الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله
خلال الصفحات التالية سوف أحاول بإذن الله وعونه تقديم خلاصات أو إشارات عن دراسات الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) للقرآن العظيم مقارنًا بالتوراة والإنجيل – مع تعليقات سريعة عليها.
يقول الدكتور (بوكاي) في المقدمة :
«إنّ ما ورد في التوراة والإنجيل عن الظواهر الطبيعية والبشرية – على قلته – يناقض العلم كل المناقضة ، فهو إذن لا يثبت أمام الدراسة النقدية التي كرّس لها المؤلف كتابه ، و «الكتاب المقدس» محشوٌّ بمعلومات علمية خاطئة» .
وإن القرآن الكريم ليس فيه مسألة واحدة تناقض العلم الحديث ، بل إن كل ما ورد فيه من آيات وإشارات في علم الفلك ، وعلوم الحيوان والنبات ، وعن التناسب البشري .. يوافق تمام الموافقة معطيات المعارف العصرية التي كانت مجهولة في عصر النزول . ويجعل المؤلف من هذه النتيجة حجة أخرى على أن القرآن الكريم أوحي به الله ، وأنه كتاب تقصر عقول البشر عن صنعه . وكانت حجة المؤلف الأولى هي أن القرآن العظيم بقي كما نزل على محمد ﷺ لم تمسه يدٌ بتغيير، حُفَظ في الصدور وقت نزوله ، ودوَّنه كَتَبَةُ الوحي، وضمَّه المصحف الشريف .
إنّ «بوكاي» أتقن العربية ودرس القرآن العظيم في أصله وفي مختلف ترجماته الفرنسية ، كما راجع تفاسير القُدامى والمحدثين من علماء المسلمين، وأتيح له أن يجتمع في المملكة العربية السعودية الشقيقة بالملك «فيصل بن عبد العزيز» – رحمه الله–، وبعدد من علمائها ورجالها ، وقد رتّب «بوكاي» كتابه وقسمه إلى الفصول الرئيسية الآتية :
- كتاب العهد الجديد .
- الأناجيل (الأربعة)
- القرآن الكريم ، والعلم الحديث .
- الأقوال القرآنية ، وأقوال الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل).
- القرآن العظيم والأحاديث النبوية ، والعلم الحديث .. وعدد صفحات الكتاب(254)
فحص المؤلف في الفصل الأول من الكتاب أسفار العهد القديم – التوراة – مشيرًا إلى اختلاف النصوص المتداولة ، وإلى ضياع نصوصه الأصلية الثلاثة التي كانت تُقْرَأُ في القرن الثالث قبل الميلاد، كما ذكر المحاولة التي تجرى الآن لاستخلاص نص تأليفي موحد للتوراة على يد هيئةٍ من الخبراء الكاثوليكيين والبروتستانيين (المجتمع المسكوني).
وأبرز المؤلف ما أصاب التوراة من تحريف وتغيير خلال مدة ألفي عام وما داخلها من تصويب وتصحيح من اختلاف الروايات والترجمات مؤكدًا أن أسفار العهد الجديد قوامها الذاكرة انتقلت بالإنشاد والرواية من جيلٍ إلى جيل.
وبمقارنة بعض الإشارات الواردة في أسفار العهد القديم – التوراة – بمعطيات العلم الحديث استخلص المؤلف أن هذه الإشارات تتنافى كليًا مع المعارف العصرية ، وقد تناول على الخصوص المسائل المتعلقة بخلق العالم وبالطوفان .
ومحَّص المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب (الأناجيل) مبرزًا التناقض الموجود بين الأناجيل الأربعة التي تتباين رواياتها في موضوع معيَّن ، وألقى نظرة على تاريخ الأناجيل الأربعة ومصادرها المتعددة ، ثم قارن أقوال الأناجيل بالمعارف العلمية العصرية مبينًا تناقض تلك الأقوال وتعارضها مع معطيات العلم ، وانتهى إلى النتيجة الآتية : «إن ما يوجد في الأناجيل من تناقضٍ واضح ، وأقوال ليستحيل تصديقها ، وتعارض مع معطيات العلم الحديث ، وما طرأ على نصوصها من تغييرات متعاقبة كل ذلك يجعل من الأناجيل كتبًا تتضمَّن فصولاً ومقاطع من صنع خيال الإنسان ، إلاَّ أن هذه العيوب ليس من شأنها أن تُشكك في وجود رسالة عيسى – عليه السلام – : وإنما يخلق الشك حول مراحل سير هذه الرسالة».
