دراسات إسلامية
بقلم : د. محمود محمد بابللي
المطلب الأول – الحرية الاقتصادية
إن الحرية الاقتصادية في الإسلام، حرية محدودة بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يتميز بها الإسلام(1).
ومن هذا المنطلق يتضح الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي، فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع .. يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة ، ومع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وفيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها .
والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
أحدهما – التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس ، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية .
والآخر – التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي وتضبطه .
أما التحديد الذاتي :
فهو يتكون طبيعيًا في ظل التربية الخاصة ، التي ينشيء الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يحكم الإسلام في كل مرافق حياته ، فان للإطارات الفكرية والروحية التي يصوغ الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها ، حين يعطي فرصةَ مباشرةِ واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه .
إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة ، وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتيًا وطبيعيًا من الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي ، وتوجيهها توجيهًا مهذبًا صالحاً ، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري ، فلا يجدون فيها حدًا لحرياتهم، ولذلك لم يكن التحديد الذاتي للحرية في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر إنشاء معنويًا صالحاً ، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة .
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة، وآثاره الكبيرة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي ومزاجه العام ، وعلى الرغم من أن التجربة الإسلامية الكاملة كانت قصيرة الأمد، فقد آتت ثمارها ، وفجّرت في النفس البشرية إمكاناتها المثالية العالية ، ومنحتها رصيدًا روحيًا زاخرًا بمشاعر العدل والخير والإحسان، ولو قدّر لتلك التجربة أن تستمر وتمتد في عمر الإنسانية ، أكثر مما امتدت في شوطها التاريخي القصير، لاستطاعت أن تبرهن علىكفاءة الإنسانية لخلافة الأرض، ولصنعت عالماً جديدًا زاخرًا بمشاعر العدل والرحمة، واجتثّت من النفس البشرية أكثر مايمكن استئصاله من عناصر الشر، ودوافع الظلم والفساد.
وناهيك من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن الأساسي لأعمال البر والخير في مجتمع المسلمين، منذ خسر الإسلام تجربته للحياة، وفقد قيادته السياسية وإمامته الاجتماعية، وعلى الرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة والقيادة بعدًا زمنيًا امتدّ قرونًا عديدة، وبعدًا روحيًا يقدّر بانخفاض مستوياتهم الفكرية والنفسية، واعتيادهم على ألوان أخرى للحياة الاجتماعية والسياسية .. على الرغم من ذلك كله فقد كان للتحديد الذاتي، الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة، دوره الإيجابي الفعال، في ضمان أعمال البر والخير، التي تتمثل في إقدام الملايين من المسلمين بملء حريتهم، المتبلورة في إطار ذلك التحديد، على دفع الزكاة وغيرها من حقوق الله، والإسهام في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعي، فماذا تقدر من نتائج في ضوء هذا الواقع، لو كان هؤلاء المسلمون يعيشون التجربة الإسلامية كاملة، وكان مجتمعهم تجسيدًا كاملاً للإسلام، في أفكاره وقيمه وسياسته وتعبيرًا عمليًا عن مفاهيمه ومثله؟.
وأما التحديد الموضوعي :
نعني بالتحديد الموضوعي للحرية: التحديد الذي يُفْرَضُ على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج بقوة الشرع، ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية في الإسلام، على المبدأ القائل: إنه لاحرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.
وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الاسلام بالطريقة التالية:
أولاً : كفلت الشــريعـــة في مصادرها العامة النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية المعيقـــة – في نظر الإسلام – عن تحقيق المثـل والقيم التـي يتبنـاها الإسلام كالربا والاحتكار وغير ذلك .
وثانيًا: وضعت الشريعة مبدأ إشراف وليّ الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال .
وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضروريًا، لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مرّ الزمن.
فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه. فقد يكون القيام بعمل مضرًا بالمجتمع وكيانه الضروري ، في زمان دون زمان ، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة ، وإنما السبيل الوحيد هو فسح المجال لوليّ الأمر، ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة، ومحددة لحريات الأفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع وفقًا للمثل الإسلامي في المجتمع.
والأصل التشريعي لمبدأ الاشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في قوله تعالى:
﴿أَطِيْعُوا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(2).
فإن هذا النص دل بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر. ولا خلاف بين المسلمين في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الأسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم.
فللسلطة الإسلاميــة العليا إذن حق الطاعة والتدخــل ، لحمايــة المجتمع وتحقيــق التوازن الإسلامي فيه ، على أن يكــون هــذا التـــدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة .
فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا أو يجيز الغش ، أو يعطل قانون الإرث ، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي.. وإنما يسمح لوليّ الأمر في الإسلام ، بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها ، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقًا للمثل الإسلامي للمجتمع .
فإحياء الأرض واستخراج المعادن وشق الأنهار، وغير ذلك من ألوان النشاط والاتجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعــة سماحًا عامًا ، ووضعف لكل عمل نتائجـــه الشرعيــة التي تترتب عليها ، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من التصــرفــات أو يأمــر بــه في حدود صلاحياته كان له ذلك للمبدأ الآنف الذكر .
وقد كان رسول الله ﷺ يطبق مبدأ التدخل هذا ، حين تقضي الحاجة ، ويتطلب الموقف شيئًا من التدخل والتوجيه .
ومن أمثلة ذلك ماجاء في الحديث الصحيح أنه قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل ، أنه لايمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية : أنه لامنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، وقال: لاضرر ولاضرار(3).
وإن أبرز مثل على تدخل الدولة المسلمة في الشؤون الاقتصادية ، وغيرها من الأمور التي تسوّغ هذا التدخل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تفرع عنه ولاية الحسبة في الإسلام ، وسأفرد لكل منهما بحثًا مستقلاً فيما يلي هذا البحث.
المطلب الثاني: الحرية الاقتصادية في بعض بلاد الغرب:
إن مفهوم الحرية يختلف اختلافًا كبيرًا عند كثير من الناس ، وهو يتأثر بالبيئة التي وُجـِدَ فيها، لاختلاف الدوافع التي تدفع إليه ، وبخاصة فإنه يختلف باختلاف السلطات الحاكمة وما تعتنقه من مبادئ وتطبقه من تعليمات تجد فيها تنفيذًا للأسس الكبرى التي تدعو إليها، ولذلك فإننا سنجد شيئًا كبيرًا من الاختلافات في الأخذ بمفهوم الحرية لدى بعض الدول التي سنستشهد بها لاختلاف الأسس التي تعتمد عليها، وإنني سأستعرض مفهوم الحرية في بعض بلاد الغرب بصورة مختصرة تكفينا للتعرف على المراد من مفهوم الحرية في هذه البلدان .
الفرع الأول: الحرية الاقتصادية في الولايات المتحدة(4)
(لقد منحت الحرية الاقتصادية الفرد حرية البيع والشراء وحرية الإنتاج واستهلاك مايمليه عليه هواه ، وماتسمح به ثروته، فأصبحت الفردية الطابع الرئيس للعصر الاقتصادي الجديد، وكان هدف ذلك العصر (اقتصادًا حرًا) يتخذ فيه الأفراد القرارات الاقتصادية على أساس مصالحهم الخاصة مسترشدين في عملهم بالعلاقات القائمة بين أسعار السوق ، وكان على الحكومة أن ترفع يدها عن الجهاز الاقتصادي ، وأصبحت عبارات – دعه يعمل ، دعه وشأنه – الشعارات الاقتصادية الجديدة.
وكان التوسع الاقتصادي طابع ذلك العصر، فكان رجـــال الأعمال يتطلعـــون إلى الحـــريـة الكاملة كي يستفيدوا من الإمكانات غير المحدودة في الداخل والخارج ، وكان الصناعيون يكافحون ضد القوانين التي تحد من الإنتاج ، فقد أوجد نمو التجارة طلبًا متزايدًا على بضائعهم ، وكانوا يرغبون في إشباع هذا الطلب على طريقتهم الخاصة وحسب شروطهم أيضًا ، وقد ثار العمال على أجورهم وعلى حرية تنقلهم ، وهكذا أصبحت الحرية حركة اجتماعية تدعمها فئات عدّة من المجتمع .
ومن هذا القول يتبين لنا أن الحرية لم تكن مطلقة بالمفهوم الذي يريده مدّعو الحرية، وأن الدافع إليها كان إطلاق حرية الصناعيين ليزدادوا في مكاسبهم ، مما دفع بالعمال أن يثوروا على أرباب العمل وأن يبرز للوجود مبدأ الإضرابات العمالية، التي كثيرًا ماشلت الحركة الاقتصادية نتيجة لظلم أرباب العمل من ناحية ، وللإفراط من استعمال الحرية المزعومة التي كان يدفعهم إليها أصحاب الغايات والمخربون من ناحية أخرى .
