هو الوجه أننا نجوز لها المعنى المجازي لأن المعنى الحقيقي هنا محال. وإنما ساغ إطلاق الكل على الجزء لأن الجزء ركن أساس للكل، إذ لو فات الجزء لفات الكل. وهذا الجمال اللفظي والمعنوي الذي يجعل القارئ والسامع أن يعترف بعجز ويضطرّه أن يقول: «ليس هذا كلام البشر».(63)
3 – «إنَّه مَنْ يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا» (64)
انظر في كلمة «مجرماً» تجد أن الإنسان لا يوصف بأنه مجرم، أو غير مجرم يوم القيامة لأن القيامة ليس للعمل، فوضعه بالمجرم باعتبار ما كان في حياته الأولى، فالعلاقة إذن هي العلاقة باعتبار ماكان، وإنما وُصِف به لأنه كان في حياته السابقة مجرمًا ويراد بإبرازها في هذا اليوم، وفي هذا تشبيع منها، وأنها لازمة لاصقة، وأنه يلقى الله وهو في هذه الحال المتلبسة بالخطيئة، وكأنه يفعل الجرم بين يدي ربه، ووراء هذا من الغضب عليه وشدة الغيظ والعقاب ما وراءه. (65)
وقد أتت الآيات القليلة تحت هذه العلاقة مثل:
«أَنْ يَّنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ» (66). «وَآتُوا الْيَتَامـٰـى أَمْوالَهُمْ».(67)
إذا تأملت في كلمة «أزواج، اليتامى»، فعلمت أن الرجل لا ينكح زوجته التي هي في نكاحه، واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه. فهل تظن أن الله سبحانه يأمر أن ينكح المرء زوجته المنكوحة، ويعطى اليتمى الصغار أموال آباءهم؟ هذا غير معقول بل الواقع أن الله يأمر المرء أن ينكح المرءة التي كانت منكوحة لذلك الرجل وطلقها طلاقًا ثلاثاً، فبعد الحلالة قد أباح الله له النكاح معها، وأن الله يأمر بإعطاء الأموال إلى من وصلوا سن الرشد بعد أن كانوا يتامى وعاجزيين عن المكافحة وحماية أموالهم، فكلمة اليتامى مثل أزواج هنا مجاز بعلاقة ما كان.(68)
وروعة الجمال في هذا التعبير المجازي هو استحضار الصورة الحاصلة في الذهن، والمماثلة في النفوس، وحضورها في الفكر يميل المرء إلى أن يهزّ عطفيه، ويفتح نور وجهه بأشعة هذا الجمال لامثيل له .
4 – «وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا أَنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (69)
أنظر إلى كلمة «رحمة» هل يستطيع الإنسان أن يحل فيها؟ لا، لأنها معنى من المعاني، وإنما يحل الإنسان في مكان الرحمة. فلم استُعمِلت الرحمةُ – حالة – بدل الجنة – مكانة – التي فيها الرحمة؟ تفكّر، أن العربي لا يرسل كلمة في غير معناها إلاّ بعد وجود صلة وعلاقة مع معناها الأصلي تأمل، هل الله تبارك وتعالى يرسل كلمة بغير صلة وعلاقة؟ لا، فإذا أية علاقة توجد بين المعنى الحقيقي والمجازي سوى حالة في الرحمة ومحل في الثانية؟ فذكر الحال ومراده منه المحل. فما الفرق بين:
«وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا أَنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» و «وأدخلناهم في جنتنا أنهم من الصالحين» الفرق واضح بين الصورتين: الأول هو:
في الرحمة تأنق، وأما الجنة فهي معروف، والشيء المعروف لا ينشأ منه تلك اللذّة التي توجد في الشيء الجديد والجدة عنصر الجمال فالرحمة في هذا المقام أجمل دون الجنة.
والثاني هو :
في الرحمة رخوة في الآداء دون الجنة إذ فيها شدة النون ومقام الجزاء والإنعام يطلب الرخاء دون الشدة .
