دراسات إسلامية 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

       «فَرِّق تَسُد» فَرَّق بين القوم أي أحدث بينهم فرقة، تستطيع النيل من وحدتهم، ومن ثم تتسيد عليهم . وهو مثل قديم ينتهجه كل من يريد أن يتسيد مجموعة أو مجموعات متحدة، أيًا كانت هذه المجموعة أفرادًا أو منظمات وأحزابًا أو عرقيات وطوائف وعصبيات أو دولاً، وسواء كان هذا المتسيد فردًا أم دولة، محتلاً أجنبيًا أم من أبناء الوطن. ويقوم هذا المنهج على تفضيل البعض على البعض، ومنح البعض امتيازات على حساب البعض الآخر، مما يثير الضغينة والأحقاد، ومن ثم الفتن بينهما. وقديمًا وحديثًا، وفي كل عصر وأوان، وفي كل زمان ومكان، ينتهجه الغزاة والمتسعمرون لتفكيك وإضعاف القوى المقاومة والمعارضة لهم، حيث يستهدف المستعمر العلاقة بين عنصري المجتمع فيختار من الجانبين من يقيم معهم تحالفًا مؤقتًا ومن يعاديهم، ثم يضرب الجميع في فترة لاحقة. بل وينتهجه أيضًا القائمون على السلطة السياسية الممسكون بتلابيب الأمور بها لمواجهة خصومهم وإضعاف أعدائهم. وهذا الاستعمال لايخص فقط السلطة المستبدة والغير ديموقراطية؛ بل هو خاصية جوهرية لصيقة بالسلطة السياسية، سواء في نظام ديموقراطي أو نظام حكم فردي وديكتاتوري.

       وأما عن التطبيق العملي لسياسية فَرِّق تَسُد فهو سهل جدًا ويتلخص في الآتي: معرفة تاريخ المناطق التي يريد المستعمر الاستمرار في استعمارها أو احتلالها، والبحث عن النقاط الحساسة في علاقات الأفراد فيما بينهم. تجنيد بعض المرتزقة الذين أصبحت أعدادهم تتزايد يومًا بعد يوم نتيجة للفقر الذي تعيشه دول العالم الثالث وبأرخص الأثمان. بضع قنابل مصنوعة محليًا وهي متوفرة بكثرة وتباع في الأسواق السوداء؛ بل يمكن لأية جهة أن تمدنا بها بدون مقابل. وضع قنبلة منها في وسط مسجد أو مزار للشيعة في أحد أحياء بغداد أو سامراء أو البصرة قبل أداء الصلاة بقليل، بحيث يكون المسجد عند انفجارها قد أصبح مزدحمًا بالمصلين، ومن ثم العودة بسلام إلى البيت للخلود للنوم، وسوف يتكفل انفجار القنبلة الموقوتة بالقيام بالمهمة العظيمة، مئات القتلى والجرحى من الشيعة، وأصابع الاتهام تتوجه بالتهمة إلى إخوانهم من أصحاب المذهب السني من العراقيين، وبعد ويومين يقوم بإتباع الخطة نفسها؛ ولكن في مسجد للسنة هذه المرة، وسوف تكون حصيلة القتلى والجرحى من السنة موازيًا ومساويًا لأعداد القتلى والجرحى من الشيعة في اليوم السابق، وهذا ليس هو الهدف المطلوب من تلك العمليتين، إنما المطلوب هو معرفة متى ستبدأ عملية الانتقام المتبادل بين الطائفتين والتي ستمتد إلى طوائف أخرى. السيناريو نفسه يمكن تطبيقه بشكل أفضل في دول كلبنان وسوريا ومصر والجزائر وباكستان وإيران وإندونيسيا وأفغانستان، أو أية دولة عربية أو مسلمة أخرى، فالدول العربية والمسلمة تزخر بالطوائف والمذاهب والديانات والاختلافات التي أصبح أصحابها قابلين للاشتعال في أية لحظة ولأي سبب تافه. ولو أخذنا الوطن العربي كمثال على ذلك فسنجد أن الأكثرية في المنطقة العربية من العرب المسلمين بمذهبيهم الكبيرين السني والشيعي، أما الجماعات الأخرى عربية أو غير عربية، مسلمة أو غير مسلمة، فتندرج تحت ما يمكن وصفه بالأقليات. ويتمتع العراق على سبيل المثال بتنوع عرقي وديني ولغوي كبير، فإلى جانب الشيعة والسنة الذين يشكلون الأغلبية في البلاد، هناك الأكراد، والتركمان، والمسيحيون العرب، والإيرانيون والصابئة. أما الأكراد فغالبيتهم العظمى من السنة، وهم يتمركزون في شمال العراق وشماله الشرقي، بجانب الغيلية الشيعة وهم يشكلون 18٪ من السكان، ويشكل الإيرانيون 1,5٪ من السكان، كما يشكل