الفرع الثاني : الحرية الاقتصادية في إنكلترا (5)
أما في إنكلترا فقد أخذ بعض المفكرين كآدم سميث وغيره ، يحضّون على الامتثال لنظام الحرية الطبيعية الواضح البسيط، وشاع الاعتقاد أن السلوك الاقتصادي هو سلوك طبيعي وتلقائي ، وأنه يخدم الصالح العام عندما توجهه مصالح الإفراد الخاصة .
وقيل إن هذه النظرية أوجدت توافقًا طبيعيًا بين المصالح الاقتصادية للفرد والمصالح الاقتصادية للمجتمع، فعندما يسعى المرء وراء مصلحته فإن (يدًا خفية) تدفعه إلى خدمة الصالح العام، وذلك على الرغم من أنه لم يكن يهدف إلى هذه الخدمة العامة .
وأكد سميث هذه النظرية بقوله:
(أن الجهد الطبيعي الذي يبذله كل إنسان لتحسين وضعه إذا ما تم في جو من الحرية والإطمئنان ، يكون قويًا لدرجة إنه قادر وحده ، ودون أية مساعدة على إيصال المجتمع إلى الثروة والرخاء ؛ بل وأيضًا على تخطي مئة عقبة لاضرورة لها تقيّد بها حماقة القوانين الإنسانية عمل المجتمع).
ويذهب دعاة الحرية الاقتصادية إلى القول بأن المصلحة العامة هي في الواقع عبارة عن مجموع مصالح الأفراد ، حين تترك لهم الحرية للسعي وراء أي هدف يختارونه والحرية في استعمال الموارد الموجودة تحت تصرفهم .
وقد بقي مبدأ (دعه يعمل) سائدًا في إنكلترا خلال القرن التاسع عشر، وانتشر في الاقتصاد الأمريكي مبكرًا متأثرًا بالثورة الفرنسية التي انتشرف مبادئها في الولايات المتحدة ولأن وفرة الأراضي والموارد الأولية، والتحرر من القيود المطبقة في العالم القديم شجعت على نمو درجة كبيرة من الفردية .
غير أن تدخل الدولة لم يكن منه بدّ لتخفيف الضغط عن طبقة العمال من فئات الصناعيين ، فاتخذت الدولة عددًا من الأوامر الملزمة لأرباب العمل وبخاصة فيما يتعلق بساعات العمل وبمقدار الأجور، وبعمل الأطفال والنساء . في المناجم وفي غير ذلك من الأعمال المرهقة .
الفرع الثالث : الحرية الاقتصادية في فرنسا
أن الثورة الفرنسية قلبت موازين القيم في كثير من البلاد وبخاصة في أوربا الغربية التي انتشرت فيها مبادئ هذه الثورة ، وأبرزها حرية العمل وحرية التنقل (دعه يعمل دعه يمرّ) لأن الشعوب كانت ترزح قبل قيام هذه الثورة تحت تسلط كثير من الإقطاعيين الذين كانوا يستغلون الأفراد دون رحمة، وكانوا يتملكون الأرض ومن يعمل عليها من المزارعين ، ويمنعون هؤلاء العمال من النزوح عن هذه الأرض تحت طائلة التهديد بالقتل أو الحرمان من القوت .
وقد لاقت هذه الدعوة إلى الحرية نجاحًا كبيرًا في أوربا الغربية والوسطى ومناطق أخرى لها علاقات سياسية أو اقتصادية مع العالم الغربي، وجاء مع الدعوة إلى الحرية الاقتصادية توسع في الصناعة وارتفاع مستوى المعيشة بشكل لم يكن لتعرفه هذه المنطقة من قبل(6).
وإن هذه الحرية التي تصوروها منقذة لهم من جور الإقطاعيين لم تكن عند حسن ظنهم بها، لأنهم افتقدوها بشكل أو بآخر عندما عادت فرنسا إلى الحكم الفردي وتسلط عليها نابليون بونابارت، وأخذ يدفع بأبناء فرنسا إلى الانخراط في سلك الجندية للقتال في الساحات العديدة التي افتتحها في أوربا وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، ثم تغيّر الحكم فيما بعد إلى شكل جمهوري كان له بعض الأثر على حرية التملك وحرية الإضراب، فأخذ العمال يتكتلون ويفرضون – في كثير من الأحيان – مداليبهم على أرباب العمل، خلافًا لما كان عليه الوضع قبل اندلاع الثورة، غير أن الحرية لم تكن مطلقة بالشكل الذي يتصوره بعضهم ، من أن الثورة تركت لكل فرد أن يفعل مايشاء . إن هذا التصور كان بعيدًا عن الواقع، ولذلك وجدنا عديدًا من القوانين صدرت فيما بعد عهد الثورة حددت من تصرفات العاملين في الحقل الصناعي والاقتصادي بشكل عام .
