دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم
عنى علماء الحـديث بروايـة الحديث ودرايته ، وبتحمله وأدائه فأولوا هذا العلم عناية فائقة ، وأعطوه حقه في التلقي والتحديث ووضّحوا ما ينبغي على طالب الحديث أن يتحلّى به من الآداب.
وأول ذلك : أخلاص النية لله تعالى في طلب الحديث وأن يحذر طالب الحديث أن يتوصّل به إلى أغراض الدنيا ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله ﷺ : >من تعلم علمًا يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ؛ ليصيب بـه غرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة< رواه أبو داود وابن ماجة .
أي إنه لم يكن له من قصد في تعلّمه إلا غرض الحياة الدنيا ، وهذا النوع من الناس يشبه من يتاجر بدينه ؛ فهو يطلب به الدنيا وحدها مع أنه جُعل لطلب الآخرة ، وهو أفضل عمل لمن أراد الله والدار الآخـرة ، كما يقول حماد بن سلمة : من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به ، وقال سفيان الثوري : ما أعلم عملاً هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله تعالى .
وإخلاص النية في طلب الحديث تجعله عبادةً خالصة يُثاب عليها طالب الحديث وطلبه في الأصل عبادة ؛ بل فريضة ، ومن هنا كان الالتواء به إلى أغراض الدنيا وحدها دون الآخرة له هذا الوعيد الذي جاء في الحديث السابق : >.. لم يجد عرف الجنة يوم القيامة< ؛ بل إن إخلاص النية في طلب الحديث سبب ؛ لتنزّل الرحمات كما ذكر سيدنا رسول الله ﷺ . عن أبي عمرو بن نجيد أنه سأل أبا جعفر بن حمدان وكانا عبدين صالحين ، فقال له : بأي نية أكتب الحديث ؟ فقال : ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ قال: بلى ، قال: فرسول الله ﷺ رأس الصالحين .
– وبعد أن يخلص طالب الحديث نيَّته في طلبه عليه أن يتوجّه إلى ربّه – سبحانه وتعالى – بالدعاء، وأن يسأل الله أن يوفّقه فيه ، وأن يسدّد خطاه في تعلّمه وتحمّله ، وأخذه وتبليغه ، وروايته، وأن ييّسره له ويعينه عليه ، إذ أن طالب الحديث مفتقر إلى توفيق ربه وتسديد خطاه ، وإعانته حتى يتمكّن من حفظه وفهمه والعمل به.
– وبعد إخلاص النية والتوجّه إلى الله تعالى بالدعاء أن يسدده ويوفقه عليه أن يتحلّى بالأخلاق الفاضلة والآداب الكريمة ، وما ذلك إلا ؛ لأن طلب الحديث هو أعلى أمور هذا الدين؛ فلابد له أن يكون من خيرة الناس خُلقًا وأدبًا ، يقول >أبوعاصم النبيل<، من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ؛ فيجب أن يكون خير الناس .
– وعلى طالب الحديث أن يبذل أقصى مافي وسعه في تحصيله بدقة وأمانة وإتقان وأن يغتنم كل وقت أو حال يمكنه فيه أن يحصل الحديث متجمّلاً بالصبر والجلد دؤوبًا في طلبه وتحمله يقول الإمام >الشافعي< – رحمه الله تعالى – لايطلب هذا العلم من يطلبه بالتملّل وغنى النفس فيفلح ؛ ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم أفلح ، يريد بذلك التواضع والصبر والدأب وتحمّل المشاق في طلبه .
– وعلى طالب الحديث أن يبادر إلى السماع والأخذ عن أرجح شيوخ بلده إسنادًا وعلمًا ودينًا متحريًا سماع الأسانيد العالية ، ومن تفرد منهم بشيء أخذه أولاً ، فإذا استوعب مافي بلده انتقل إلى أقرب البلاد إليه أو إلى أعلى ما يوجد في البلاد . وذلك هو ما عرف لدى المحدثين بالرحلة في طلب الحديث .
– ولكن لايبدأ في الرحلة إلا بعد أن يستوفي السماع من أرجح شيوخ بلده مبتدئًا بأفرادهم ، فمن تفرد بشيء أخذه عنه أولاً فإذا ما انتهى من سماعه منهم وأخذه عنهم؛ فليرحل إلى البلاد ؛ لأن المقصود بالرحلة أمران :
الأول: تحصيل علو الإسناد وقدم السماع .