التركمان 2٪، أما المسيحيون العرب وهم أقلية ضئيلة، وغير العرب «النساطرة، الأشوريون الأرثوذكس والكلدان الكاثوليك، واليعاقبة السريان الأرثوذكس والكاثوليك» فيشكلون 3٪ من عدد السكان، وهناك أيضًا الصابئة المندائيون «أتباع يوحنا المعمدان» يشكلون أقل من 1٪ من السكان، والشركس ويشكلون 0,5٪، والأرمن «كلهم مسيحيون» وهم أقلية ضئيلة، ثم اليهود. وفي الجزائر يشكل البربر السنة 26٪ من السكان، فيما يشكل كل من المسيحيين العرب 1٪ من السكان، وكذلك الأباضيون «المزابيون وهم من البربر»، والطوارق «بربر سنة من البدو الرحل»، والمسيحيون البربر «خصوصًا في جبال القبائل». وأيضًا في المغرب يشكل البربر «مسلمون سنة أهمهم الريفيون والأمازيج والشلوح» 36٪ من السكان، والطوارق أقل من 1٪، واليهود 0,2٪، والأوروبيون «الغالبية الساحقة مسيحيون» 1٪، والأفارقة «الزنج» أقل من 1٪. وفي مصر يشكل الأقباط «معظمهم من الأرثوذكس، مع أقلية من الكاثوليك وأقل منها من البروتستانت» 9٪ من السكان، يليهم النوبيون «بمن فيهم الكنوز وجماعات أخرى» يشكلون 2٪، والأرمن والأوروبيون واليهود ويشكلون 1٪، كما يوجد بجا «ومنهم البشارية» والبربر «السيويون»، وأفارقة آخرون وغجر وهؤلاء جميعًا يشكلون نحو 3٪ من السكان. وتتميز اليمن بتجانس عرقي وديني أكبر، والأقليات فيها قليلة النسبة لاتتعدى 5٪ من إجمالي السكان. وفي سلطنة عمان يشكل الأباضيون «كبرى فرق الخوارج وأكثرها اعتدالاً» 80٪ من السكان، فيما يشكل الآسيويون من غير العرب «معظمهم من الباكستانيين والبلوش والإيرانيين» نحو 17٪، أما الأفارقة «زنج» يشكلون 2٪. وفي السعودية يشكل الإسماعيليون 3٪ من السكان. أما الأفارقة «من مختلف الشعوب الأفريقية، مثل النوبيين والكنوز والزغاوة والبقارة والمساليت، والتكرور والصنجاي والهوسا والفولاني فهم نحو 5٪، فيما يشكل الأسيويون إيرانيون وهنود وترك وصينيون وأفغان وبلوش وملاويون وغيرهم 5٪ أيضًا. وفي دولة الإمارات يشكل السكان من أصل إيراني 12٪ من السكان، والآسيويون من غير الإيرانيين «الهنود والباكستانيون والبنجلاديشيون والبلوش وغيرهم 50٪، أما المسيحيون «العرب والأجانب» فهم 2٪، بينما الهندوس 3٪. وفي الأردن يشكل المسيحيون نحو 5٪ من السكان، أما الشركس وهم مسلمون سنة، منهم الأبزاخ والقبرطاي والبزادوج والشابسوج فيشكلون 1,6٪، وهناك أيضًا الشيشان وهم مسلمون سنة، والأرمن الأكراد، والتركمان وهؤلاء جميعًا لايشكلون نحو 1٪ من السكان، فيما يشكل الدروز نحو 25 ألف نسمة. وفي سوريا يوجد العلويون بكثافة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وهم يشكلون 10٪ من السكان، والدروز 4٪، والإسماعيليون 1٪، والمسيحيون العرب 7٪، أما المسيحيون غير العرب فهم 3٪، والأكراد «يشكلون كثافة سكانية في المناطق الحدودية بشمال سوريا لاسيما محافظة الحسكة» يشكلون 4٪، والترك فيشكلون 1٪، أما الشركس فهم 1٪، بينما اليهود أقلية ضئيلة. وعلينا أن نشير إلى الأقليات من مختلف الأنواع والعرقيات والأديان موجودة في العديد من دول العالم، حيث تشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن نسبة الأقليات في العالم أجمع تتراوح مابين 10٪ إلى 20٪ ويعني ذلك أن أعداد تلك الأقليات بالنسبة لتعداد السكان العالمي يتراوح مابين 600 مليون إلى 1,2 مليار نسمة، وهو عدد ضخم وجبار، ومما لا شك فيه تعرض معظم الأقليات إن لم يكن أغلبها لمضايقات من الأغلبية عبر العصور والأزمنة الفائتة والحاضرة والقادمة تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر، وأمامنا خير شاهد ما يحدث للأقليات المسلمة في عصرنا هذا في الغرب وأمريكا.