والثالث هو :
في حروف الرحمة حسن معنوي من حيث أن «رحم» يحضن معنى المحبة والشفقة يعني يحيط الشيء باللين والمحبة في الداخل كما أن الوالدة تحمل في رحمها ولدًا، وهذا هو الوجه لاستعمال ذوي الأرحام للأقرباء. وذلك أن كل واحد منهم يهتم بأمور الآخر في العسر واليسر .
وأما كلمة الجنة، فلا يوجد فيها ذلك المعنى، لأن «جن» تحضن في حضنها معنى التستر وفيها تستعمل «الجنون، والجن» ومع ذلك أن الجنة هي المقام التي لاتراه الأعين هنا، حينما الرحمة نحسها بدون البصارة .
يا أيها الناظر! هل تحصل تلك المبالغة والدقة في كلمة «الجنة» التي توجد في الرحمة؟ لا. وتحت هذه العلاقة بعض من الآيات التالية واردة :
«هُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ» (70) و«وَاتَّبَعَ هَوٰـه» (71) و «هُمْ فِي غَفْلَةٍ» (72) و «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» (73) و «جَاءَ فِرْعَونُ وَمَنْ قَبْلَه وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ» (74) .
تأمل في كلمة «ضلال، وهوى، وغفلة، طيبة، وخاطئة، تجد أنّها كيفيات، ولايصح أن يحل أحد في الكيفيات لأنها ليست مقامات، فما السر في استعمالها في هذه المقامات؟
فالسر هو أن هذه الكلمات مستعملة في هذه المقامات في المعنى المجازي. والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي هي علاقة الحالية.(75)
والجمال في استعمال هذه الكلمات في المعنى المجازي هو أن تنتقل هذه المعنى الينا مصوَّرة محسوسة، وحية متحركة، وبارزة مشخَّصة؛ حيث أن الضلال، والهوي، والغفلة، والطيبة، والخاطئة، هي الصفات التي لانشاهدها مجسمًا سوي استعمالها بطريق المجاز. ولو زدنا في هذه التعبيرات كلمةً أو بدلنا كلمة، لاضطرب نغم الآية والانسجام الذي يوجد في هذا التعبير المجازي.(76)
ألا تحس أيها القارئ والناظر لذة من هذا الجمال البديع؟
5 – «وَكَأَيِّنْ مِّنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيتُ لَهَا» (77)
تأمل أيها القارئ في كلمة «قرية» تجد أن القرية ليست إنساناً أن يملئ الله تعالى لها؛ لأن الإملاء يكون للإنسان، فالمراد بطريق المجاز من القرية سكانها إذا ما العلاقة بين السكان والقرية؟ هل بينها مشابهة؟ لا، كلا، حيث القرية من المعاني والإنسان من الذوات، ولا تجد بينها أيّ ربط سوي المحلية؛ لأن القرية محل والناس يسكنون فيها، فذكر لفظ المحل. وأريد منه الحال فيه .
وقد وردت الآيات الكثيرة من المجاز المرسل تحت هذه العلاقة، منها:
«لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرٰى» (78) و«نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ» (79) و«كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً» (80) و«فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيةَ».(81)
فكلمة «أم القرى، والسمآء والقرية، نادية» لايصح أخذ المعاني الحقيقة منها، لأن الإنذار لايوجه إلى أم القرى، وكذلك الماء لاينزل من السماء، والقرية لاتكون ذات قوة وشدة؟ فإذن المراد منها، السكان، والسحاب، وأهل القرية، وأصحاب النادية بالترتيب وذلك بعلاقة المحلية يعني ذُكِر المحلُ والمراد منه الحال.(82)
وسر الجمال في هذا المجاز هو جعل المحل نائباً مناب الحال لإفادة التأكيد والإيجاز، والموسيقي. وذلك لأنا إذا أنعمنا النظر في هذه الكلمات ومعانيها المجازية وجدنا أنه لو قال بالتعبير الحقيقي لينذر أهل أم القرى، وليدع أهل نادية لما كان المراد منه الأهل كله باليقين، ولكن لما عبر عن ذلك بالمحل على طريق المجاز ومعلوم أن المحل يكون له إحاطة بما يكون حالاً فيه فهذا التعبير قد أفاد بالاختصار لينذر أهل أم القرى كله وليدع أهل نادية كله لايشذ منه فرد، ولفظ كله من كلمات التأكيد، وهكذا في التعبير السمآء دون الغمام .