* * *
وفي الفصل الثالث من الكتاب – تحدث المؤلف عن ثبوت صحة القرآن العظيم. مبينًا مراحل نزوله منجمًا وتدوينه، ومستخلصًا من ذلك أن القرآن الكريم وحي منزَّل من عند الله ، وأن يد البشر لم تعبث به ولم تتطرق إلى نصه بزيادة أو نقصان . وتناول بالدرس والتحليل مسائل النزول والجمع والتدوين المتعلقة بالمصحف الشريف مستندًا في ذلك على أصح الروايات التأريخية ومستشهدًا بعديد من الآيات الكريمة التي تثبت أن القرآن الكريم كلام الله المنزَّل .
وأجرى المؤلف بعد ذلك مقارنةً علميةً بين أقوال القرآن العظيم وأقوال التوراة والإنجيل مبينًا ما يوجد بينها من اتفاق أو اختلاف حول مواضيع معينة وردت في الكتب السماوية الثلاثة ، وأثبت بالمقارنة والحجة أن ما تحدث به القرآن عن مسائل تتصل بخلق العوالم والطوفان – مثلاً – يختلف عما ورد في التوراة والإنجيل ، وإن كل ما ورد في القرآن الكريم يتفق كليةً مع معطيات العلم الحديث بخلاف ما ورد عن نفس المواضيع في أسفار العهد القديم والعهد الجديد .
* * *
إنَّ الصلة بين الدين والعلم لم تكن متشابهةً في كل مكان وعصر. والواقع أن كتب الديانات التوحيدية تخلو كلها مما قد يحمل على أنه إدانة للعلم . غير أننا – من الوجهة العلمية – نرى أن رجال العلم كانوا يخاصمون السلطات الروحية لبعض الديانات ، وأن السلطات المسيحية المسؤولة لم تقف من تطور العلم موقف المنازعة ، وذلك طوال قرون عديدة ومن غير أن يكون لها سند من نصوص الكتب السماوية الصحيحة ، وقد اتخذت هذه السلطات في حق رجال العلم الذين كانوا يسعون في سبيل التقدم التدابير التي نعرفها ، فكانت تنفيهم من الأرض أو تحرقهم بالنار إذا لم يقبلوا دفع غرامة مع الرجوع في مواقفهم والتماس الغفران ، وكثيرًا ما تذكر في هذا المقام محاكمة «غاليليو» الذي اُضطُهِدَ بسبب أخذه بمكتشفات «كوبيرنيك» في مسألة دوران الأرض ، وقد صدر عليه الحكم استنادًا إلى تأويلات خاطئة للتوراة والإنجيل .
أما الإسلام ، فإن موقفه من العلم كان ، بصفة عامة ، مغايرًا لما سبق ذكره ولا أدلَّ على ذلك من هذا الحديث النبوي المشهور: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (1).
ومن الحقائق الرئيسة أن القرآن الكريم ، الذي يدعو دائمًا إلى التَّزود بالعلم يزخر بالعديد من التأملات حول الظواهر الطبيعية ، المشفوعة بتفاصيل توضيحية توافق تمام الموافقة معطيات العلم الحديث ، ولا شبيه لذلك في التوراة والإنجيل .
* * *
ثم يتصدى الدكتور (بوكاي) لأخطاء بعض مفسري القرآن الكريم – فيرى أن بعض مفسري القرآن الكريم (بما فيهم أولئك الذين عاصروا عهود الحضارة الاسلامية الزاهرة) قد وقعوا ، عبر العصور في أخطاء حين تفسيرهم لبعض الآيات التي لم يكن في وسعهم أن يدركوا معناها الدقيق ، ولم يعط لهذه الآيات تفسيرها الصحيح إلاّ في عهود متأخرة قريبة من عصرنا هذا .
ويترتب على هذا أن المعارف اللغوية لاتكفى وحدها لفهم تلك الآيات القرآنية ، بل لا بدَّ للمفسر من أن يكون محيطاً بمعارف علمية متنوعة جدًا ، إذ أن هذا النوع من الدراسة يكتسي طابعًا موسوعيًا شاملاً، وكلما مضينا قدمًا في مطالعة المسائل التي يعرضها القرآن الكريم يتضح لنا جليًا أنه لابدَّ من الإحاطة بعديد من المعارف القرآنية لاستيعاب معنى بعض آيات الكتاب .