       عودة إلى ذي بدء: اسألوا التاريخ ماذا فعل الاستعمار بالأمس في الهند وباكستان وفي مصر والسودان وفي لبنان وفي الخليج، وماذا فعل بالخلافة الإسلامية، حيث أحاط بها أعداؤها، من جميع نواحيها، وأخذوا ينشرون الفتن بعد الفتن، ووجدوا التجاوب الكثير من الكثيرين، والتقت قوى داخلية وخارجية تعمل كلها على إسقاط الخلافة، فسقطت الخلافة الإسلامية ومزق العالم الإسلامي أقطارًا وشعوبًا وعصبيات، وصنعت بينهم حدودًا جغرافية لتفريق وحدتهم وتشتيت شملهم؛ بل وصارت هذه الحدود سببًا للنزاع بين بعضهم البعض، وقد حاول أعداء الإسلام بكل مسمياتهم وألفاظهم وألوانهم تجريدنا من روابط الوحدة والألفة والتناغم ليصوغوا لنا واقعاً ملغماً بالتنازع يودي بنا إلى الوهن والضعف والفساد وقطع الوصال والتقاتل فيما بيننا ومن ثم موتًا ودمارًا، هذا الخلل الذي تفاقم كان يجسد شعار «فَرِّقْ تَسُد» الذي وصفنا ووسمنا به الاستعمار الغربي، بالأمس كان الإنجليز واليوم الأمريكان يطبقونه بالتمام، فهم يغذوننا بثقافة عدم التسامح مع الرأي الآخر، والمذهب الآخر، والديانة الأخرى، اعتمادًا على المقولة الأمريكية المعاصرة: إن لم تكن معي فأنت ضدي ويجب القضاء عليك أولاً.

       ففي خلال الحقبة الاستعمارية كانت إثارة الخلافات الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية في المناطق المحتلة تغني المحتل عن استخدام الأسلحة للهيمنة على هذه الشعوب إلا نادرًا، ولقد كانت سياسية بريطانيا العظمى وقتئذ التي اعتمدت عليها في تثبيت قواعدها الاستعمارية في كل مكان من العالم، تتلخص في كلمتين لا أكثر هما: «فَرِّق تَسُد» واشتهرت بريطانيا بهاتين الكلمتين إلى درجة أنهما أصبحتا مرتبطتين باسمها، ولم تحاول بريطانيا أن تخفي ذلك أو تتنصل منه، بل أعلنته صراحة، وقد حققت بريطانيا ما كانت تطمح إليه، دون أن تريق قطرة دم واحدة من جنودها، حيث تكفلت الطوائف من نفس الدين واللغة بتمهيد الأرض للمستعمر من خلال تقديم أرواحها فداء للمحتل، والطريقة الوحيدة لإثبات تلك التضحية كانت من خلال الاقتتال فيما بين تلك الطوائف والمذاهب لأتفه الأسباب، تمامًا كما كانت العرب تتقاتل في الجاهلية أربعين سنة لتثأر لناقة!. وهاتان الكلمتين هما السر وراء نجاح عدد قليل نسبيًا من القوات البريطانية في الهيمنة على 300 مليون هندي لمدة أكثر من قرن من الزمن ، نجح البريطانيون في حينه في إقناع الهنود بأن وجودهم في هذا البلد هو ضروري لمنع الحرب الأهلية بين المسلمين والهندوس وبهذا نجحوا بإضفاء نوع من الشرعية على وجودهم في الهند ولو لمدة محددة .