وإن هذه الحرية الاقتصادية التي برزت للوجود في دعوة بعض الاقتصاديين ، وعقب اندلاع الثورة في الولايات المتحدة ضد إنكلترا الدولة المحتلة آنئذ، وعقب الثورة الفرنسية لم تدم طويلاً، فقد تزايد عدد منتقديها الذين أبرزوا أخطار ومضار هذه الحرية التي أضرت بالوضع الاقتصادي بصورة لفتت الأنظار إليها، ومن الانتقادات التي وُجِّهَتْ إلى الحرية الاقتصادية أن الأفراد لايتحلون جميعًا بنفس المقدرة على كسب النقود، وكذلك لايوجد أمامهم جميعًا فرص متساوية للتقدم، ولذلك لم ينجح أولئك الذين لم يكونوا مجهزين تجهيزًا حسنًا للصراع الاقتصادي، ولم يكن أحد يكترث بهم؛ ولكن سرعان ماتبين أن عدد هؤلاء الأشخاص كبير.
وقد ظهرت مساوئ الاقتصاد الحر غير المقيّد في أوائل مراحل الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر، فكان العمال يعملون ساعات طوالاً في ظروف جائرة ، ولقاء أجر منخفض ، وكان تشغيل الأولاد منتشرًا، ولاشك أيضًا أن أوضاع العمال المادية كانت في كثير من الأحيان أفضل من الأوضاع التي مرّت عليهم في الأزمنة السابقة .
ولكن النزعة الانسانية النامية في القرن التاسع عشر الميلادي ثارت على الامتهان الإنساني الذي اتصفت به الأحياء الصناعية القذرة المزدحمة بالمساكن الحقيرة، فقامت في أكثر البلدان الصناعية فئات تدعو إلىالإصلاح مطالبة بتدخل الحكومة.
كانت القوانين التي تهدف إلى معالجة هذه الأمراض الاجتماعية من أولى خطوات التحول عن الحرية الاقتصادية في القرن التاسع عشر، فقُيّد عمل الأولاد، وخُفّضت ساعات العمل، واتُّخذت إجراءات لمنع الحوادث الصناعية .. وبمرور الزمن اتسع التشريع ليشمل تلك الفئات التي لم تستطع أن تحصل، في ظل النظام الاقتصادي التنافسي، على مستوى المعيشة الذي تريده لها الحكومة كحدّ أدنى للمستوى اللائق، وقد تتدخل الحكومة في جميع البلدان تقريبًا في سير الحياة الاقتصادية لتقطع الطريق على الأزمات، وذلك بمحاولتها تثبيت الأسعار والإنتاج والمحافظة على العمالة الكاملة .
الفرع الرابع : الحرية الاقتصادية في روسيا
كانت روسيا قبل الانقلاب الشيوعي دولة تنتشر فيها الإقطاعية ، ولم تكن الحرية معروفة فيها بمفهومها الحديث، شأنها شأن كثير من بلاد الغرب غير الصناعية، غير أن المذهب الشيوعي عندما تمكن منها قضى على كل معنى للحرية ، ولم يعد لهذه الكلمة من أثر سوى في التضليل الذي تنشره أبواقها في غير بلادها.
وفي الواقع أن نظام السخرة في المجتمعات الشيوعية هو النتيجة المنطقية لاحتكار سائر الممتلكات ، وبالتالي وضع اليد على منابع الثروات القومية ، بحيث لم يعد العامل مضطرًا لبيع عمله فحسب ، وإنما هو مجبر على بيعه بظروف خارجة عن إرادته . لأنه أعجز من أن يرى من يستخدمه بشروط أفضل . فالدولة هي المستخدم الوحيد، وما على العامل (الآلة أو البرغي) إلا الرضوخ بل الانسلاك في هيكل تلك المكنة العملاقة(7).
ويمكن القول بأن أشد ضروب الرداءة والإيذاء التي مارستها الرأسمالية في مطلع عهدها، هي دون وطأة الطبقة الجديدة على كاهل العامل. وكل مافي الأمر من وجهة نظر العامل أنه استبدل مستخدمًا فردًا بمستخدم جماعي . وكان في ظل المستخدم الأول له حرية التعبير عن استيائه – إن استاء – وحُرم هذا الحق في ظل مستخدمه الجديد.