والثاني : لقاء الحُفّاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم فإذا كان الأمران موجودين في بلده ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة(1).
وليست ثمرة الرحلة مقصورة على أخذ العلم وطلب علو الإسناد ؛ بل إنها إلى جانب هذا وذاك عبادة وفيها خير كثير في دنيا الناس وآخرتهم وبها يدفع الله سبحانه البلاء عن عباده ، فهي جهاد في سبيل ترسيخ قواعد هذا العلم وتوثيق مبادئه وأصوله، يقول >إبراهيم بن أدهم< – رحمه الله –: إن الله ليدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث(2).
بل إن الرحلة في طلب الحديث كانتْ لدى سلفنا من الأهميّة بمكان بحيث كان أحدهم يرحل من أجل حديث واحد أو من أجل التأكد والاحتياط في صحة نسبته إلى رسول الله – ﷺ – عن >عبدالله بن محمد بن عقيل< عن >جابر بن عبد الله< قال: بلغني حديث عن رسول الله – ﷺ – لم أسمعه . فابتعت بعيرًا فشددت عليه رحلي وسرت شهرًا حتى قدمت الشام فأتيت >عبد الله بن أنيس< فقلت للبوّاب : قل له: >جابر< على الباب، فأتاه. فقال له : >جابر بن عبد الله<؟ فأتاني فقال لي: أنت >جابر بن عبدالله< فقلت : نعم ، فرجع فأخبره، فقام يطأ ثوبه حتى لقيني ، فاعتنقني واعتنقته فقلت : حديث بلغني عنك سمعتَه من رسول الله في القصاص ، لم أسمعه فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فقال: سمعت رسول الله – ﷺ – يقول : >يحشر الله العباد<، أو قال: >الناس عراةً غُرلاً بهما< ، قلنا: ما بهما؟ قال: >ليس معهم شيء، ثم يناديهم ربهم بصوت يسمعه من بعدكما، يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا أحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة<، قلنا : كيف وإنما نأتي الله عراة غرلاً بهما ؟ قال: >بالحسنات والسيئات<. رواه >البيهقي< في المدخل والخطيب في الجامع .
وروى أيضًا من طريق >عياش بن عباس عن واهب بن عبد الله المعافري< قال: قدم رجل من أصحاب النبي – ﷺ – من الأنصار على >مسلمة بن مخلد< قألقاه نائمًا ، فقال: أيقظوه ، قالوا : بلى، نتركه حتى يستيقظ ، قال: لست فاعلاً، فأيقظوا >مسلمة< له ، فرحّب به وقال: أنزل، قال: لا حتى ترسل إلى >عقبة بن عامر< لحاجة لي إليه، فأرسل إلى >عقبة<، فأتاه، فقال: هل سمعت رسول الله – ﷺ – يقول : >من وجد مسلمًا على عورة فستره فكأنما أحيا موؤدة من قبرها<، فقال >عقبة<: قد سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك .
وينبغي على طالب الحديث ألا يحمله الحرص على التساهل في السماع والتحمّل أو الإخلال بما يشترط عليه في ذلك ؛ فإن شهوة السماع لا نهاية لها ، ونهمة الطلب لا تنقضي .
وعليه أن يعمل بما يعلم وأن يطبق ويستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات والآداب وفضائل الأعمال؛ فذلك زكاة الحديث وسبب حفظه، قال >بشر بن الحارث الحافي<: يا أصحاب الحديث أدّوا زكاة هذا الحديث اعمَلوا من كل مائتى حديث بخمسة أحاديث ، وقال >عمرو بن قيس الملائي< رضي الله عنه: إذا بلغك شيء من الخير فاعمَلْ به ولو مرةً تكن من أهله، وقال وكيع : إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمَل به(3).
ومن إجلال الحديث والعلم إجلال الشيخ وتعظيمه وتوقيره، وألا يثقل عليه ولا يطول بحديث يضجره ؛ فإنه يخشى على من كان كذلك عدم الانتفاع ، وألا يكتم ما سمعه يقول >مالك< رضي الله عنه: >من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضًا<. ولكتمان العلم عاقبة أليمة ففي الحديث: >من علم علمًا فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار< ومن بلغ العلم ونشره حظِي بدعوة رسول الله ﷺ بنضرة الوجه لمن بلغ حديثه . وَألا يتقيد بسماعه ممن هو فوقه فحسب ؛ بل عليه ألا يأنف من أن يكتب عمّن دونه . قال >وكيع بن الجراح< : >لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه ، وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه< .