       وقد كانت لبريطانيا عدة محاولات من هذا القبيل في مصر باءت في معظمها بالفشل، فقد حاول المستعمر الإنجليزي خلال احتلاله لمصر في الفترة مابين 1882م إلى 1954م إثارة الضغائن بين الأقباط والمسلمين وقد شكل صمود الأقباط في مواجهة ممارسات الاحتلال مفاجأة مزعجة «للورد كرومر» المعتمد البريطاني حتى إنه لم يستطع التمييز بين قبطي ومسلم سوى أن أحدهما يصلي في المسجد والآخر يصلي في الكنيسة على حد قوله. ولا نستطيع أن ننسى الشعار الخالد لثورة 1919م عاش الهلال مع الصليب. حينما وقف القساوسة على منابر المساجد وذهب الشيوخ إلى الكنائس، الكل يد واحدة ضد الاحتلال، وهناك كلمة مشهورة للقس سرجيوس: «ليمت كل قبطي في هذا البلد ولكن لتحيا مصر». ولكنه وعلى الرغم من خروج الاستعمار البريطاني، ونيل مصر استقلالها منذ أكثر من خمسة عقود، إلا أن علاقة الأقباط بالمسلمين في مصر وموقفيهما معًا إزاء المستعمر بكافة مسمياته وأشكاله، مازال يحير أعداء هذه البلد ويقتلهم غيظاً وكمدًا، لذا تجدهم يرصدون كميات كبيرة من المبالغ، على بحث فرق تمسح البلاد بالطول والعرض والعمق باحثة عما يعكر صفو العلاقة بين المسلمين والأقباط، تحت حجة أغراض البحوث الاجتماعية والسياسية، هذه المبالغ تزيد سنويًا على مائة مليون دولار، معظمها تقدمه هيئات أجنبية ولا أحدًا يعرف من هم الممولون، كما أنه من غير المعروف، أين تبدأ المقاصد، وأين تنتهي النتائج؛ ولكن الأصابع تشير إلى بعض الجهات الأمريكية ومن ورائها الإسرائيلية. وتقف تلك الجهات وراء بعض أقباط المهجر الذين يريدون تقسيم مصر إلى دولتين مسيحية في الجنوب وإسلامية في الشمال، والذين يريدون نزع الهوية الإسلامية عن مصر كاملة. فبالأمس كان الإنجليز واليوم الأمريكان يطبقونه بالتمام. كما لجأ المستعمر الإنجليزي إلى سياسية «فَرِّق تَسُد» مع الأحزاب والحركات الوطنية حينذاك، يجعل منها موالين ومعارضين، لإضعافها والحيلولة دون تكتلها وتوحدها، الشيء الذي خلق منها خصومًا لبعضها البعض، تعيش التجافي والصراع والتشتت بسبب موقفها الغير الموحد تجاه المستعمر، فضلاً عن خلقهم لأحزاب أفسدوا بها العمل الحزبي وأفرغوها من كل مضمون إيجابي، وهذه هي السياسية التي تتبعها بعض الأجهزة الحاكمة في الكثير من دولنا.

       هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت هناك محاولات لفصل مصر عن سائر الدول العربية، فمنذ أن قامت ثورة يوليو «تموز» في عام 1952م نجحت مصر في جمع صفوف العرب ولم شملهم، ولم يأت ذلك من فراغ فكثيرًا ما ساندت مصر هذه الشعوب من أجل أن تظفر بحريتها وبعد أن نالت استقلالها، دأبت مصر على إمدادها بالخبرة والتكنولوجيا وبأبنائها في مختلف التخصصات، فأدى ذلك إلى مزيد من التعاون والترابط والالتفات بين مصر والدول العربية. وجاءت حرب أكتوبر «تشرين الأول» في عام 1973م فترجمت وتحولت الوحدة العربية إلى جبهة واحدة وصف واحد أمام العدو الإسرائيلي، فأرسلت بعض الدول أبناءها إلى الجبهة واستعلمت دول أخرى سلاح البترول للضغط على الدول المساندة لإسرائيل. ولقد كان لهذا الموقف العربي الأثر الكبير في الانتصار الساحق الذي حققناه على العدو الإسرائيلي. وهنا فطنت أميركا وربيبتها إسرائيل إلى مدى خطورة الوحدة العربية، فشعرتا بأن العالم العربي كله وقف وقفة واحدة ضدهما، وأن ميزان القوى سوف يختل من بين أيديهما، فبدأ في التخطيط للنيل من هذه الوحدة وتفتيتها وضربها. وقد بدأ تنفيذ المخطط بتفريق مصر عن أخواتها العرب، فجاء «كيسنجر» إلى مصر من أجل وقف إطلاق النار، ثم اتفاقية فض الاشتباك ثم مبادرة السلام بين مصر وإسرائيل. ولسنا هنا في مجال تقويم مبادرة السلام؛ ولكننا نشير على ما استجد بعدها وكان له أكبر الأثر على الوحدة العربية. فإسرائيل أعدى أعداء العالم العربي أصبحت تحالف مصر للتفريق بينها وبين سائر الدول العربية، وهذا هو أكبر مخطط أميركي إسرائيلي ينجح بأقل قدر من التضحيات والتنازلات في تفتيت العالم العربي. وبمقارنة بسيطة بين ما حدث في المنطقة العربية قبل وبعد المخطط نكتشف خطورة المسألة. فبعد هذا المخطط توسعت إسرائيل في إقامة المستوطنات في فلسطين، وضربت المفاعل النووي في العراق، وسفكت دماء الأبرياء في مذابح صبرًا وشاتيلاً، واكتسحت ومزقت لبنان ووحدته الداخلية. وغير ذلك مما حدث في المنطقة وأدى إلى تشاجر بعض الدول العربية فيما بينهما، ومما لاشك فيه أن لإسرائيل دورًا في ذلك وإن كان غير مباشر، فشغلت العرب بقضايا أخرى لتنفرد هي بقضية فلسطين، تحلها كما يحلو لها، ومن غير هذا المخطط لم تكن تستطيع حتى مجرد النظر إلى شبر واحد من الأراضي التي احتلتها باستخدام أعتى الأسلحة. ولكن تم لها ذلك بتطبيق مبدأ «فَرِّقْ تَسُد» فقد أثبتت أن لهذا المبدأ قوة خرافية أكبر وأكثر ضخامة من قوة الأسلحة.

       كما شهدت منطقتنا العربية أو بالأحرى بعض دولنا العربية في الآونة الأخيرة عدة محاولات طبقت فيها سياسة «فَرِّق تَسُد» سواء بين الدول بعضها البعض أو داخل الدولة الواحدة، وأسفرت هذه المحاولات عن خراب ودمار وقتل وتشريد أحيط بهذه الدول وبأبنائها، ومن الأمثلة على ذلك: الوقيعة بين العراق والكويت، ثم تدبير مؤامرة اجتياح العراق للكويت، وما ترتب على ذلك من اختلاف في موقف الدول العربية تجاه هذا الحدث، واختلافها في مدى إيجابية كل منها تجاهه. اتهام العراق بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل ومن ثم احتلاله وتهيئته للانزلاق نحو حرب طائفية، وهي نتيجة منطقية للسياسة التي اتبعها الاحتلال. ويمكن حصر الأسباب الرئيسة لهذه الحرب الطائفية في أربعة: السبب الأول هو الاحتلال الذي خطط منذ البداية لإغراق الشعب العراقي في مستنقع حرب أهلية طائفية تمزق وحدته الوطنية وتلهيه عن توحيد صفوفه لمواجهة المحتل. والسبب الثاني هو الأحزاب والقوى السياسية الطائفية التي ساندت الاحتلال وسهلت له الطريق لغزو العراق وبسط نفوذه عليه، وتحاول هذه القوى إقناع هذه الطائفة أو تلك بأن مصلحتها ومستقبلها يكمنان في الاحتماء بالاحتلال وأغلب هذه القوى السياسية تُتَكَلم باسم الشيعة في الجنوب أو باسم الأكراد في الشمال، مع بعض التنظيمات الأخرى التي تُتَكلَّم باسم السنة. أما السبب الثالث فيتعلق ببعض فصائل المقاومة العراقية التي تستعمل أسلوبًا طائفيًا في مقاومة الاحتلال، ويمكن استخلاص ذلك مباشرة من أسمائها مثل أنصار السنة وأنصار الإسلام وقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين .. الخ، ولا تتحرج هذه الفصائل من إصدار الفتاوى التي تجيز استهداف المدنيين على أساس طائفي بدعوى أن هذه الطائفة أو تلك تتعاون مع الاحتلال. والسبب الرابع يكمن في تدخل