الأدب الإسلامي 

[2/2]

بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

       ثمّ عاد إلى الجني يستعطفه ، ويذكره أنَّه سبق أن أنقذه ، وأن المروءة تقتضيه أن يراعيَ ظرفه ، فينقذه من هذه الورطة التي أوقعه فيها ، وإن البنات كثر، وإنه يمكنه أن يختار واحدةً ليس لأبيها سلطة، ولا به جبروت ، خاصةً وأنه لايطلب مالاً، وإنما يتلذَّذ بهواية سخيفة ، لايقدم عليها إلا الأطفال أو ناقصي العقل، وأن متعته من هذه اللعبة لا تعادل ألمه هو في ما يتهدّده من خطر، وليس أشدّ من القتل.

       إلاّ أن الجني كان في صمم ، وكأن لايسمع، وكأن ما يقال ليس فيه منطق، وأخذ يردّد قوله إنّه وفىٰ بشرطه ، وأنه لا طريق له عليه، وإن من حقّه الآن أن يفعل ما يريد ، وفي لحظة يأس تذكر الفلاح الحل ، لقد انفتح الباب المغلق له، فصاح بالجني: «تخرج وإلاّ».

       فردّ الجني هازئًا : «وإلاّ ماذا؟»

       فقال الفلاح بلهجة تهديد واثق فيه : «وإلاّ ذهبتُ ، وأحضرتُ لك ضيفي».

       فارتعش الجني ، وشرق بريقه ، وقال: «بل أخرجُ ليس من البنت فقط ؛ ولكن من المدينة كلها».

       وهكذا نجح «البر نجي سبب» ولكنه السبب الذي زاد عن العدد ، ولم يكن أوّل العدد إلاّ فيما استعمل له .

       ونعود مرةً ثانيةً إلى الأسباب الرئيسة في بعض قصص تراثنا ، وما أكثرها .

       وتساءل رجل بسذاجة عن أمر، فجاءه الردّ دامغًا ، حمله تفسير رئيس واحد ، ومن سمع جواب السؤال لم يحتج إلى زيادة ، لأنَّ الجواب كافٍ :

       «قال رجل لخالد بن صفوان :

       ما لِي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليّ النوم ؟

       قال: لأنّك حمار في مسلاخ (جلد) إنسان».(1)

       لقد كان «خالد» قاسيًا في رده ؛ ولكنّ لعل له عذرًا في هذا ، فقد يكون هذا السائل له أسئلة سابقة مماثلة ، فامتلأ صدر خالد منه ، فأفرج ما به عليه بهذه الطريقة .

       وكثيرُ من الناس يجلب له سؤاله الساذج الأذى ، ويفاجأ بالجواب ، بعد أن يفوت الأوان لتدارك أذاه . وقد يقع في هذا أذكى الناس ؛ ولكن هذا قليل ، والأغلب يأتي من السذّج أمثال الذي سأل الإمام أبي حنيفة السؤال المشهور الذي انتهى بالجواب المشهور: «يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي».

       وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار سببًا رئيسًا يكتشف به خيانة عماله ، فهو لا يطلب تقارير مطولة ، ولا يرسل جواسيس مختفية ، ولا يبث عيونًا مترصدة ؛ ولكن الماء والطين هما كل ما يحتاج ليعرف ما عليه عماله .

       قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

       «لي على كل خائن أمنيان : الماء والطين».(2)

       كل شيء يمكن إخفاؤه إذا كان منقولاً، فمن السهل أن يخبأ الذهب ، ومن غير الصعب أن تخفى الفضة ، ومن الممكن أن تجب الرياش، ويُستر الأثاث ، إلاّ البيت؛ فإنه لايمكن تغطيته بغطاء يخفيه عن الأعين، والبيت عندما يبنيه العامل فهو المفتّش الأمين للخليفة «عمر»، هو المفتش الذي لايخون ولا يدلّس ولا يرائى ، لغتهُ فصيحة ، وصوته عالٍ ، لا تخطئه العين ، ولا يحتجب عن القلب .

