الأدب الإسلامي 

بقلم : الدكتور/ جمال الدين الفاروقي(*)

المقدمة :

       إنّ أكبر حدثٍ شهده العالم منذ القرن السابع عشر هو قضيّة الاستعمار؛ حيث بدأت القوات والدول الأوروبية تسيطر على الدول الضعيفة في القارة الآسيوية والإفريقية عن طريق الاستعمار والاستيطان الذي يهدف إلى مَحْوِ شخصية وهويّة الشعب الأصلي في دولة . وفي الحقيقة لم يكن الاستعمار إلا بقيّة من بقايا عناصر الحروب الصليبية التي شنَّتْ هجمات شعواء ضدّ المسلمين ببلاد الشرف ، والتي وضعتْ أوزارها عام 1291. وكانت الهزيمة التي لحِقَتْهم في تلك الحروب جَعلَتْهم يفكّرون بِكُلِّ جِدِّيَّةٍ في تنفيذ خُطةٍ أخرى ذات الأثر البالغ في تَهْمِيشِ المسلمين العرب ، يدلُّ عليه ما قاله الملك لُويس التاسع ، قائد الحروب الصليبية : «إن قُواتنا وأسلحتنا لاتُفيد شيئًا في هجومنا على المسلمين، وأقلُّ ما يجب علينا هو أن نردّهم القَهْقَرَى من عقيدتهم التي هي كلُّ قُوتِهم ومَصْدَرُ ثِقَتِهِمْ» ولم يكن عام 1291 خِتامًا لتلك الحروب ، بل بَقِي لديهم الكَثِيرُ والمُثِيرُ في جُعْبَتِهم؛ ولكن المجتمع الإسلامي لم يَفْطَنْ إليهم إلا في عام 1917؛ حيث هاجم القائد الإنجليزي (Lamby) بقواته على القدس، وصاح قائلاً : الآن اِنْتَهَتْ الحرُوبُ الصَّليبيّة .

       وما احتلال «نابليون» إلا مرحلةُ نُضوج الاستعمار، تَمَّ فيها حَصَادُ ما بذروا من قبلُ. وبالتالي قَسَّمُوا البلاد الشرقية بين بريطانيا وفرنسا، وذلك بِمُوجَبِ مَيثَاق (سَاكْسْ بَاكُو)؛ حيث صارت مصر والسودان والعراق وفلسطين وإيران ونيجيريا في قبضة بريطانيا ، كما سَيْطَر الفرنسُ على سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا والسينغال وإفريقيا الشمالية. وصارت هذه البلاد تَرْزَخُ في بَرَاثِنِ الاستعمار الغاشم ، اِسْتَغَلَّ رجالُهم فَقْرَ أهل الشرق وجهلَهم وضَعْفَ الوعي السياسي لديهم ليَتَخِذُوا من ذلك مَدْخَلاً للقيام بعمليّة الغَزْو الفكري والثقافي الذي هو أدْهَى وأَمَرُّ من القنابل النَوويّة .

       وأهدافُ الاستعمار في العصر الحاضر لاتختلف كثيرًا عن أهدافهم في الماضي الغَابِرِ. وهُمْ لا يأتون لعملٍ خيريٍّ ؛ بل لهم أعمال من دون ذلك هُمْ لها عاملون . هذا ما فعله «نابليون» يَوْمَ دخل مِصْر، وما كان فعله – ولايزال يفعله – بُوشْ يوم هَدَم العِرَاق .

       وقد نجح الاستعمار إلى حد كبير في تحريف مفهوم المُصْطَلَحات الأدبيّة . وعلى سبيل المثال: الحَدَاثـَةُ التي طالما نسمع في المجال الأدبي والتي يَنْشُدها الكتاب والشعراء لِتَجِدَ أعمالُهم الأدبيةُ المزيدَ مِن القبول والرواج . والحداثـَةُ في الحقيقة ليست إلاّ النظر إلى تجارب الحياة برؤية إِبْدَاعيّه هادفة مُسْتَقِلّة ، بهدف تطوّر الفكر وغرس النزعات الفعّالة لبناء القِيَم والسلوك ؛ ولكن المفهوم الاستعماري الغَرْبي للحداثة يَنْطلِقُ أصْلاً من القطيعة من الماضي وتُراثه العتيق العريق ، زعمًا منهم أنه أساطير وخُرفات كما يرونها ثَوْرةً على القِيَم وإشاعةً لروح التفسخ والخلاعة .