ولو نضيف كلمة واحدة في العبارة لأخذ التعبير الحقيقي أو نبدل ونقول :
«لينذر أهل أم القرى»، و «نزل من الغمام مآء بقدر»، و«وكأين من أهل قرية أشد قوة»، و«فليدع أهل النادية» .
لذهب ذلك التأكيد والإيجاز الذي يحصل على التعبير المجازي. وعلا أنه يضطرب بنغم العبارة أيضًا يعني يفقد الانسجام اللفظي بصورة التغيير في التعبير.(83)
6 – «فَبَشَّرْنَاه بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ» (84)
إذا نظرنا إلى كلمة «حليم» فقد فكرنا كيف يكون المولود حليمًا، لأن الحلم من الصفات التي تكون في الشباب لا في زمن الصغر. ولفظ الغلام إنما يطلق على الصغير. فلا نسطيع أن نأخذ هذه الكلمة إلا في المعنى المجازي. فما العلاقة بين الغلام والرجل؟ ولا شك أن الغلام يكون في المستقبل رجلاً حليمًا لو بقى حيًا. فأطلق اللفظ الدال على ما سيكون، بينما المقصود ما كان عليه قبل ذلك أي أريد به الرجل الحليم، والعلاقة هي باعتبار ما يكون.(85)
ومن قبيل هذه العلاقة أتت آيات عديدة منها:
«نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ» (86)، و«لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا» (87)، و«إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا» (88).
هل المولود «عليم، وفاجرا كفارا، والخمر تُعصَر»؟ لا، بل يكون المولود في المستقبل رجلاً عليمًا أو فاجرًا كفارًا، والعنب يؤول خمرًا بالعصير فالعلاقة هي اعتبار ما يكون.(89)
وبهجة هذا التعبير المجازي هي تحقق وقوعه، وأن ما سيقع كالواقع مبالغة(90). كأن المبالغة والتأكيد صفتان تتخصصان هذا التعبير. ولو بدلت هذا التعبير وقيل:
«فبشرناه بغلام سيكون حليمًا»
و «نبشرك بغلام سيكون عليمًا»
«ولايلدوا إلا أن سيكون فاجرًا كفارًا»
و«إنى أراني أعصر عنبًا سيكون خمرًا».
لذهب نغمها وإيجازها ومبالغتها، ولفقدت تلك البهجة التي توجد في التعبيرات المجازية .
8 – «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَآءِ رِزْقًا» (91)
يا أيها الناظر لو تفكر في كلمة «رزقاً» لوجدت أن الرزق لا ينزل من السماء بلا واسطة كما نزل المن والسلوى لبني إسرائيل من السماء، بل أن الرزق يحصل لنا بالمطر حسب السنة الإلهية، وإنما ينزل من السماء المطر الذي هو سبب الرزق، فالمراد ههنا من الرزق هو المطر بعلاقة هي المسببية، بأن ينزل من السماء مطرًا وينبت منه النبات ويحصل من النبات الرزق، كأن لفظ المسبب، «رزقاً» يذكر ويراد به السبب «مطرًا» .
وسر جمال هذا التعبير المجازي هو أنه يخيل للسامعين أنه لا زمن بين نزول المطر، وبين ظهور النبات والثمار التي هي الرزق، وأن الرزق محقق إذا نزل المطر، فأن الذي ينزل من السماء ليس بماء، وإنما هو رزق ينزل بين أيديهم(92).
