الفكر الإسلامي
(محاضرات نخبة من العلماء وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض
معرفة الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في «تشاندافور»
بمديرية «شاه جهان فور» بولاية أترا براديش ، الهند)
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
طلاقة لسان الشيخ ويأس الأسقف :
وإجمال القول أنَّ طلاقة لسان الشيخ وقوَّة عارضته ويأس الأسقف وتشاؤمه آنذاك كان أمرًا مشهودًا . فلما انتهى الشيخ من كلمته أعلنَ الأسقف بأن يتقدّم علماء الهندوس ، ويُلْقُوا كلماتهم . فقام منهم عالم هندوسي إلى منصة الخطابة ، إلا أنَّ أسقفًا هِنْديًّا جالسًا بجنب الأسقف «نولس» تَدُلُّ جِلْسَتُه على أنَّ له الرتبة الثانية بعد الأسقف «نولس» – مالَ إلى الأسقف «نولس» وناجاه ، ويبدو أنه كانَ يقول له: «أريد أن أُلْقِِيَ خطبةً – غثًا كانت أو سمينًا – طردًا للعار ودفعًا لسوء السمعة، وإلا قِيْلَ أنَّ الأساقفة لم يجيبوا عن اعتراضات علماء المسلمين . فقال الأسقف: «إنَّ أسقفنا هذا يريد أن يتحدّثَ إليكم شيئًا ، فقال الشيخ : «حسنًا ، إذن نتحدّث نحن كذلك» .
المطلق والمقيّد :
وبعد نِقاشٍ يسيرٍ قام ذلك الأسقف الهندي وقال : «استدلَّ الشيخ بأدلّةٍ من المنطق كثيرةٍ ، والمنطق علم يبحث عن أمور كثيرة لايفهم معظمهما أحد من النّاس . والأدلّة على ضربين : أحدهما مطلك (مطلق) وثانيهما مكيّد (مقيد) فالمطلك (المطلق) ما يكون داخل الإطار، والمكيد (المقيد) ما يكون خارج الإطار» . فقد بلغت صحة اللفظ والمعنى في كلمته غايتها ؛ فكانَ يقول «الكاف» بدل «القاف» ويُعَرِّف المقيَّد بحدِّ المطلق ، والمطلق بحدِّ المقيَّد .
نظر الشيخ «رحيم الله» إلى الشيخ «فخر الحسن» والشيخ «محمود حسن» فتضاحكوا ، فأراد الشيخ محمد قاسم أن يقوم ويَرُدَّ على الأسقف ، وكان غرضه من وراء ذلك أن يقول للأسقف : «إنَّكَ لم تَرَ علماء المنطق ، وإنه يُوْجَدُ علماء – بفضل الله ومشيئته – يستطيعون أن يخترعوا المنطق من جديد، بلْهَ فهم مسائله» فمنعه الشيخ «أحمد علي» النكينوي قائلاً : من تقوم للردّ عليه والنقاش معه؟ فقد حَصْحَصَ الحق ؛ فلا حاجةَ إلى ذلك أصلاً .
كان ذلك في نهاية الاجتماع ، وقالَ الشيخ محمد قاسم : «كيف اجترأ الأسقف على الاعتراض على مثال البراز ؛ فإنَّ إلهه ليس منزَّهًا عن البول والبراز». لم يذكر الشيخ ذلك أثناء خطبته إما تفاديًا من الإساءة إلى أحد ، وإما لم يحضره آنذاك .
ثم جاء دور علماء الهندوس ، فألقوا كلماتهم، حتى كانت الساعة الثانية ، فقام منهم عالم هندوسي ، تقدّم ذكره ، وقدَّم مقالةً مكتوبةً بالخط الناغوري ، ولم يفهم معظم مضمونها علماء المسلمين لكونها باللغة السنسكرتية .
وكلُّ ما فهمته وأذكره هو أنه جاء فيها «لاينبغي أن تتطرق الأهواء إلى المناقشات» كما جاء فيها «وما استدلَّ به الأسقف من كثرة ترجمات الإنجيل يعني أنه إذا كان الشيء أكثر عددًا كان أفضلَ ؛ فحشرات الأرض أكثر عددًا من بني آدم؛ فهل هي عادت أفضل منهم». أو قال ذلك بشكل شَفَويٍ . وأذكر أن العالم الهندوسي قال آنذاك مشيرًا إلى الشيخ «محمد قاسم» : «أنا أسأل الشيخ ماهي الأمور التي يُحْتَاج إليها النبوة؛ فقال الأسقف – قبل أن يرد الشيخ – : «قد سبق أن أوضح الشيخ أثناء خطبته أن النبوة تحتاج إلى الأخلاق» وأجابَ الشخ بنفس الإجابة .