       كما أغاروا باسم الحداثة على اللغة العربية بذاتها. وهي – كما نعلم – اللغة الوحيدة التي احتفظت بتراث أربعة عشر قرنًا ، بدون  أن يصيب أصالتها وهويّتها شيء . إلا أن مذهبًا في نهاية القرن الثامن عشر قام بدعوة إلى نشر اللغة العربية العامّية. وأول من تولّى كبرها (William Spita) صاحب كتاب «قواعد العربية العاميّة في مصر» كما طعن السيد William Cocks في كيان اللغة العربية قائلاً: إن سبب تقهقر المصريين هو عدم قدرتهم للتعبير الأفصح. وقد عرف منهم العالم العربي مخبوء ضميرهم ؛ حيث قال قائلهم: «الفصحى لغةُ أجيالٍ مضى عهدُها» . وغرضهم الأثيم من وراء الستار واضح : هو إيجاد الفرصة للتدخل في لغة القرآن والحطّ من شأنها وتحويلها إلى مستوى العامية حتى يبدأ الناس يتشككون في صحة لغته .

       وبفضل الوعي الاجتماعي الذي ساد أهلَ الشرق في أوائل القرن الماضي وبمقاومتهم المستمرة، أستقلت تلك البلاد من قبضتهم ، إلا أن فلول تلك القوات نجحوا تمامًا في تنفيذ خطتهم الاقتصادية بين قاطني الشرق ؛ حيث نرى أسواق الدول العربية مائجة بالمنتجات الغربية ، وما من مؤسسة تجارية في الغرب إلا وهي تغزو بمنتجاتها أسواقَ الدول العربية سعيًا وراء الاستقرار الاقتصادي بجلب العملات الأجنبية .

الاستعمار في المغرب العربي :

       أما بالنسبة إلى المغرب العربي فإنّ كل مناطقه قد تعرضت لأعمال العنف الاستعماري في فترات متقاربة ؛ حيث احتل الفرنس الجزائر عام 1830، وولتها تونس ، وأوغلوا فيها عام 1881، كما قاموا باستيطان المغرب عام 1912، ويختلف الاستعمار الفرنسي في هذه المناطق من نظيره في مصر من حيث طبيعته والوسائل التي تذرّع بها . وفي مصر كان دخولهم بمثابة ومضات النهضة العلمية التي هبت البلاد على ضوئها . وقد حمل «نابليون» ومن معه على مناكبهم أعباء تلك النهضة، في حين نرى الفرنس كانوا يختطفون بمخالبهم هوية وثقافة المغرب العربي بصفة عامة وهوية اللغة العربية بصفة خاصة . يد لنا على ذلك قول الوزير الفرنسي صالفندي (Salvandy) وهو يخاطب الأطباء العسكريين عام 1846 حيث قال فيه :

       «مما لاشك فيه أن الحكومة الفرنسية تعترف لكم بجميل إخلاصكم في معاملتكم للجنود ، غير أن لكم مهمة أخرى أكثر أهمية . أنتم مدعووّن إلى القيام بها . وهي مؤازرتكم بقسط كبير في العمل على إدخال حضارتنا في بيئة القبائل العربية والبربرية».

       وامتدادًا لهذه الخطه المسمومة عمدوا إلى محاربة اللغة العربية عن طريق القضاء على مراكز الثقافة العربية وإبعاد المواطنين عن التعليم فيها ونهب التراث العربي الموجود في مكتبات المغرب حتى عشّش الجهلُ بين أبنائها وكاد يتم استئصال الهيكل الفكري والثقافي للشعب المغربي ، كما نتج عن ذلك أن صارت المغرب في عزلة عما يحدث في المناطق الشرقية.

       ومن الجدير بالذكر أن الأمة العربية تتميز عن غيرهم من الأمم من حيث التواصل والترابط فيما بينهم . لأن الشعوب العالمية الأخرى إنما يتم الأندماج والالتئام بينهم بوجه من الوجوه : إما بآدابهم أو بلغاتهم أو بتقاليدهم أو بديانتهم أو بقوانينهم العرفية ، ولكن الأمة العربية التأمت وتوحّدت في جميع هذه الميادين . وتجريدهم من هذه الثقافة المتجذرة هو الأول والأهم في جدول أعمال الاستعمار. وليس شيء أقسى على الشعب من أن يجدوا أنفسهم بلا هويةٍ ولا كيانٍ .