وفي إتيان كلمة «رزقاً» موضع «مطرًا» الجمال اللفظي أيضًا موجود مثل الجمال المعنوي كما مرّ، وهو: أن في الرزق نبرات الأصوات من الأدنى إلى الأوسط يعني الحركات من السافل إلى العالي، فهذه النبرات ذات حسن كبير بخلاف المطر، إذ فيه نبرات الصوت من الأوسط إلى الأوسط، لايوجد فيه أيّ التدرج الذي يتخصص به كلمة، «رزقاً» وعلا ذلك ، رنة حرف «ق» من «رزقا» ذات شدة دون «ر» من «مطرًا». وفي كلمة الرزق العلوء بعد الانحدار وفي آخرها لفظ حنكي، وهذا ثابت أن الحروف الحنكية ذات قوة وشدة دون الآخر، أما المطر، فرنته اللفظي فهي من الأدنى إلى الأدنى، وهذه الرنة أنقص شدة مقابل رنة «رزقاً الآخر، أما المطر، فرنته اللفظىتُ لَهَا» .
ومن هذه العلاقة المسببية :
«وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا» (93)، و«قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً» (94) و «فَأخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَراتِ» (95) .
إذ بعد إمعان النظر في كلمة نارًا، ولباساً والثمرات، نجد أننا لانستطيع أن نأخذ من هذه الكلمات المعاني الحقيقية، لأننا لانأكل نارًا، ولا ينزل من السماء لباس، ولاثمرات، بل أنها تعبيرات مجازية. وبهجة حسنها هي: أن الذين يأكلون أموال اليتامى فهم في الحقيقة ينهبون أموال اليتامى فعبر أولاً عن النهب بالأكل، لأنه مسبب عن النهب والأخذ، وعبر ثانياً، عن هذا الأكل بأنه ليس أكل مال، وإنما أكل نار، والنار لا تؤكل وإنما يصلاها الظالمون، فهي مسببة عن أكل أموال اليتامى، والسر في المجاز هنا هو التنفير من مس مال اليتامى، وأن يتصور الوصي أنه لا يأكل مالاً، وإنما يأكل نارًا.
«وفي أنزلنا عليكم لباساً»، اللباس مسبب للمطر أي ينزل المطر من السماء الذي هو سبب لإنبات النباتات التي منها القطن، ومن القطن يصنع اللباس . وفي هذا التعبير المجازي يخيل للسامعين أن بين نزول المطر وإعداد القطن للباس ليست مدة، وإن اللباس يحصل إذا ينزل المطر. هذا، وفيه جدة وتأنق أيضًا، وهما من صفات الجمال.
وهكذا المثال الثالث :
«فاخرج به من الثمرات»، إذ بعد نزول المطر وإرواء الأرض من الماء ينبت النبات وبعد نشأة هذا النبات ونموه تثمر الأشجار وبعد اليناعة نحن نستطيع أن نأكلها، فالعلاقة بين الماء والثمرات هي السببية والمسببية(96). وإنما علاقة السببية والمسببية توصلنا إلى اليقين بأن هذا الأمر واقع لامحالة. والحق اليقين من ميزة الجمال كما أن الوهم والظن ميزة ضد الجمال وهو القبح .
8 – «يَدُ اللّهِ فَوقَ أَيدِيهِمْ» (97)
انظر إلى كلمة «يد». أتريد بها اليد الحقيقية؟ لا، لأنه تعالى قد أراد بها القوة والنعم. والعلاقة بين اليد والقوة والنعم هي السببية، لأن اليد من أظهر أسباب القوة والنعم فأطلق السبب على الكلمة «يد» وأريد منها المسبب «قوة» ومنها :
«فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ» (98)، و«وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّاصَفّاً» (99) .
وفي كلمة «أيدي» علاقة سببية، لأن الأيادي سبب لصدور الأعمال وكسبها، والإنسان مسبب، وفي كلمة ربك علاقة سببية، لأن الله تبارك وتعالى سبب لإنفاذ الأمر والأمر مسبب.(100)
والجمال في هذه التعبيرات المجازية هو الانسجام اللفظي الذي هو علامة الجمال الباهرة وإذا نضيف كلمة أو ننقص كلمة عن هذه التعبيرات أي .
«بما كسبتم» يعني «كنتم تكسبون» و «جاء أمر ربك» .