       يذهب العامل حيث نصِّب ، فقيرًا مدقعًا، لا يملك أجار بيته إلا بالجهد والتعب، ولا يضمن قوت يومه يوميًا، فإذا مرّ به سنة أو ما إليها، «أبت الدراهم إلا أن تظهر أعناقها». أصبح له بيت، فإذا سئل من أين له هذا ؟ أجاب بأن بعضًا من هذا هدايا أهديت له ، وعطايا أتحف بها ، ووفرًا من رزقه ! فيقال عن الهدايا : أفلا جلست في بيت أمك ورأيت هل تأتيك الهدايا؟

       وهكذا يقف بطينه البيت شاهدًا على انحراف العامل ، وتقف المزرعة وما تسنبط فيها من ماء شاهدًا آخر، والاثنان يكونان الشاهد الرئيس الذي تنبه له عمر، وخدم عمر:

       «مر عمر ببناء بآجرّ وجصّ فقال : لمن هذه؟

       قالوا: لفلان .

       فقال: تأبى الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وشاطره ماله» (3).

       والأمرُ الرئيسُ يأتي باتفاق قوم عليه دون أن يعلموا أنهم أجمعوا عليه ، ولكنهم اتفقوا؛ لأنّ مجرى تفكيرهم سلك طريقًا واحدًا، وكان طريقًا صادقًا ومنطقًا، ولهذا كانت إصابة الهدف واحدةً :

       «قال الحجّاج لجلسائه :

       ليثبت كل منكم في رقعة أطيب الطعام عنده.

       ففعلوا ؛ فإذا في الرقاع كلّها الزبد والتمر» (4).

       وعندما يقول الحجاج لابن القرّيّة :

       «من أعقل الناس»؛ فإن المتوقعَ أن يعدد العقال، فيوضع على رأسهم أعقلهم، موسومًا بأن هذا ما جعله السبب الرئيس في الاختيار والتقرير؛ ولهذا جاء الجواب محددًا :

       «من يحسن المداراة مع أهل زمانه».(5)

       ولو حاولتَ أن تختار سببًا آخر، أو تعريفًا يقلع هذا من مكانه، ويثبت غيره فيه لما استطعتَ .

       ورغم أن هناك من قال: إن ابن القرّية لا وجود له، وإنما هو اسمٌ مخترعٌ، علقت عليه أقوالٌ كثيرة، فما يهمّنا هو هذه الأقوال، فبجانب القول السابق الرئيس وهو مختصر، هناك قول يسير على نمطه، ويمثل جوابًا رئيسًا مختصرًا :

       «قال الحجّاج لابن القرّيّة :

       أيّ الثمار أشهى ؟

       قال : الولد ، وهو من نخل الجنة» (6).

       ولكن هذا النمط من الاكتفاء بالجواب الرئيس ليس دائمًا هو المسيطر على الإجابات التي يتطلّع إليها سائل مثل الحجاج ؛ فقد يأتي الجواب من عاقل تغري إجابتُه الصادقة، وحكمتُه البليغة، بطلب مزيد من الأسباب، ولايكتفَى بالرئيس منها ليسمع ما هو محكم صادق :

       قال الحجاج لُخريم الناعم :

       ما النعمة ؟

       فقال : الأمن ؛ فإني رأيتُ الخائف لاينتفع بعيش.

       قال : زدني !

       قال : الصحّة ؛ فإني رأيتُ السقيم لا ينتفع بعيش.

       قال : زدني !

       قال : الغِنَى ؛ فإني رأيتُ الفقير لاينتفع بعيش.

       قال : زدني !

       قال : الشباب ؛ فإني رأيتُ الهرم لا ينتفع بعيش.

       قال : زدني !

       قال : لا أجد مزيدًا» (7).

       ولذّةُ الإجابة أغرت الحجاج بأن يطلب المزيد، فلا يكتفي بالأمن تعريفًا للنعمة، وقد استحلب الباقي استحلابًا حتى لم يبق في الضرع نقطة واحدة، وأعلن المسؤول ألاّ مزيد .

       وخلافًا للمدفعي، الذي أستعد بعشرة أسباب منعته من الرمي، واكتفى مُكَلِّمهُ بأوّل سبب، ما فعله أعرابي بتعريف النعمة دون أن يطلب منه ذلك، ولم يجد من يكتفي بأول تعريف ، بل أعطى ثلاثة التعاريف التي ذكرها في مستهل حديثه؛ وأردفها بدعاء، ولولا أنّ الدعاء خاتمة الحديث لأمكنه أن يزيد :

       «حضر أعرابيٌّ وليمةً ، فرأى نعمة، فقال:

       النعمُ ثلاث: نعمةٌ في حال كونها نعمةً، ونعمةٌ ترجى مستقبله، ونعمةٌ تأتي غير محتسبة؛ فأدام الله لك ما أنت فيه، وحقق ظنّك فيما ترجوه، وتفضل عليك بما لاتحتسبه» (8).