       ولقد نهضت المغرب الأقصى لنجدة شقيقتها الجزائر لما وقعت في شبكة الاستعمار، مما جعل رجالَهم يحقدون على المغرب ويسومونها أسوأ العذاب . وفي سنة 1844 نشبت الحرب بينهم وبين القوات المغربية وأمكنتهم الفرصة لترسيخ أقدامهم في أرضها . ومن جِهَةٍ أخرى أعلنت إسبانيا حربًا على المغرب ، زعمًا منها أنها اعتدت على بعض أراضيها، وفي سنة 1860 أخذوا منها حديقة (تطوان) وهذه الحادثة مهّدت لهم الطريقَ ليثبتوا هيمنتهم السياسية على المغرب من جديد . وزادت هذه الهيمنة بصورة أكثر استقرارًا عقب توقيع الاتفاقية الذي تمّ عام (1912) والذي بموجبها دخل المغرب قهرًا وكرهًا في حماية فرنسا.

       ولكن سرعان ما فَطِنَ أهلُ المغرب إلى الأخطار المحدقة بهم ، ونهض منهم جماعة ، ممن تأثـّروا بالحركة الإصلاحية التي تَبَلْوَرَتْ في دعوتهم إلى مبادئ الوطنية الحرة وضرورة الاصطفاف للحصول عليها . وكان زمام هذه المبادرة في يد الشيخ أبي شعيب الدكالي المتوفى سنة 1356. وقد أدركوا أن الاستعمار يعملون لإرضاء أصحاب الطرق الصوفية المشوّهة ويساندونهم ليأمنوا به شرَّ العامة . وقد كان لدعوته وقعٌ طيب في نفوس المواطنين ، واهتزّ لها العامة والخاصة ، ولم ينطووا على أنفسهم متشائمين ، بل حملوا بأنفسهم أعباءَ النهضة بكل تفاؤل وثقة علمًا منهم أن مافي الغرب من حضارة وثقافة إنما أساسه العلم والتفاني فيه . وأن سلطة العلم هي أقوى من سلطة المال والسياسة. وأصبحت المكائد والمحن الاستعمارية بمثابة موقظٍ لهم من سباتهم . ويتمثل روح هذه النهضة في البعثات التي أُرْسِلَتْ إلى جامعة أوروبّا وبلاد الشرق واهتمام المواطنين بانشاء المدارس العصرية وتزويد أبنائهم بالعلوم والثقافة التي ألحقتهم بركب الحضارة الحديقة . ولكن سلطات الحماية الفرنسية وقفت عائقًا لهذه الانطلاقة ؛ إذ كانوا يقعدون لهم كلّ مرصدٍ ، ويحسبون كل صيحةٍ عليهم. ولم يسمحوا لهم بتقرير ومصيرهم الذاتي .

       وقد ساعدت على هذه النهضة وجعلتها قوية تلك الرياح التي هبّت عليها من مصر؛ حيث بلغت النهضة أوجَ قمتها بفضل الجامعات والمدارس والصحافة والمجامع العربية . إلا أنّ بقاء المغرب لفترة طويلة على الجمود الثقافي من جراء الحماية الفرنسية جعل للُّغة العربية تيارين : تيار اللغة الإداريّة التي كان يتناولها الخاصة واللغة المحلية الدارجة التي نطق بها العامة . والتي لاكيانَ لها في القراءة والكتابة .

       وإذا تأملنا من هذا المنطلقَ نرى أنّ الاستعمار كان يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات ؛ حيث كان حافزًا إلى حدٍّ كبيرٍ لتغيير مجرى حياة الشعب المغربي تمثلت هذه الايجابيات في نهضة الأدب العربي: اذ تطوّر الأدب وتقدم حتى وسع حقولاً جديدة وأغراضًا متنوعة ؛ وأما السلبيات فإنها تمثلت في الفتور الذي كان يسود الشعب المغربي والذي كان يستثمره المستعمرون لمصالحهم الذاتية. وبالنسبة إلى الأدب المغربي فإنّه قد تأثّر بكل ما حدث في إطار الاستعمار، ليس بما حدث في أرضه فحسب ، بل كان هذا التأثر أوسع وأشمل لجميع المناطق الشرقية التي وقعت في هوة الاستعمار واحدة تلو أخرى . فمن الطبيعي إذًا أن تكون آلامهم وأحلامهم متماثلة متقاربة . فليس الأدب إلا انعكاسات تجارب الحياة ، وكلما تكون معاناة ومضايقات تكون انعكاساتها أرهف وأحدّ . وتتجسد هذه المضايقات في أعمال العنف والتفرقة العنصرية التي كان يمارسها الغرب والتي ترددت أصداؤها في كل أرجاء الحياة المغربية . وصارت قرائح الشعراء بمثابة أبواقٍ تتلقى تلك الأصداءَ . ومن هذا القبيل قول الوزير محمد بن إدريس وكان يدفع المواطنين إلى الجهاد :