لفُقِد جمالُها وحسنها، وحصل لنا الكلام المعروف الذي لا تنشأ منه أيّة لذة ورونق وأن التوازن وترجيع الحركات، خاصة لهذه التعبيرات. وهذا هو الوجه الذي نرجع به أن نأخذ من العبارات التعبيرات المجازية دون الحقيقية لأن في التعبيرات الحقيقية قلة الإنتباه وقلة رونق الجمال في هذه المقامات .
وقصارى القول ، أن مجــاز المـرسل يُعْتَبر أحد الأساليب البيـانيــة الراقيــة للتعبـير عن المعاني، إذ بواسطته تـبرز المهارة في تخير العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، إضافة إلى أن هــذا الأسلوب هو الطريقــة الفضلى للــوصـول إلى المبالغــة بألفاظ موجزة . وتبرز الأهمية في قدرة الشاعر أو الأديب على تحرير اللفظ من مدلوله الأصلى، إلى مجلول جديد يبعث على التأمل، ويستشير الخيال والتفكير، ويشرع للمعاني آفاقًا عريضةً، ترتاح لها النفس، ويستسيغها الذوق، لما فيها من توسيع للغة، وافتنان في التعبير،(101) ووحيد ومنفرد في جماله وروعته وأن تلك الألوان والتنوعات التي تمتاز بها علاقات المجاز المرسل لاتكاد توجد في أساليب البيان الأخر. وأن الرغبة التي تنشأ في هذا المجاز لايمكن أن تتحقق في الفنون الأخرى. وهذا هو الوجه بأنّي تاركة الباقية من الأمثلة للمجاز المرسل إلى القاري والسامع أن يحكم بأنّي صادقة في بيان جماله وأخذ لذته أم كاذبة؟
* * *
الهوامش والمراجع:
- النساء : 92 .
- آلوسي : 5/113 .
- المنطق : محمود رضا مظفر: ج:1، ص:59 ، 60 .
- الطلاق : 12 .
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية : مصطفى صادق الرافعي، ص: 23.
- الأنعام : 115 .
- الأنفال : 2 .
- الإسراء: 107 .
- الغافر: 19 .
- البقرة : 43 .
- الرحمن : 2 .
- البرهان : 2/266 .
- طه : 74 .
- د/محمد موسى: التصوير البياني، ص:357 . مكتبة وهبة، القاهرة ، البرهان :2/280.
- البقرة : 232 .
- النساء : 2 .
- د/ محمد موسى: التصوير البياني، ص:357 . مكتبة وهبة ، القاهرة ، الكشاف : 1/373 .
- الأنبياء : 82 .
- شوقي ضيف: البلاغة تطور وتاريخ، ص:213 . دارالمعارف .
- الأعراف : 60 .
- الكهف : 28 .
- مريم : 39 .
- سبا : 15 .
- الحاقة : 9.
- إعراب القرآن : 3-4/271 .
- المعاني في ضوء أساليب القرآن ص:258 .
- الحج : 48 .
- الشورى : 7 .
- الزخرف : 11 .
- محمد : 13 .
- العلق : 17 .
- النسفي : 4/105 .
- د/ عبد الفتاح لاشين: البيان في ضوء أساليب القرآن ص: 152 .
- الصافات : 101 .
- البرهان: 2/279، د/ على جميل سلوم زد/ حسن نورالدين : الدليل إلى البلاغة، ص: 136 . دارالعلوم العربية، بيروت ، لبنان .
- الحجر : 53 .
- نوح : 27 .
- يوسف : 36 .
- الإيضاح : 192 ، المعاني في ضوء أساليب القرآن: 259، البرهان : 2/289 .
- الغافر : 13 .
- المعاني في ضوء أساليب القرآن: 259، إعراب القرآن: 25/37 .
- أسرار البيان : ص:121 .
- النساء : 10 .
- الأعراف : 26 .
- إبراهيم : 32 .
- الفتح : 10 .
- الشورى : 30 .
- الفجر : 22 .
- شوقي ضيف: البلاغة تطور وتاريخ: ص:213. دارالمعارف .
- القامسي : 17/2155 .
- د/غازي يموت: علم أساليب البيان، ص:231. بيروت دارالأصالة 1403-1983 .
* * *
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم .
- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي، العلامة عبد الرحمن جلال الدين القاهرة: مطبعة الحجازي: 1360هـ/1941م.
- أساس البلاغة : الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، بيروت، لبنان، دارصادر: 1385هـ/1965م .
- أسرار البلاغة : الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن، القاهرة، مطبعة الاستقامة .
- الإشارة إلى الإيجاز بعض أنواع المجاز : ابن سلام، أبومحمد عزالدين بن عبد العزيز، بشاور، باكستان: مكتبة توحيد وسنة : محله جنكى .
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية : الرابعي، مصطفى صادق، بيروت، لبنان، دارالكتاب العربي .
- إعراب القرآن وصرفه وبيانه : محمود صافي، ايران: انتشارات مدين، مطبعة النهضة، قم 1411هـ/ 1990م .
- الأعلام : الزركلي، خيرالدين، بيروت، لبنان: قاموس التراجم دارالعلوم للملايين .
- الإيضاح في علوم القرآن: الخطيب القزويني . دارالكتاب العربي .
- البيان : عبد العزيز عتيق، رياض: مكتبة المعارف 1966م.
- البيان في ضوء أساليب القرآن: د. عبد الفتاح لاشين، درالمعارف .
- البرهان في علوم القرآن: الزركشي، بدر الدين عمر بن عبد الله، تحقيق: محمد أبوالفضل ابراهيم، القاهرة: درالتراث .
- البلاغة تطوره وتاريخ: د. شوقي ضيف، دارالمعارف .
- البلاغة الواضحة : علي الجارم ومصطفى أمين، مصر: دارالمعارف، مؤسسة البعثة .
- تارج العروس : الزبيدي، سيد محمد مرتضى، دارالفكر .
- التصوير البياني: د/ محمد موسى، مكتبة وهبة، القاهرة.
- التعبير الفني في القرآن : د. بكري شيخ، دارالشروق .
- تلخيص المفتاح : قزويني، عبد الرحمن، ملتان: كتب خانه مجيدية .
- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع : سيد أحمد الهاشمي بك . مكتبة مصطفى .
- دلائل الإعجاز : الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن، تحقيق: سيد محمد رشيد رضا، مصر، مكتبة القاهرة .
- الدليل إلى البلاغة، دارالعلوم العربية، بيروت، لبنان: د/ علي جميل سلوم زد/ حسن نورالدين :
- ديوان امرئ القيس : امرؤالقيس، ابن حجر بن الحارث بن عمر بن حجر، تحقيق: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، بيروت، لبنان، دارالكتب العلمية، 1402هـ/1982م .
- ديوان بحتري: بحتري، أبو عباد الوليد بن عبيد، بيروت: دار صادر، 1381هـ/1962م .
- الطراز : العلوي ، السعودية .
- علم أساليب البيان : غازي يموت: بيروت دارالأصالة.
- علوم البلاغة : أحمد مصطفى المراغي. دارالقلم، بيروت، لبنان .
- الكشاف : الزمخشري، أبوالقاسم محمود بن عمر، مصر، مكتبة شركة، مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1367م .
- لسان العرب: ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، بيروت، لبنان، دارصادر، 1388هـ/1961م .
- مرآة الجنان : اليافعي، حيدر آباد، باكستان، 1334هـ.
- المصباح المنير: أحمد بن أحمد بن علي الفيومي. دارالمعارف.
- المعاني في ضوء أساليب القرآن: د. عبد الفتاح لا شين، دارالمعارف .
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى، مكتبة المكرمة، دارالباز .
- مفتاح العلوم: السكاكي، يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي، بيروت، لبنان: المكتبة العلمية الجديدة .
- من أساليب البيان في القرآن الكريم: محمد علي أبو حمده، عمان: مكتبة الرسالة الحديثة 1403هـ /1982م .
- المنار: سيد رشيد رضا. مصر، مكتبة شركة، مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1367م .
- المنطق: محمد رضا المظفر، بيروت، لبنان: دارالتعارف 1400هـ / 1980 .
* غازي يموت: بيروت دارالأصالة * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.