       ويأتي سبب رئيس واحد بصيغة جواب مجلجل، على أمر جلل ، فيكون سببًا رئيسًا كافيًا، بإقرار صاحبه بأنّه لايملك غيره ، وليس هناك سواه، وأنه يقف وحده شامخًا، يقف بما جيء به له، ولا يحتاج إلى معضد، أو سبب آخر يقف بجانبه، فيسنده :

       «طلق أبو الخِندف امرأتَه أم الخندف ، فقالت له:

       يا أبا الخندف ، طلقتني بعد خمسين سنة؟!

       فقال: ما لك عندي ذنب غيره» (9).

       إما أن يكون أبو الخندف قد شرب المرّ من أم الخندف ، وعيل صبره، ونَفَدَ تحمُّله ، فعمد إلى أقرب الحلال إلى الله، فأطلق سهمه، ورمى نبله، أو أنّ أبا الخندف طلق بطرًا ، ولم يرع العشرة، ولم يهتمّ بصحبة خمسين عامًا، هي مدة العِشرة الزوجية بينهما. وبدهشة أم الخندف نشعر أن أبا الخندف ظالمٌ، وكان بإمكانه – إن كان جيبه يسمح – أن يتزوج أخرى ، ونحن نضمن له أن هذا سوف يحقّق هدفه من الإِغاظة ، وإيذاء شعور أم الخندف أذى كافيًا بالغًا ؛ ولكن قد يكون أبا الخندف في حالة تستوجب أن يكشفَ على عقله ، فقد يكون في «قُفْشِ رأسه» ما يبرّر فعله ، ويبرئ ساحته، ويعفيه من اللوم!

       والعلمُ فوائده لا تحد ، ونفعهُ لا يكاد يحصر، وكلّ إنسان متعلم أو عالم يستفيد من العلم الفائدة التي يحتاجها، يستفيد منه اليوم مصدرَ رزق، وغدًا مصدرَ جاه ومكانة، وبعد غدٍ مصيدةَ ثواب وجزاء، وبعد أيام مخرجًا من مأزق، وبعد أسبوع مساعدة لمحتاج، وبعد شهر فتحَ باب دنيويّ أو أخرويّ، أمّا اليوم الذي تكلم فيه «اسحاق بن مرار الشيباني الكوفي» فقد كان السبب الرئيس في ذهنه له، أو لمن استفتاه كالآتي :

       كان «اسحاق بن مرار الشيباني الكوفي» يقول:

       «تعلّموا العلم؛ فإنه يوطئ الفقراء بسط الملوك» (10).

       هذاهو المستفاد الأول في ذهن «اسحاق» للعلم في هذه اللحظة ، وهو سبب رئيس ومهم ، فالعالم والحاكم هما العينان في وجه المجتمع ، وأن يطأ المرء بساط الملك فشرف لابدّ أن يكون لصاحبه ما يؤهّله له، ويَبُزُّ به غيره، والعلمُ هو المرتقى، هو القوّة التي تساعد على الصعود إلى بلاط الملك، وهي الجواز من باب السلطان، وهي الأداة لتنحية الحارس عن الطريق. أفلا يكفي أن يكون هذا سببًا رئيسًا .

       وقد يأتي سبب رئيس متوهم بضرر بالغ، نتيجةَ جهل وتأخر، وانسياق وراء الأوهام، وجري وراء الخرافات، لكسل عقلي لدى المسؤولين، وسيطرة من الرعاع، لاتجد أمامها من يردعها ممن يدركون الأمور على حقيقتها، فيوجّهونها وجهتها، والقصّةُ الآتيةُ محزنة حقًّا ، والسببُ الرئيسُ فيها مفترى كاذب، في حين أن هناك أسبابًا لم تخطر على بال من حصروا السببَ في غير ما هو، والقصّة كما يلي :

       «اتفق في بعض السنين أن النيل لم يزد زيادة تامة، فقيل للحاكم حينئذ: إن جنادة (ابن محمد الهروي اللغوي النحوي) رجل مشؤوم ، يقعد في المقياس، ويلقي النحو، ويُعزّم على النيل، فلذلك لم يزد.

       وكان من حدّة الحاكم، وتهوّره، وما عرف من سوء سيرته، لا يتثبت فيما يفعله، ولا يبحث عن صحّة ما يبلغه، فأمر من ساعته بقتله، فقتله – رحمه الله – » (11).