لاذ العالم الهندوسي بالصمت بعد كُليمات ، ثم قام عالم هندوسي آخر وقرأ مقالةً طويلةَ النَّفَسِ مكتوبةً بالخط الناغوري كانت معظم كلماتها من اللغة السنسكرتية ، كما كانت بعض الأبيات في هذه اللغة ؛ فلم يتمكن علماء المسلمين من فهمها كلَّ الفهم ، وكلُّ ما فهمناه هو أنه أنحى صاحبها باللائمة على الهندوس في شأن أقوالهم وأعمالهم ، ولم يكن فيها من العلم شيءٌ يُذْكر .
حِلَّة اللحم :
ثم قرأ المنشئ «بيارى لال» مقالةً جاء فيها أنَّ أكل لحوم الحيوانات ظلم ، وأنَّ المسلمين لا يأكلون صيد الحرم ؛ فعُلِمَ أنَّ أكل اللحم لايجوز عندهم كذلك . فَردَّ الشيخ «أحمد حسن» عليه قائلاً: الظلم عبارة عن أن يتصرف أحد في شيء بدون إذنٍ من صاحبه ، فإذا تصرف فيه بإذن من صاحبه فليس بظلم ، فنحن المسلمين نأكل لحوم الحيوانات بإذنٍ من صاحبها ، وهو الله تعالى . وأما حيوانات الحرم فمثلها كمثل رجلٍ يحب الحيوانات التي تعيش في ديار حبيبه ، ولا يأكل لحومها مع كونها حلالاً .
إجابة الأسقف «نولس» :
ثم قام الأسقف «نولس» وقال : يشتد البرد في بعض الأقاليم في الشمال ؛ فلا تُنبت أرضها زرعًا ولا نباتًا ، وتوجد فيها الحيوانات ، ويسكن فيها الناس ، فإن لم يحل لهم لحوم رد في بعض الأقاليم في الشمال ؛ فلا تُنبت أرضها زرعًا ولا نباتًا ، وتوجد فيها الحيوانات ، ويسكن فيها الناس ، فإن الحيوانات هلكوا جميعًا ، وبعيد عن رحمة الله أن يخلق النّاس في أرضٍ ولايخلق لهم الغذاء ، فغذاؤهم هو هذه اللحوم ، فإن لم تَحِلَّ لهم ماتوا جوعًا .
نهاية الاجتماع :
ثم انتهى الاجتماع ، وقيل لعلماء المسلمين : «إنه لا تجري المناقشات والمناظرات غدًا». فقام الشيخ «محمد قاسم» وأقبل على الأسقف ، وقال له: «نشكركم على خلقكم ، ونستأذنكم للذهاب الآن» وقال الأسقف : «نحن أُعْجِبْنَا بأخلاقكم جدًا» فتبادلا التعريف ، فقال الشيخ «محمدقاسم»: «اسمي «خورشيد حسين» وأنا من مديرية سهارنفور» .
انتصر الشيخ ذو الإزار الأزرق :
فُضَّ عِقْد الاجتماع ، فما إن خرج الشيخ «محمد قاسم» حتى أحاط به الناس من المسلمين والهندوس إحاطة السوار بالمعصم ، وكان المسلمون مسرورين جدًا ، وكان الهندوس كذلك، وكانوا يقولون : «لقد هَزَمَ الشيخ ذو الإزار الأزرق الأساقفة هزيمةً نكراء» . وجلس بجانب الشيخ ذلك العالم الهندوسي الذي كان قد وجَّهَ سؤالاً إلى الشيخ أثناء خطبته ، وقال له : «أريد من صميم قلبي أن أسأل عن شؤون الدين ، فإن كان أحد يسأل فليسأل من كان عالمًا بارعًا في الدين» . فقال الشيخ: «صدقتَ والله ! وأنا أرجوك أن تصدقني فيما أقول ، وترجعه إلى الصدق والنصيحة لا إلى العصبية والتشدق في الكلام ، وأما الطمانينة في شأن الدين فلا يتصور إلا أن نتعايش ونتعاشر شهرًا أو أكثر، ونتجادب أطراف الحديث في أمور الدين وقضاياه» فقال العالم الهندوسي: «نعم وكرامةً» ورضي بالتعايش معه ، ثم لم يُعْثَرْ له على أثر.