إن القرآن العظيم لايهدف – كما هو معلوم – إلى إثبات بعض النواميس التي تتحكم في الكون، ذلك أن مقاصده الجوهرية دينية ، وهو إذْ يتحدث عن القدرة الإلهية فإنه يدعو الناس إلى التدبَّر في ملكوته وفيما أبدعه الله من أكوان ، وتتخلل هذه الدعوة الإلهية اشاراتٌ إلى وقائع يمكن أن يدركها البشر بالملاحظة ، أو قوانين سنَّها بقدرته الإلهية وجعل نظام العالم خاضعًا لها ، وذلك في مجال علوم الطبيعة وفيما يتصل بالإنسان نفسه . وبعض هذه الإشارات لايعسر فهمها ، إلاّ أن البعض الآخر لايمكن إدراك معناه إلاّ إذا توافرت المعارف العلمية الضرورية لذلك ، وهذا يعنى أن إنسان القرون الماضية لم يكن في مقدوره أن يفقه من تلك الإشارات إلاّ معناها الظاهري ، وذلك ما جعله في بعض الأحوال يستخلص نتائج غير صحيحة بسبب نقصان علمه في عصره .
* * *
ثم يقول بوكاي :
وقد محَّصت القرآن الكريم باحثًا عما إذا كانت فيه إشارات إلى ظواهر لا تعسر على الفهم البشري حتى ولو لم يكن العلم الحديث أثبتها ، وأعتقد أنني من هذه الناحية قد وجدت في القرآن الكريم إشارات إلى وجود كواكب في الكون تشبه الكوكب الأرضي ، ويجب القول إن عددًا من العلماء يعتبرون ذلك محتملاً جدًا ولو أن المعطيات الحديثة لا تستطيع أن تقطع فيه باليقين ، وقد رأيت من واجبي أن أعرض لذلك ذلك مع التحفظ الذي يقتضيه الحال .
«ولما كنت قد شرعت في هذه الدراسة منذ نحو ثلاثين عامًا ، فقد كان ينبغي أن أضيف إلى ما سبق ذكره في علم الفلك : مسألة أخرى أشار إليها القرآن العظيم ، وأعني بذلك غزو الفضاء ، وقد كان الناس يرون وقت شروعي في هذه الدراسة وعقب إجراء أولى تجارب إرسال الصواريخ الفضائية – أن الإنسان قد يتاح له من الإمكانات المادية ما قد يجعله يرتاد في يوم الفضاء بعيدًا عن محيط الكرة الأرضية ، وكانوا يعلمون إذ ذاك بوجود آية قرآنية جليلة تقول بأن الإنسان سوف يحقق يومًا هذا الغزو الفضائي ، وها قد تم اليوم تحقيق ذلك .
* قلت : تختلف مع (بوكاي) في فهمه لآيات سورة الرحمن حول اختراق الفضاء ، بالآيات المشار إليها لا تعني ذلك . وقد أوضحنا وجهة نظرنا مفصلة في كتابنا (القرآن كتاب أحكمت آياته) الجزء/3 صفحة 56.
* * *
«إن هذه المقابلة بين الكتاب المنزّل والعمل تأخذ في الحسبان المفاهيم المرتبطة بالحقيقة العلمية ، وذلك سواء تعلق الأمر بالتوراة والإنجيل أو بالقرآن العظيم . ولكى تكون المقابلة صالحةً يجب أن تكون الحجة العلمية التي تستند عليها تامة الثبوت وغير قابلة للمناقشة . وإن أولئك الذين يغضبهم تدخل العمل في تمحيص الكتب المقدسة ينكرون على العلم قدرته على أن يكون عاملاً صالحًا من عوامل المقارنة ، سواء تعلق الأمر بالتوراة والإنجيل اللذين لا يصمدان أمام هذه المقارنة ، أو بالقرآن الكريم الذي ليس له أن يتخوف منها ، وهؤلاء يزعمون أن العلم يتغيَّر مع الزمن ، وأن مسألة بذاتها قد تكون اليوم مقبولةً وقد ترفض فيما بعد .
«وهذه الملاحظة تستوجب الإيضاح التالي: يجب التمييز بين النظرية العلمية وفعل الملاحظة القائم على صحة النظر – إن القصد من النظرية هو تفسير ظاهرة أو مجموعة من الظواهر التي يصعب فهمها ، فالنظرية إذن متغيرة في كثير من الأحوال وهي محمولة على أن تبدَّل أو تعرض بنظرية أخرى حينما يتيح التقدم العلمي تحليل الوقائع بشكل أفضل، وتصوُّر تفسير أصلح وأنسب . وعلى العكس من ذلك فإن فعل الملاحظة الثابت بالتجربة لايمكن تغييره : نعم يمكن تحديد صفاته بشكل أفضل ، إلاّ أن الفعل يبقى هو هو . وإذ ثبت – مثلاً – أن الأرض تدور حول الشمس وأن القمر يدور حول الأرض ؛ فإن هذه المسألة لن تكون محل إعادة النظر، بيد أنه في الإمكان أن يقع في المستقبل تحديد مسار كلا الكوكبين بشكل أدق ، وذلك على أحسن تقدير».
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1427هـ = يوليو – أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.
(1) رواه ابن ماجة في سننه.