       يعجب الإِنسان كيف تدخل مثل هذه الأفكار على المجتمعات ، فتطفئ نور العقل ، وترديه إلى هذه الظلمة ، وتنزل به إلى قعر السقوط والذلّة ، وأين العلماء ؟ وأين العقلاء والحكماء؟ لكن هذه الفترة من حياة العالم الإسلامي كانت فترة عصيبة، غاب فيها العقل، وانحسر العلم ، وضعفت الروح، وتضعضعت الشجاعة، وهزل الضمير، وتمركز الشيطان على كرسيه، يصرف الناس كيف يشاء، وكما يؤيّد، وويلٌ لمجتمع يحكمه الشيطان! وويلٌ لمجتمع يغيب عنه العلم والعقل والتثبت ، وفوق ذلك معرفة الله، والخوف منه، ورجاؤه .

       وكلمة واحدة رئيسة تُقالُ صحيحة في موقعها تُكشف فضل قائلها، وتُري عقله وعلمه، وتُصبح مفتاحًا يفتح المغلق على صورة بديعة، وهذه الكلمة فهمها من يقدِّرها، ويقدِّر دقة استعمالها، ولو سمعها جاهل وهي في مكانها لم تعن له شيئًا، ولظنّها من جملة مترادفات المعنى الذي دلّت عليه، وظنّ اشتراكها مع غيرها في هذا المعنى، الذي تبيّن أنها تنفرد به:

       «دخل الحسين بن أحمد بن خالويه يومًا على سيف الدولة، فلما مثل بين يديه قال له: «أقعد»، ولم يقل: «أجلس».

       قال ابن خالويه: فعلمتُ بذلك اعتلاقه (تعلقه) بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب.

       قلتُ: قال ابن خالويه: هذا لأنه يقال للقائم: (أقعد)، وللنائم والساجد: (اجلس) » (12).

       وهناك سببٌ يُعطَى على أنه رئيس، وإن لم يكن رئيسًا؛ ولكن مفعوله يكون كذلك، رغم أنف الطرف المتلقي، وهذا يتأتى عندما يكون معطي السبب من أصحاب الميزات المدلّلين مثل الشعراء، الذين يقبل منهم عن شعرهم ما لا يقبل من الكتاب والأدباء في نثرهم، والخطباء على منابرهم، والوعّاظ في مساجدهم، والمدرسين في حلقاتهم:

       «قال الخالع: أنشدني «علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ» يومًا لنفسه من قصيدة:

نجاهُ الشظا جُنُبُ الحمى فالمشرفُ

حيــالُ الرُّبـٰـى فالشاهقُ المتشـــرفُ

       فقلتُ له : بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال: بما يسوؤك» (13).

       إنّ جوابَ الناشئ رئيسًا بدليل أنه اكتفى به، ولم يردفه بغيره، ولم يتبعه أو يصحبه تعليل متوقع لجواب لمثل سؤال الخالع ، ومن مكان عالٍ مشرف على من هم دونه ممن لايحق لهم أن يسألوه جاء الجواب مغمضًا أصمَّ ، وترك لبيت المتنبى المشهور أن يطل برأسه فيقول :

أنامُ ملء جفوني عن شـواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصموا

       وتنكّب الناشئ الطريق، وترك الخالع مندهشًا، فاغراً فاه، لم يبق له من الأمر إلا حريّةً قَصَّ هذه القصــةَ التي أدخلها التــاريخ عنجهية شاعر، أخطأ و أصر على خطئه.

       وكلمةٌ رئيسةٌ تطفئ نارًا ملتهبة، وتخمد حريقًا مشتعلاً، كاد يحدث خسائر الله أعلم بمداها؛ ولكن هذه الكلمة كانت ذَنُوبًا من ماء، جاء ببرد وسلام:

       «حَضَرَ رجل بين يدي بعض الملوك، فأغلظ له السلطانُ، فقال الرجل: «إنما أنت كالسماء إذا أرعدت، وأبرقت، فقد قَرُبَ خيرها».

       فسكن ما به، وأحسن إليه» (14).