كذلك لا يكون الحياء مانعًا لطالب الحديث من التعلّم ومعرفة ما يحتاجه من العلم ولا يكون الكبر سببًا في تركه السؤال والاستفسار والتعلّم، يقول >مجاهد< رضي الله عنه : >لا يتعلم العلم مستحى ولا مستكبر<، وقالت السيدة >عائشة< – رضي الله عنها – : >نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين . وكما ينبغي على طالب الحديث ألا يترك طلبه بدافع الحياء أو الرغبة عنه، كذلك يجب عليه أن يكون تعلّمه خالصًا لاتشوبه شائبة الجدل والمراء والمباهاة ، قال >عمر< رضي الله عنه : >لا تتعلم العلم لثلاث ، ولا تتركه لثلاث : لا تتعلم ؛ لتمارى به ، ولا ترائى به ، ولا تباهى به ، ولا تتركه حياء من طلبه ، ولا زهادة فيه ولا رضًا بجهالة .
وعلى طالب الحديث أن يكتب ويسمع ما يقع إليه ولا ينتخب ، قال >ابن المبارك< رضي الله عنه : >ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت<، فإن دعتْه الحاجة إلى الانتقاء والانتخاب تولى ذلك بنفسه إن كان أهلاً لذلك عارفًا بما يصلح للاختيار، وأما إن كان قاصرًا عن ذلك استعان ببعض الحفاظ .. وعليه إذا اختار شيئًا أن يضع في الأصل علامة عند أول إسناد الأحاديث التي اختارها حتى إذا ما كانت هناك معارضة أمكنه الرجوع أو لاحتمال ذهاب الفرع؛ فيرجع إليه .
ولفهم الحديث ومعرفته معرفة صحيحة أكبر الأثر في الاستفادة منه ، أما الاقتصار على سماع الحديث أو كتابته دون العلم به ومعرفته ؛ فهذا تعب بلا طائل تحته أنشد الأديب الفاضل >فارس ابن الحسين< :
يَا طَالِبَ العِلْمِ الــــذي
ذهبت بمدته الروايــــة
كُنْ فِي الرِوَايَةِ ذَا العِنَا
يَةِ بِالرِوَايَةِ وَالدِّرَايَـــــةِ
وَارْوِ القَلِيْلَ وَرَاعِــــــه
فَالعِلْمُ لَيْسَ لَه نِهَايَــة
وعلى طالب الحديث أن يقف على درجة الحديث صحةً أو حسنًا أو ضعفًا ، وأن يفقه معانيه وما يشتمل عليه من أحكام فقهية ، ولغة وإعراب وأسماء رجال مع التحقيق والتوثيق ؛ وليقدم العناية بالصحيحين ثم يسنن >أبي داود< وسنن >النسائي< وجامع >الترمذي< وصحيح >ابن خزيمة< و>ابن حبان< والسنن الكبرى >للبيهقي< ثم ما تمس الحاجة إليه من المسانيد ، والجوامع وأهم المسانيد: مسند >أحمد< وأهم الجوامع >الموطأ< ، ثم سائر الكتب المصنَّفة في الأحكام .
وأن يُعنـٰـى بكتب علل الحديث ككتاب العلل عن >أحمد بن حنبل< وكتاب العلل للدار قطني، وكتب الرجال وتواريخ المحدثين ومن أفضلها: >تاريخ البخاري الكبير< وكتاب الجرح والتعديل >لابن أبي حاتم< ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء ومن أكملها: >كتاب الإكمال لأبي نصر ابن ماكولا< .
وليكن حفظ الحديث بالتدريج قليلاً قليلاً ؛ فذلك أثبت للفظ، ومن أقوى وسائل الحفظ والتثبّت المذاكرة بما يحفظه، قال >علقمة النخعي<: تذاكروا الحديث ؛ فإن حياته ذكره . وعليه أيضًا أن يشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إذا تأهل لذلك؛ فإنه يثبت الحفظ ؛ فإن الوقوف على غوامض الحديث وإيضاح الخفي منه لا يتأتى إلا لمن قام بذلك .