دول الجوار في إثارة التراعات الطائفية عبر دعمها لهذه الطائفة على حساب أخرى خدمة لمصالحها الإقليمية، وفي مقدمة هذه الدول نجد إيران تحاول توظيف الشيعة لاستعمالهم ورقة ضغط في وجه المارد الأمريكي لتوسيع نفوذها في المنطقة، أما تركيا فإنها تعمل كل ما في وسعها من أجل منع قيام كيان كردي مستقل في العراق، وقد استغلت الأحزاب الكردية هذا الوضع لتعبئة الأكراد على أساس عرقي وإقناعهم بأن حلمهم بقيام الدولة الكردية المستقلة يمر حتمًا عبر الاحتماء بالولايات المتحدة لمواجهة التهديد التركي. كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى إيجاد حالة من التوتر الطائفي داخل العراق تزداد احتقانًا مع مرور الأيام. وربما تسفر الأيام عن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب وربما تظهر بجانبهم دويلة للتركمان ومثلها لليزيديين وغيرهما من الأقليات الدينية والعرقية. ومن الأمثلة الأخرى لبنان هذا البلد الذي كان في يوم من الأيام المركز التجاري والاقتصادي والأمني الذي ليس له مثيل في الشرق الأوسط، واستطاعت اليد التي لها مصلحة في عدم استقراره إلى الضرب على وتر التنوع الطائفي، وكانت طلقة واحدة كافية لتشعل حربًا استمرت لأكثر من ربع قرن بين عامي 1975م و 1990م تحولت لبنان خلالها إلى خراب ودمار، وكانت تلك الخطوة التي خططت لها إسرائيل بأناة وهدوء لتدخل إلى لبنان من أوسع أبوابه وتعيث فيه فسادًا وتحكم في مصيره، وقد خلفت الحرب الأهلية في لبنان ما يقدر بحوالي 90 ألف قتيل و 115 ألف جريح و 20 ألف مفقود، كما أدت إلى هجرة حوالي 800 ألف فلسطيني ولبناني من لبنان، وهنا أكتشفت جميع الطوائف بشتى انتماءاتها بأنها جميعها خسرت المعركة وأن وطنهم أصبح مدمّرًا ومحتلاً، إلى أن عادت وحدة اللبنانيين مرة أخرى، وتم طرد إسرائيل من الجنوب شر طردة. واليوم تعود بعض الدول ذات المصلحة إلى إعادة محاولة تدمير لبنان بنفس السياسة السابقة فَرِّق تَسُد «إشعال الحرب الأهلية»، وكادت أن تندلع مرة أخرى بعد مقتل الحريري، غير أن اللبنانيين ربما تداركوا الأمر قبل فوات الأوان. وإلا لماذا تنتفض هذه الدول «أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وعلى رأسهم مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة» لجريمة اغتيال الحريري، بينما قتل العديد من الزعماء سواء اللبنانيين أو غيرهم، ولم يعرهم المجتمع الدولي ولا هذه الدول هذا الاهتمام؟. ثم الوقيعة بين لبنان وسوريا، وتتدخل أمريكا في كل شؤون لبنان، وطرد سوريا من لبنان بعد أن ظل التواجد السوري منتشرًا في معظم مناطق لبنان منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي، ولم تسحب سوريا قواتها حتى العام 2005م حيث أجبرت على الانسحاب بضغط من المظاهرات اللبنانية والتدخل الدبلوامسي المكثف من الولايات الأمريكية المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة. ومن الأمثلة أيضًا السودان والذي كان جزءًا لا ينفصل عن مصر حتى بدايات الخمسينيات من القرن الماضي، وكان لقب ملوك مصر المتعاقبين وآخرهم الملك فاروق هو ملك مصر والسودان، والواضح أن الاستعمار البريطاني القديم وحليفه الاستعمار الأمريكي الجديد، عملا ومازال يعملان، على إبعاد مصر عن السودان من ناحية، ومن ناحية أخرى على تقسيم السودان نفسه. فأمريكا التي كانت تؤيد وتدعم حركة «جون قرنق» في تقسيم السودان، ها هي ترعى اتفاق السلام السوداني في نيروبي الذي ينظم مرحلة انتقالية تستمر ست سنوات يحق لأبناء الجنوب بعدها إجراء استفتاء ليقروا مصيرهم سواء بالانفصال عن السودان أو البقاء داخل الدولة الموحدة. كما أن أمريكا وراء صراعات المغرب العربي، وما يحدث وما يجري بين البوليساريو والمغرب الأم. كما كانت وراء تقسيم الاتحاد السوفيتي سابقًا وانهياره إلى دويلات في عهد «جورباتشوف». كما أن الصهاينة الغزاة قد وعوا أن قوة مقاومة الشعب الفلسطيني لايمكن أن تباد أو تُضَعَّف، ولذلك فكروا في نفس المؤامرة القديمة العهد التي اتبعها المستعمرون دومًا ألا وهي فَرِّقْ تَسُد، فعملوا على بث الفتن بين أبناء الشعب الفلسطيني، بغرض اشتعال الحرب بين فصائل المقاومة في فلسطين من ناحية ومن ناحية أخرى انشغال الفلسطينيين بالصراع الفلسطيني، وأحيانًا يلازمهم النجاح في مكرهم وخداعهم هذا، وأحيانًا أخرى يعي الشعب الفلسطيني لهذه المؤامرة ويقف لهم بالمرصاد.