       إن مَسْرى هذه الجملة في فضاء نفس السلطان كان مدهشًا، ولقد أحسن القائل في قوله؛ لأنه لجأ إلى رسم صورة حولت فكر السلطان من الغضب إلى تتبّع أجزاء الصورة، وتأملها: فهذه هي السماءُ وهذا هو البرقُ، وهذا هو الرعدُ، ثم هذا هو المطرُ، ولعلّ هماليل المطر المتخيلة، أطفأت نارَ الغضب الحقيقية، وجاءت نتيجة فائقة، فغَضْبُ السلطان لم يسكن فقط؛ بل تبعه إحسان للمغضوب عليه، فأصبح الخير خيرين: زوال الغضب، والحسنى، فهذا يدخل في نطاق: «والعَافِيْنَ عَنِ الناسِ»، «والله يُحبُّ المُحْسِنِيْنَ».

       إنها جملة رئيسة حقًا، وجاءت بخير عميم، وهي بلا شك خير من هَذْر كثير قد لا يأتي برفع أذى، وإنّما يجلب أذى فوق الأذى، وتكون كالحطب يرمى على نار مشتعلة، يزيدها اشتعالاً، ويزيد لهبها أوارًا .

       ويتمطى أحدهم، ويظنّ أنه وقع على كنز، وأنه سوف يلجم قبيله بسؤال حَضَّره، وظنّ أنه لن يستطيع عليه الإجابة، واستعدّ لفرحة الانتصار، وظنّ أن المسؤول سوف يتوه في جدل ملتوٍ معقد، يبين فيه عجزه، ويكشف عن إخفاقه، إلا أنّ النية الحسنة، والاعتماد على الله في العون والتعضيد كان سلاح المسؤول، فأنار الله فكره، وهدى طريقه، فردّ ردًا قصيرًا وافيًا شافيًا، مدهشًا للسائل، ومخيبًا لأمله السيّء، وواضعًا قاعدة يردّ بها، وعلى نسقها، على كثير من هذا النوع من السؤال، الذي يراد به التحدي والتعجيز، يأتي من أناس سيئي الأهداف، ملتوي المقاصد :

       «قيل لعبد الله بن عباس : أين تذهب الأرواحُ إذا فارقت الأجساد ؟

       فقال: أين تذهب نارُ المصابيح عند فناء الأدهان؟» (15).

       إنّ هذا العبقري أجاب بسؤال لا بدّ أنه أفقد السائل توازنه، والكرة الآن عند السائل، وعليه أن يعطيها حقها، وإلا فليسلم طائعًا مختارًا. لقد كان الجواب رئيسًا، كافيًا بل فوق ما كان متوقعًا .

       وقد يكون الجواب رئيسًا ، ولا جواب غيره رغم أنه خطأ ؛ ولكن في أساس السؤال خطأ، وما بدئ بخطأ فاحرِ به أن ينتهى به. والشعبيّ رجل عرف بسخريته، خاصةً عندما يكون مخاطبه ساذجًا مثل الخياط الذي سأله، والقصّة كما يلي :

       «روي أن خياطاً مرّ بالشعبي، وهو مع امرأة في المسجد فقال:

       أيكما الشعبيّ ؟

       فقال الشعبي مشيرًا إليها: هذه» (16).

       وهكذا تأتي الأجوبة الرئيسة كافيةً وافيةً، يقتنع بها مستنهضها، ويرضى بها سائلها؛ لأنها تشفيه فيما سأل عنه، أو تقنعه بأنه لا غيرها يمكن أن يحل محلها .

       والجوابُ الرئيسُ مريح؛ لأنه يوفّر الوقت، خاصةً في بعض المواقف، مثل موقف الضابط العثماني في حرب البلقان أو القرم بالذات، فهذا وقت الاختصار في القول لإفساح المجال للفعل؛ وعلى العموم فالهذر غير مرغوب فيه، فهو كالثوب الذي يسحب على الأرض، فربما جمع من الأوساخ وغيرها ما يجعله ضارًا غيرَ نافع .

*  *  *

الهوامش :

  • عيون الأخبار : 2/136.
  • عيون الأخبار : 1/431.
  • عيون الأخبار : 1/431.
  • ربيع الأبرار : 2/728 .
  • ربيع الأبرار : 3/142.
  • ربيع الأبرار : 3/545 .
  • ربيع الأبرار : 4/46 .
  • تمام المتون : 39 .
  • الإمتاع والمؤانسة : 3/183 .
  • معجم الأدباء : 6/79 .
  • معجم الأدباء : 7/210 .
  • معجم الأدباء : 9/202 .
  • معجم الأدباء : 13/286 .
  • سراج الملوك : 118 .
  • أدب الدنيا والدين : 15 .
  • المراح في المزاح : 341.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.

Related Posts