لم نسمع خطبًا وبحوثاً كاليوم :
وبعد قليل جاء الشيخ «موتي ميان» وقال: «كان الأساقفة يقولون: «وإن كان الشيخ «محمد قاسم» يلقي كلمته ضدَّنا إلا أنه من الإنصاف أننا لم نسمع خطبًا وبحوثاً كاليوم».
وأخبر الشيخ «أحمد علي» أنَّ الأساقفة كانوا يقولون فيما بينهم : «هُزِمْنَا نحن اليوم» .
وبعد صلاة العصر ذهب الشيخ ميرزا موحد إلى الأسقف «نولس» وخاض معه في أفانين من الحديث ، ثم قال له : «جاء في التوراة نصٌ على القدر، فلماذا جحدت بالقدر في الاجتماع؟» فقال الأسقف : «أجل! قد جاء في التوراة نص على القدر، إلا أننا نحن المسيحيين فرقتان ، فرقة تؤمن بالقدر ، وفرقة لاتؤمن به . ونحن من الذين لايؤمنون بالقدر».
وقد عَلِمَ أولو الألباب من قوله أنَّ اعتراضه على القدر ضدَّ الشيخ «محمد قاسم» ، والذي ردَّ عليه الشيخ ردًا مفحماً لم يكن مؤجّها إلى المسلمين فحسب ، وإنما إلى التوراة كذلك ، مما هدَمَ بنيان دينه أيضًا .
يدعو الشيخ «محمد قاسم» الأسقف «نولس» إلى الإسلام :
وبعد نهاية الاجتماع قال الشيخ محمد قاسم للشيخ «موتي ميان» : «أريد أن أخلو بالأسقف «نولس» وأدعوه إلى الإسلام» فقال الشيخ «موتي ميان» للأسقف : «شيخنا «محمد قاسم» يريد أن يخلوبك» فقال الأسقف: «حسنًا» .
ثم دخل الشيخ «محمد قاسم» خيمة الأسقف وقال له: «أنا أُعِجبْتُ بأخلاقك ، والأخلاق تدعو إلى المحبة ، والمحبة تبعث على النُّصح ؛ فأريد أن أقول لك شيئًا مما يعود عليك بالنفع وأن تلقي إليّ سمعك، فقال الأسقف : «قل ما بدا لك» فقال الشيخ : تُب عن المسيحية ، واعتنق الإسلام؛ فإن الدنيا لفانية ، وإن عذاب الله لشديد ، فقال الأسقف: «لا ريب» ثم عاد صامتًا . ثم قال الشيخ «محمد قاسم» : «إن كان لك شبهة حتى الآن فادع الله أن يُحِقَّ الحقَّ ، فإن كنت تدعو الله ضارعًا فالله يشرح صدرك للحق» فقال الأسقف: «أنا أدعو الله كلَّ يوم أن يشرح صدري للحق» فقال الشيخ محمد قاسم: أُدعُ الله بأن يشرح صدرك للدين الحق من بين الأديان المتنوعة ، وأن يُمَيِّز لك الحق من الباطل» فقال الأسقف : شكرًا لك على ما أسديت إليَّ من النصح ، ولن أنسى ذلك أبدًا».
معارضو الشيخ يعترفون بفضله :
وبعد ما انتهى الاجتماع جاءه الأسقف الذي كان قد اتهمه بنأي الجانب عن الحوار، وذلك قبيل العصر، وقال له : أتَيْتُكَ لمقابلتك ، وأستأذنك للذهاب» فقال الشيخ : «أحسنت إليَّ بمقابلتك» ثم تبادلا التعريف . ثم قال الأسقف : «ألقيتَ أيها الشيخ خطبةً رائعةً» فقال الشيخ : مثلي كما قال الشاعر الفارسي : «ربما يرمي صبي لم يستدّ ساعده، ويخطئ فيصيب الهدف» ثم حيّاه تحيةَ الوداع ، وأخذ طريقه . ثم قابله أساقفة آخرون وقالوا عن الشيخ مثلَ ما قال صاحبهم .