       على الرغم من أن أمتنا الإسلامية تتمتع بموروث فكري عظيم، من قرآن وسنة وتاريخ لسلف صالح غير معالم الحياة آنذاك، واستطاع أن يقود العالم لحقبة من الزمن خالدة، كلها تدعو إلى الوحدة وتنهى عن التنازع، وإلى التفاهم والتحاور والبحث عن سبل السلام قبل إعلان الحرب، كما أنها تحرم تحريمًا قاطعًا أن يقتل مسلم مسلمًا آخر نطق بالشهادتين، أيًا كانت الأسباب، وحرم القرآن نصًا وبالحرف الاعتداء على دور العبادة، أو التعرض لكبار السن والنساء والأطفال، بل حتى قطع شجرة في الصحراء قد يستظل بها مسافر. هذه هي مبادئ التسامح مع الآخر التي أرساها الرسول الكريم، والتي نحن في حاجة اليوم إلى تطبيقها على أنفسنا، لقد حصد عدم التسامح الكثير من أرواح المسلمين البريئة، وسهل تطبيق جميع النظريات التي ترمي إلى تفرقة المسلمين وعزلهم عن العالم الخارجي، ومن ثم إشعال فتيل الفتنة الطائفية بينهم ليقضوا على أنفسهم بأنفسهم، غير أن الأمل لايزال معقودًا في أمة وصفها الله في كتابه الكريم بأنها (خير أمة أُخْرِجَتْ للناس). وأخيرًا فإن الدول الإسلامية، أيًا كانت الحكومات والأنظمة التي تدير شؤونها، في حاجة إلى مجالس طائفية تنتمي إليها جميع الفرق، تعرض وتحل فيها الخلافات بالحوار والهدوء، وبذلك سيضمن الجميع بأن أية محاولة لزرع الفتنة يعني أن هناك يدًا من خارج هذا المجلس تريد أن تفرق لكي تسود، وهي التي تحاول إشعال تلك النار، وبالتالي يجب الاشتراك في إخمادها، فما يجمع ما بين المذاهب والفرق الإسلامية، أكثر بكثير من تلك الأمور التي تميز اجتهادًا كل فئة عن غيرها، ومهما وصلت الخلافات والاختلافات بينهم فإنه لاتجب بحال من الأحوال أن تصل إلى حد الاقتتال الدامي!. والدعوة التي وجهها رجال الدين العراقيون شيعة وسنة بعد التفجيرات التي استهدفت ضريحي الإمامين «علي الهادي» و «حسن العسكري» في مدينة سامراء، إلى صلاة يؤديها الشيعة والسنة في مسجد مشترك، تبشرنا بخير نتمنى أن يدوم ويستمر ويعمل به، فقد عاش اليهود والمسيحيون بجانب المسلمين تحت لواء الإسلام في ظل الخلافة الإسلامية على طول امتدادها، عليهم ما على المسلمين، ولهم ما للمسلمين، بكل تسامح وحسن جوار، فمن باب أولى أن يتعايش هكذا المسلمون مع بعضهم البعض .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1427هـ = سبتمبر 2006م ، العـدد : 8 ، السنـة : 30.


(*)         6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

الجوّال : 0101284614

Email: ashmon59@yahoo.com

Related Posts