يَا أَهْــلَ مَغْـــرِبِنَـــا حَــقَّ النَّفِيــرُ لَــكُمْ

إِلَى الجِهَــادِ فَمَا فِــي الْحَــقِّ مِنْ غَلَط

فَالشِّرْكُ مِنْ جَنْبَاتِ الشَّرْقِ جَاوَرَكُمْ

مِنْ بَعْــدِ مَا سَــامَ أَهْل الدِّيْنِ بِالشَّطَط

فَــلاَ يَغُــرنـَّكُـــمْ مِــــنْ لِيْــــنِ جَانِبـِــــه

مَا عَــادَ قَبْــلُ عَلَى الإِسْــلاَمِ بِالسَّخَط

مَنْ جَــاوَرَ الشَــرَّ لاَيَعْــــدَمُ بَــوَائِـقَـــــه

كَيْفَ الْحَيَـــاةُ مَـــعَ الْحَيـَّاتِ في سَقَط

            وتعكس هذه الأبيات مدى تأثره بما قد جرى حوله من وحشيات الاستعمار كما قام برثائه على «تلمسان» حينما سقط في أيدي الفرنس . وهو أقرب في تعبيره وأسلوبه فيه إلى رثاء الأندلس للشاعر / الرندى ؛ حيث يقول فيه:

مَصَــــائِبُ صُبَّتْ عَلَىٰ مَعْشَـــــرٍ

يَبْكِيْ مِنَ الإِشْفَاقِ مِنْهَا الْجَمَادْ

يَكَادُ يَقْضِيْ الْمَـــرْءُ مِنْ مُــرّهَا

عَلَىٰ حَشَاهُ وَتَــــذُوْبُ الطِّــــلاَدْ

إِخْــــوَانُكُمْ دِيْنـًا وَجِيْــــــرَانُكُمْ

أَضْحَوْا رَعَايَا الشِّرْكِ بَيْنَ أَعَــادْ

       وحينما اصطاد الفرنس مدينةَ «تَطْوَان» قام الشاعر / أفيلال برثائه المؤثر وقال:

يَا دَهْرَ قُلْ لِيْ عَلاَمَــهْ        كَسَرْتَ جَمْعَ السَّلاَمَهْ

نَصَبْتَـــــه لِلـــــدَّوَاهِـيْ           وَلَمْ نَخَفْ مِنْ مَلاَمَــهْ

مَالدِّيْـنُ يَبْـكِيْ بـِـدَمْعٍ        يَحْكِيْهِ صَوْبُ الْغَمَامَهْ

عَلَى مَساجِدَ أَضْحَتْ                   تُـبَـــاعُ فيها المُـــدَامَــــهْ

       ونرى روح التحمس والتفاني لأجل الحربة في شعر الشاعر محمد المشرفى والشاعر طاهر الايغراني، وذلك حينما استدت إِرهاصات المستعمرين في عهد الحماية، كما أن أدباء المغرب وُفِّقُوا للتوجيه بأعمالهم الأدبية إلى إصلاح شؤون المجتمع وقيادتهم إلى طريق العلم والصحوة مستلهمين عناصرها من ثقافتهم المصهرة بالثقافة الفرنسية . يدل على ذلك الأعمال النثرية التي قام بها الأدباء من أمثال محمد السليماني ومحمد الأوراوي وعبد القادر الوزاني .

       وقد سار المغرب في نهضته الأدبية على قبسٍ من نور الإيمان والثقة بأنفسهم ونزعة الانتقام من المستعمرين. وهاهو ذا الشاعر/محمد السليماني يقول:

حُمَاتَ الدِّيْنِ هُبُّوْا مِنْ سُبَاتِ

فَمَــرَكَزُنَا يَؤُوْلُ إِلَى الَخَرَاب

       إلى أن قال:

بَنِي الْعِلْمِ الرُّعَاةُ أَلاَ أَفِيْقُـــوا

فَإِنَّ الشَّاةَ في وَسَطِ الذِّئَاب

       وتُجِسِّدُ قصيدتُه هذه، الأهوالَ والمخاطرَ التي حدثت عَقِبَ الاستعمار الفرنسي. وفي فجر النهضة كان الشعراء يجندون أقلامَهم يشحذون قرائحهم لتجسيم الخطر الاستعماري والتنبيه إلى ضرورة التحرك ضدّهم ، وموقفهم هذا يجعل أعمالهم الإبداعية من الأدب الملتزم. وأبياتُ الشاعر/ محمد بن عبد الصمد كنون من هذا القبيل: وهو يقول:

أَفِيْقُوا مِـــنْ سُبَاتٍ طَالَ جـِـــــدَّا

وصُونوا واحْفَظُوا لِلْمَجْدِ عَهْدَا

كَفَاكُمْ مَا أَحَــاطَ بِكُمْ كَفَاكُمْ

فَـــرُكْنُ فَخَـــــارِكُمْ وَاللهِ هُــــدًّا

نَــــرَىٰ أُمَمَ التَمـــدُّنِ فِي ارْتقَـاءٍ

وَنَحْــــنُ كَأَنَّنَــــا نخُــطُّ عَمَــــدًا

       وكانت الأحداث التي اختنق منها المغرب بمثابة وابل أصاب ضمائر شعرائه ، فتفجرت منها خيالاتُهم مما وجد أهله ضالّتهم المنشودة من قوة وتحمسٍ لمواجهة الاستعمار، ولما انتصر الترك على الرومان كان ذلك تهديدًا للفرنس وفي هذا المضمار يقول محمد المجزولي :

ضَـــرَاغِمَـــةَ الإِسْلاَمِ أَرْعَبْتُمُ الْعِـــدَا

وَأَسْقَطْتُمْ شَيْخًا وَرَاهُــــمْ تَرَصُّــــدَا

رَأَىَ الاَسَدُ الضَّارِي الَّذِيْ كاَنَ رَابِضًا

تَجَمَّعَ ثـُمَّ امْتَدَ وَانْحَــطَّ مُــزْبِــــــدَا

ظَنَنْتُمْ بِأَنَّ الْحَـــرْبَ يَــــوْمٌ وَلَيْلَـــــةٌ

وَنُــزْهَــــةُ جَيْشٍ جَاءَهَا مُتَصَيِّــــــدَا

وَمَا الْحَــــرْبُ إِلاَّ مَا رَأَيْتُــمْ وذُقْتُم

وَمَا ذُقْتُمُوْهُ الْيَوْمَ تَلْقَوْنَــــه غَــــــدَا

       وقد ترك الاستعمار أثرًا بعيد المدى في مشاعر شعراء المغرب وأضرم فيهم التحمس والثبات وروح التضحية ونراهم دائمًا يقومون بتوعية المواطن بهذه الصفات كما يلمح ذلك في أقوال أبي بكر بناني:

يَا بَنِي الْمَغْـــرِبِ هَيَّا لِلْقِتَـالِ

وَاسْتَعِدُّوْا لِلْوَغَىٰ قَبْلَ النِّـزَالِ

يَا بَنِي الْمَغْـــرِبِ هُبُّوا هَبَّـــةً

وَاضْرِبُوْا وَجْهَ فَرنْسَا ضَرْبَةً

       فقد كان المواطنون المغربيون الغيورون يردّدون هذه السطورَ في جولاتهم وصولاتهم ، وكأنهم رأوها بمثابة نشيد وطنهم ، ونراهم ينهضون للقتال ضد الاستعمار حتى انقصروا عليهم ، ولنستمع إلى ما يقول محمد بن اليمني الناصري وهو يسخرمنهم ويمجد إنجازات وطنه قائلاً :

اُنْظُــرْ لِمَا تَلْقَى فَــــرَنْسَا مِنْــــهُ إِذْ

قَصَدَتْ بِشَامِخِ مَجْدِه اِسْتِخْفَافَا

جَاءَتْ بِمُعْظَمِ جَيْشِهَا وَعُتَـادِهَا

فَاسْتَنْـــزَفَتْـــهُ رِجَـالَـــه اِسْتِنْـــزَافَا

       ومع استهلال سنة 1930 شهد المغرب تيارات الحركة الوطنية التي قدمت إلى الوجود جيلاً جديدًا ، وذلك بعد أن تزعزعت أركان الاستعمار بفضل انتشار الاشتراكية في الغرب، وبعد أن عمدوا إلى تقسيم المغرب قسمين : قسم يشمَل المدن وبعض القبائل التي يتكلم اللغة العربية وهم ينتمون إلى المذهب المالكي . وآخر سكان مناطق جبال الأطلس والبلاد التي تتكلم اللغة البربرية ؛ حيث انتشر بعضُ الفرق الفرنسية ، ولكن سياستهم هذه قد أحدثت رد فعل عنيف من قبل المواطنين في كلا القسمين .

