إلى رحمة الله
يفقد الناس كل يوم أناسًا كثيرين ؛ فاعتادوا فقدَ الأقارب والأباعد ؛ فأصبح الفقدُ شيئًا عاديًّا، لايثير انتباهًا، ولايسترعي التفاتاً ، ولا يغيّر من رتابة الحياة ؛ ولكن بعضَ الناس يمتازون بصفات غالية في حياتهم ، تجعلهم يشمخون على الأرض شموخ الجبال ، فإذا ماتوا شعر الناس أنهم فقدوا جبلاً شامخًا من الجبال الراسيات .
كان الأمير السعودي سعد بن خالد بن محمد بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله – الذي وافاه الأجل خلال تلقيه العلاجَ بالولايات المتحدة يوم الثلاثاء : 18/ رمضان 1427هـ (بالتقويم العربي) 16/ رمضان 1427هـ بالتقويم الهندي الموافق 10/ أكتوبر 2006م . وصُلِّيَ عليه فجر يوم الجمعة : 21/ رمضان 1427هـ الموافق 13/ أكتوبر 2006م بجامع الإمام تركي بن عبد الله الكبير بمدينة الرياض – من ذلك الطراز الفريد الذي بفقده يشعر الإنسان أنه فقد كلَّ شيء حوله من الزينة والجمال والفضيلة والكمال .
لقد كان – رحمه الله – جامعًا للفضائل والشمائل التي تنحت من الإنسان إنسانًا يحبه كل إنسان ويغبطه الملائكة . ولقد كانت مسيرة مرضه وعلاجه علامة بارزة من علامات مروءته وشهامته ؛ فقد كتب عددٌ من الذين تحدّثوا عنه عبر كتاباتهم : أنه رحمه الله قصد الولايات المتحدة لإجراء بعض الفحوصات الطبية التي رآها لازمة بعد ما كان قد شعر بالأمراض في جسده؛ ولكنه قبل أن تظهر النتائج للتحليلات الطبية فُجِعَ بنعي وفاة الملك فهد – رحمه الله – فعاد أدراجَه إلى المملكة ناسيًا نفسَه وأمراضَها فعلاجَها ، يشارك الأسرة الملكية والشعب السعوديَّ كلَّه الهمَّ الكبيرَ والحزنَ العميق .. ومضى الوقت الكافي الذي أَثـَّرت فيه الأمراض على صحّته وفعلت في الجسم فعلَها ، وتفاقمت جدًّا ؛ فأَلَحَّ عليه أبناؤه البررة الكرام للعلاج ، فعاد إلى الولايات المتحدة يصارع الأمراضَ ، حتى انتقل إلى رحمة الله ؛ فعاد إلى وطنه الغالي ميّتًا ، ولم يُقَدَّرْ له أن يعود حيًّا . رحمه الله وأجزل مثوبته في الآخرة .
كان الأمير سعد في هذا الزمن العصيب الذي جرَّدت فيه الحضارةُ الغربيّةُ الإنسانَ من إنسانيته ، إنسانًا في أسمى معانية ، الأمر الذي يعجز القلم عن وصفه ويضعف اللسان عن بيانه . كان رجل الرجولة ومعالي الأمور ، وعُجِنَت طينته من الحسنات والبذل والسخاء وحبّ المساكين وتفريح الكربة عن المكروبين . وكان كريمًا بكل ما في الكلمة من معانٍ ودلالات وإشارات ، لايفارق الابتسامةُ محياه ويرقص الضحك على شفتيه كلما استقبل ضيفًا أو صديقًا أو محتاجًا أو طالبَ شفاعة أو راغبًا في توصية أو ملتمسًا لسدّ خلّة .
أجمع كل الذين عاشروه أو عاصره أو جلسوا إليه أو زاروه أو راجعوه لحاجة ما على أنهم لم يروا مثلَه في هذا العصر في الشهامة ، والمروءة والكرم ، والمحافظة الدقيقة على الوقت والوعد والواجبات ، والسلوك المستقيم ، والعادات العربية الأصيلة ، وجملة مكارم الأخلاق التي بدونها يبقى الإنسان مجرد صورة من اللحم والدم . وكان يميزه عن معاصريه تمييزًا واضحًا الوفاءُ اللامحدود بالقول وبمعنى الخلة ، والصفاءُ والصداقةُ ، وتواضعُه الجم ، ووصلُه للأرحام ، وحبُّه للخير في كل مكان .
وكان على سيرة السلف الصالحين وعباد الله المتقين، من النوم مبكرًا في الليل والنهوض في الهزيع الأخير من الليل لصلاة الليل ثم أداء الفجر بالجماعة في المسجد . وكان معتادًا للجلوس بعد صلاة الفجر لاستقبال الزوّار والضيوف وكان يشارك في الوجبات الثلاث : الإفطار، والغداء، والعشاء عددًا من الضيوف والزوّار والفقراء والمساكين والعلماء والمشايخ ووجهاء القبائل. وكان قصره مفتوحاً كل وقت إلاّ وقت النوم في الليل والنهار للزوار والجلساء والمساكين والفقراء وطلاّب الحاجة .
والأحسنُ من ذلك كله أنه كن يمقت الأضواء ويحبّ الستر والخفاء ؛ فكانت أعماله الخيرية كلها تتّسم بالصمت والستر ، وكان يتعب نفسه لتفقد أحوال ذوي الحاجة ذهابًا وإيابًا، والمحتاجون والثكالى واليتامى كانوا يجدون ضروراتهم وهم قابعون في بيوتهم دون أن يضيعوا ماء وجوههم .
في دنيانا هذه تعوّد الناس الشهرةَ الكاذبةَ والتصفيقَ ولتطبيلَ ، فإذا أنفقوا بيسةً يحبون أن تلتقط صورُهم ، وتطبعها الصحف والمجلات وتنشرها أجهزة التلفاز والراديو؛ ليطلّع عليها القريب والبعيد، لكي يُثْنُوا عليه ويحمدوه ، ويذكروه في كل مكان : فمثل الشيخ سعد علامة حيّة شاخصة للعظمة والكبرياء الإسلامية والأريحية العربية والأخلاق النبيلة التي أراد الإسلام أن يغرسها في أبنائه . ومن هنا حزن عليه العامة والخاصّة حزن من فُجِعَ في وحيده . لقد كان حقًّا يحب الجميع فكان يحبه الجميع .
إن الأمير سعد كان ممن يموت بموته خلق كثير كان يَحْيَى بصلاته وهباته . وموتُ مثله ليس موتَ واحدٍ من البشر، وإنما هو موتُ آلاف من الناس ؛ ولكن ما يُعَزِّي في مثله أن ألسنة لاتُحْصَىٰ تدعو له وتتضرع إلى الله تعالى بأن يمنّ عليه بالمغفرة والسلوان .
وذلك هو شأن كل مسلم صالح حيّ يموت، لأنّ حياته إنما تكون وقفًا على نفع الناس، فإذا مات ، تكون وقفًا على الدعاء له كلُّ الألسنة التي انتفع أصحابها به في حياته ؛ فمثلُه يحظى بحبّ الخلق في حياته وبدعائه بعد مماته ! فهو سعيد حيًّا وميّتًا . اللهم اجعلنا منهم ، ولاتجعل من الذين يشقون أحياءً وأمواتًا .
الله اغفر عبدك الصالح الأمير سعد بن خالد، وأدخله جنتك العليا ، وألهم أولاده : خالدًا ومحمدًا وبندرًا وسلطانًا وجميع ذوي قرباه ومحبيه الصبر والسلوان .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.