آداب المحدث :
إن علم الحديث أهم العلوم وأشرفها، ورسالة أهله ضخمة وعظيمة؛ لذا كان على المحدث أن يتصف بمكارم الأخلاق ، وأكرم السجايا ، وأولى آداب المحدث : إخلاص النية وسلامتها، وطهارة القلب ونقاؤه من أغراض الدنيا؛ وليكن على حذر من حب الرياسة وعليه أن يحرص على التحلي بالتواضع والوقار، يقول >حماد بن زيد< أستغفر الله أن يكون لذكر الإسناد في القلب خيلاء .
وقد بحث العلماء تحديد السن الذي يحسن للمحدث أن يتصدّى فيه للتحديث فقال >ابن خلاد< إذا بلغ الخمسين؛ لأنها انتهاء الكهولة ، وفيها مجتمع الأشد قال: ولا ينكر عند الأربعين؛ لأنها حد الاستواء، ومنتهى الكمال، وعندها ينتهي عزم الإنسان وقوته ، ويتوفّر عقله ويجود رأيه .
ولكن هذا الرأى غير مسلّم به ؛ لأن كثيرين من المحدثين لم يبلغ هذا السن ونشر من العلم والحديث مالا يُحصى مثل : >عمر بن عبد العزيز< فقد تُوُفِّي ولم يكمل الأربعين و >سعيد بن جبير< لم يبلغ الخمسين ، و>مالك بن أنس< جلس للناس وهو ابن نيف وعشرين ، والأمام >الشافعي< أُخِذَ عنه العلم في سن الحداثة .
وعلق >ابن الصلاح< على رأى >ابن خلاد<: على أنه قاله فيمن يتصدى للتحديث ابتداء من نفسه ، من غير براعة في العلم تعجلت له قبل السن الذي ذكره، فهذا إنما ينبغي له ذلك بعد استيفاء السن المذكور؛ فإنه مظنة الاحتياج إلى ما عنده .
وأما الذين حدثوا في حداثة سنهم ؛ فذلك إنما كان لبراعتهم في العلم وحاجة الناس حينئذ إليهم أو ؛ لأنهم سُئلوا ذلك إما بصريح السؤال وإما بقرينة الحال(4).هـ.
والذي نرجّحه هو أنه متى احتاج المسلمون إلى أحد العلماء أو المحدثين وإلى ما عندهم من حديث أو علـم فللمتحـدث حينئـذ أن يجلس ويحدث الناس متى كان متمكّنًا من علمه جديرًا بالتحديث حافظاً فاهمًا قوي الحجة متثبتًا فيما يحدث الناس به.
وكما بحث العلماء في السن الذي إذا بلغه المحدث كان له أن يتصدى للتحديث فقد بحثوا أيضًا في السن الذي إذا بلغه المحدث أمسك عن التحديث فقال بعضهم :إنه ينبغي على المحدث أن يمسك عن التحديث إذا خاف أن يخلط بسبب الهرم أو الخرف أو العمى ، والناس يختلفون في ذلك ويتفاوتون على حسب اختلاف أحوالهم . وضبط بعضهم ذلك بسن الثمانين ؛ لأنه حد الهرم ، قال الشاعر:
إِن الثمـــانيــــــــنَ وَبَلَــــغْـتُهَــــا
قد أحوَجَتْ سمعي إلى ترجمان
ولكن إذا كان عقله ثابتًا ، فلا بأس أن يحدث، فقد حدث بعد الثمانين >أنس بن مالك<، و>سهل بن سعد<، و>عبد الله بن أبي أوفى< من الصحابة ، وحدث بعد ذلك أيضًا من التابعين : >شريح القاضي< و>مجاهد< والشعبي . ومن أتباع التابعين: >مالك< و>الليث< و>ابن عيينة<؛ بل حدّث بعض الصحابة بعد سن المائة مثل >حكيم بن حزام< وتحديثهم صحيح ماداموا ثابتين لم يخلطوا ولازمهم التوفيق والسلامة .
وعلى المحدث أن لا يحدث في حالة وجود من هو أولى منه بذلك . قال >يحيى بن معين< : إن الذي يحدث بالبلدة وفيها من هو أولى بالتحديث منه أحمق . وينبغي عليه إذا طلب منه ما يعلمه عند غيره في بلد أو عند غيره بإسناد أعلى من إسناده أو أرجح من وجه آخر؛ فعليه أن يعلمه به ويرشده إليه؛ فإن الدين النصيحة .