فالإنسان في النظام الشيوعي عنصر إنتاج لاغير.
فاذا كان العامل من الناحية الفنية ، هو حر في النظام الشيوعي ؛ لكن استخدامه لحريته تلك أبعدٍ مايكون عن الواقع. وكيف يمكن للعامل أن يكون حرًا في مجتمع كل خيراته المادية من سلع وبضائع في قبضة واحدة بعينها ؟ مما تصبح معه القوى العمالية ذاتها بشكل مبــاشــر أو غيـر مباشـــر سلعــة في يد تلك الطائفة . وسعيد ذلك العامل الذي يفيد بشيء جزئي من ثمرات عمله .
وعلى الصعيد النظري المحض ، فإن مجموعة القوىالعاملة برّمتها هي أحد عوامل الإنتاج الاجتماعي؛ لكن الطبقة الحاكمة الجديدة باستخدامها المطلق للثروة القومية وعناصر الإنتاج فيها ، تطبق هذه القاعدة بالذات على الكائن البشري العامل باعتباره عنصرًا من عناصر الإنتاج لاغير. تجاوزة بذلك أي عامل من الإنسانية .
والمالك في النظام الشيوعي ليس فردًا بعينه، ليرفع العمال عقيرتهم بالاحتجاج ضده وإنما هو الجهاز العام للحكم ، الذي هيهات أن تميز هويته ، وفضلاً عن كل ذلك فإن هذا المالك جامع بقبضته الفولاذية سائر منابع الثروة ، وهيهات رفع الصوت بالاحتجاج ضده، لأن البوليس السرّي يرصد حركات وسكنات المواطنين فردًا فردًا .
فالاستئثار بالحكم والتمتع بالامتيازات المادية من قبل فئة محدودة مهيمنة على المجالات الاقتصادية والسياسية، ويدعمها بذلك نهجها في ميدان التخطيط الموجه ، الرامي إلى توطيد مركزها ودعم امتيازاتها الخاصة وزيادة حجم مصالحها الفردية، ليس في نطاق دولها فحسب، وإنما في سعيها للسيطرة على اقتصاديات العالم وإخضاعه لنفوذها كذلك.
إن هذه العوامل جميعها تعمل على تأخير رفع مستوى الحياة للفرد، وضرب الاتجاه الهادف الى تطوير الأوضاع الاقتصادية في الداخل بصورة منسجمة متكاملة .
أما فيما يختص بموضوع فقدان الحرية وانعدامها في الأنظمة الشيوعية، فإنه يظل العامل الأكبر في تخلف كثير من جوانب الاقتصاد السوفييتي، وانعكاسه على المستوى الاجتماعي.
وبذلك نجد أن قضية الحرية في ظل الانظمة الشيوعية، تتقدم لتأخذ دورها كمشكلة اقتصادية أولى ، تنعكس على التطور الاجتماعي والاقتصادي بأسره(8).
هذا وإن القادة الشيوعيين لهم مطلق الصلاحية في التصرف بكامل مرافق الدولة مثلما يديرون جميع قطاعات الاقتصاد، وبشكل يغاير تعاليمهم نفسها ويعارضه ، وذلك لأنهم يتصرفون حسب أهوائهم الفردية ومصالحهم الشخصية، وما يتفق مع وجهات نظرهم الخاصة، على الرغم من أن الميدان الاقتصادي يتميز عن كافة ميادين الأمة الاخرى بطبيعته التي لاتقبل أي استبداد فوقي أو تصرف شخصي بعيد عن الدراسة والموضوعية(9).
* * *
الهوامش :
- من كتاب (اقتصادنا) للاستاذ محمد باقر الصدر ص 260.
- سورة النساء الآية: 59.
- المرجع السابق ص 263.
- من كتاب (علم الاقتصاد الحديث) لمؤلفيه: آرثر ادوارد بيرنز والفرد نيل و. د. واطسوان ترجمة برهان الدجاني وعصام عاشور.
- المرجع السابق بشيء من التصرف ص 61/62.
- المرجع السابق ص 65/67.
- من كتاب (الطبقة الجديدة) لمؤلفه ميلوفان ديجلاس ص 145 نشر دارالكتاب العربي بيروت ص 145 وما بعدها.
- المرجع السابق ص 160.
- المرجع ذاته ص 162.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1427هـ = يوليو – أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.