ناسك هندوسي يُبْدِي إعجابه بالشيخ :
فلما انتهى الاجتماع ، وغادر علماء المسلمين ومناظروهم المعرض كان الحضور من الهندوس يشيرون إليهم بالبنان قائلين : «هؤلاءهم» فما إن ساروا قليلاً حتى رأوا على غلوةٍ من قطار العجلات ناسِكاً هندوسيًا متنعلاً بالنعلَيْنِ الخَشَبِيَّتَيْنِ ، طويل الشعر، عاري الجسم ، بيده مِلْقَاطٌ طويل الساقين ، ومعه أتباعه ، فأشار هو إلى الشيخ . وقال لأتباعه: «هذا هو الشيخ» فحانت من الشيخ التفاتة إليه ، فسَلّمَ الناسك عليه، فتَلَفَّتَ إليه الشيخ وردَّ عليه السلام بيده . فلما رأى النّاسك التفات الشيخ إليه ، أسرع إلى عجلة الشيخ وأخذ بمؤخرتها وقال للسائق : «أوقف العجلة» فقال السائق لأصحاب العجلات الأخرى : أوقِفوا عجلاتكم ، فلما وقفت العجلات قال الناسك للشيخ : «أبليت أيها الشيخ! بلاءً عظيمًا» فقال الشيخ : «ما أبليت ، وإنما أبلى الله تعالى» فقال الناسك: «صدقت» ثم رفع الناسك يده وأشار بأصابعه ، وقَالَ: «لما ألقيت كلمتك رأيت جسم الأسقف قد أخذ يذوب أو قال يَقِلُّ» فقال له الشيخ : «أين كنت ساعتئذٍ» أكنت خارج الخيمة، قال: لا بل كنت داخل الخيمة» ثم سأله الشيخ عن اسمه، فقال: «اسمي جانكي داس» فقال له الشيخ : لقد شرَّفتني بمقدمك إلى الاجتماع ، فقال: نحنُ أبناؤك وبناتك» ثم سلّم وذهب .
الفضل ما شهدت به الأعداء :
اجتمع الشيخ السيد «ظهور الدين» البريلوي بالشيخ «محمد قاسم» في مدينة «أمروهه» وأخبره أنه قال المعلِّم كوئل (Goyal) الذي يعمل مدرسًا في المدرسة الإنجليزية في مدينة «شاهجانفور» : رأيت عالمًا كبيرًا من علماء المسلمين» . وقال السيد : سألتُ أسقفًا من الأساقفة لماذا لم تناقشوا ذلك اليوم؟ أجاب «لم يدع لنا الشيخ فرصةً للقول والمناقشة ، حتى إن أسقفنا «نولس» هو الآخر لم يحرجوابًا» .
وقال الشيخ عبد الوهاب البريلوي للشيخ محمد قاسم : إنه قابَلَ أسقفًا من الأساقفة ، فسألت عن اسمه وعنوانه ، فبدالي أنه هو الأسقف «أينج» (Ange) الذي كان قد عيَّر الشيخ بنأى الجانب ، والذي كان قد جاءه لمقابلته – فسأل الشيخ عبد الوهاب الأسقف عن ماجرايات الاجتماع ، فأجاب الأسقف أني حضرت في كثير من الاجتماعات ، وناظرت علماء المسلمين، غير أني ماسمعت خطبًا وبحوثاً مثل ذلك اليوم ولا رأيت عالمًا مثل ذلك العالم ، كان رجلاً نحيف الجسم ، وسخ الثياب ، لم يبدو أنه عالم ، وقلت في نفسي : ماذا عسى أن يقول ، غير أني لا أقول: إنه كان يقول الحق ، فلو كنا آمنا بخطبة أحد لآمنا بخطبته» .
ثم قال : «إن الأساقفة يُثيرون مسئلة القدر إذا أعيتهم الحيلة ، وانسَدَّت عليهم المسالك ، وقد لجأ الأسقف «نولس» إلى هذه الحيلة ، فأثار مسئلة القدر ، ولكن الرجل أفحمه وألجمه» .
رسول لا شيخ :
أخبر الشيخَ محمد أحسن في مدينة «بريلي» «رمضانُ خان» الذي يعمل مؤذنًا في المسجد الواقع بقرب منزل الشيخ محمد أحسن فقال له مشيرًا إلى الشيخ محمد قاسم في ذلك المسجد : «أصبح الشيخ محمد قاسم رسولاً» على حدّ ما قال الهندوس . فقد جاء أناس من الهندوس من مدينة «شاهجهانفور» يخبرون عن فعاليات الاجتماع ، ويقولون : «جاء من قبل المسلمين عالم نحيف الجسم ، وسخ الثياب، متأبط الإزار ، ألقى خطبةً لم يتمكن الأساقفة من الرد عليها» .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.