وإذا رأى أحدًا غير صحيح النية فلا يمتنع عن تحديثه ؛ لأنه يُرجـٰـى له بعد ذلك حصول النية وإخلاصها . قال >معمر<: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله ، وقال >الثـوري<: ما كان في النـاس أفضـل من طلب الحديث ، فقيـل : يطلبونه بغير نية ؟ فقال:طلبهم إياه نية.
وليكن حريصًا على نشر العلم ، وتعليم الغير ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ، وفي الحديث : >من أدّى إلى أمتي حــديثًا واحـدًا يقيم بــه سنــة أو يردّ به بدعــة فله الجنة< رواه الحاكم في الأربعين ، وحديث البيهقي عن >أبى ذر< رضي الله عنه >أمرنا رسول الله ﷺ ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونعلّم الناس السنن< ولقد كان في السلف الصالح – رضي الله عنهم – من يتألف الناس على حديثه منهم >عروة بن الزبير< – رضي الله عنهما – وذلك ابتغاء جزيل الأجر عند الله تعالى .
ولحديث سيدنا رسول الله ﷺ مكانته ومنزلته التي تقتضي من يحدث به أن يكون ذا هيئة كاملة في الطهارة والوقار ، ولقد كان الإمام >مالك بن أنس< رضي الله عنه إذا أراد أن يحدث توضأ ، وجلس على صدر فراشه ، وسرّح لحيته وتمكّن في جلوسه بوقار وهيبة وحدث ، فقيل له في ذلك؟ فقال : >أحب أن أعظّم حديث رسول الله ﷺ ولا أحدث إلا على طهارة متمكنًا< .
وكان – رضي الله عنه – يكره أن يحدث في الطريق، أو وهو قائم ، أو يستعجل وقال: >أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله – ﷺ – وروى عنه أيضًا أنه كان يغتسل لذلك ويتبخّر ويتطيّب، ويدعو إلى توقير مجلس الحديث فإذا رفع أحد صوته في مجلسه زجره وقال: >قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَتَرْفَعُوْا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ﴾ فَمَن رفع صوته عند حديث رسول الله ﷺ فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله ﷺ <.
وعلى المحدِّث أن يبدأ المجلس بشيء من القرآن وأن يبدأه ويختمه بتحميد الله تعالى والصلاة على النبي – ﷺ – وبدعاء يليق بالحال ، وأن يتمهل في الحديث فلا يسرده ولا يكون متعجلاً فيه ، ففي السرعة ما يمنع السامعين من فهم بعض الحديث وفي حديث البخاري عن >عروة< قال: جلس >أبو هريرة< إلى جنب حجرة >عائشة< وهي تصلي ، فجعل يحدث ، فلما فضت صلاتها قالت: ألا تعجب إلى هذا وحديثه أن النبي – ﷺ – إنما كان يحدث حديثًا لو عده العادّ أحصاه؟! وفي لفظ عند مسلم : أن رسول الله ﷺ لم يكن يسرد الحديث كسردكم، وفي رواية عند البيهقي . إنما كان حديثه فصلاً تفهمه القلوب.
وعلى المحدِّث إذا ذكر الرسول ﷺ صلّى الله عليه وإذا ذكر صحابي قال – رضي الله عنه – فإن كان ابن صحابي قال: رضي الله عنهما . يترحّم على الأئمة. وذكر حجة الإسلام >الغزالي< في كتاب >الأدب في الدين< آدابَ المحدث بأن يقصد الصدق، ويجتنب الكذب ويحدث بالمشهور، ويروى عن الثقات ، ويترك المناكير ولا يذكر ما جرى بين السلف ، ويعرف الزمان ، ويتحفظ من الزلل والتصحيف ، واللحن والتحريف ،ويدع المداعبة ويقلّل المشاغبة ،ويشكر النعمة إذ جُعِل في درجة الرسول ﷺ ، ويلزم التواضع(5).
* * *
الهوامش :
- تدريب الراوي .
- اختصار علوم الحديث .
- مقدمة ابن صلاح .
- مقدمة ابن صلاح ، تدريب الراوي .
- نقلاً عن قواعد التحديث للقاسمي .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير – مارس 2007م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 31.