       ولعل الشاعر أبا القاسم الشابي هو الوحيد الأكثر صراحة في أشعاره ضد المستعمرين . وهو وإن كان تونسيًا إلا أنه كان يجسّد كل ما يعاني منه أهل المغرب العربي بصفة عامة وهو يقول:

أَلاَ أَيُّهَــــا الظَّالِـــمُ الْمُسْتَبـِـــــــدُّ

حَبِيْبَ الظَّــلاَمِ عَـــدُوَّ الْحَيَــــاةِ

سَخِـــرْتَ بأَنَّاتِ شَعْبِ ضَعِيْفٍ

وَكَفُّكَ مَخْضُــوْبَـــةٌ بِالـــدِّمَـــاءِ

وَسِـــرْتَ تُشَــوِّهُ سَحْـرَ الْوُجُــودِ

وَتَبْــذُرُ شَـــوْكَ الأَسَىٰ في رِبَـــاهُ

رُوَيْـــدَكَ لاَ يَخْــــدَعَنَّكَ الـرَّبِيْعُ

وَصَحْوُ الْفِضَاءِ وَضَوْءُ الصَّباحِ

سَيَجْرِفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّمَـــــاءِ

وَيَأْكُلُكَ الْعَــاصِفُ الْمُشْتَعِـــلْ

النشر العربي المغربيّ :

       لقد تأثر النشر المغربي أيضًا بالاستعمار حيث تصدى الكثير من الكتاب الذين شحذوا أقلامهم بفكرتهم الانتقامية من الفرنس . وفي هذا الصدد يكتب المكي الناصري :

       «يضحكني والله ما يقوله المتسعمرون المنافقون من مهاترة وسفسطة لاحدّ لهما ، فلا أرى في الحماية إلا جناية ما فوقها جناية ولا أرى في الاستعمار إلا جريمة لاتعد لها جريمة على وجه الأرض». ونراه يحطّ من شأن الفرنس ويستهزؤهم أيما استهزاء؛ لكلماته الحادة التي تعرف المجاملة؛ حيث يقول:

       «إن الدم ليحترق في قلوبنا وإن حرارة أنفسنا بلغت أعلى درجة الارتفاع، فلم نعد قادرين على العيش تحت ظل هذه الحماية المفروضة علينا.. وإن الشعب المغربي من أقصاه إلى أدناه ليحتدم سخطاً وحنقًا على حماته المنافقين».

       وأما بالنسبة إلى القصة والمسرحية فلم يكن لهما أثر كبير قبل النهضة الحديثة . والفضل في تطور هذه الفنون يرجع إلى احتكاك المغرب بالفرنس حيث نقلت إلى أرضه تلك الصور المستحدثة للقصة والمسرحيات ، شأن غيره من البلاد الشرقية .

       وحتى القصة تحركت بالشعب المغربي نحو الاتجاه السائد ، وهو الحرية والاستقلال واللا استعمار الذي تغني به شعراؤه . والكاتب المغربي عبد المجيد بن جلون يبرز في أعماله القصيصة هذا الجانب الحيوي ويقول تحت عنوان (وادي الدماء) «وتفتحت قلوبنا الصغيرة للربيع، وكانت الطبيعة تقدم إلينا أعز ما فقدناه في المدينة : وهو الحرية. كانت تتمثل لنا في السماء والأرض وفي كل كبيرة وصغيرة .

       وكانت أول محاولة روائية في المغرب، «في الطفولة» لصاحبها عبد المجيد جلون السابق ذكره. تلتها رواية عبد الكريم غلاب بعنوان «دفنا الماضي» حيث يصوّر فيها الفترة التاريخية ما قبل استقلال المغرب بما فيها من مكافحة ومقاومة الشعب ، وله رواية أخرى بعنوان «المعلم علي» التي يرسم فيها الصراعات الاجتماعية في غضون الاستعمار بمدينة فاس .

       كما هو الشأن في رواية «بوتقة الحياة» و «المخاض» وكلاهما للبكرى أحمد السباعي . وهما بمثابة مرآة تنعكس فيها مهاجمات الاستعمار على التراث المغربي المكتون . وكذلك نجد الرواية «جبل الظمأ» و «إكسير الحياة» للكاتب / حمد عزيز الحبابي، وكلاهما تصوير للجانب الاجتماعي المغربي ودعوة إلى الإصلاح ورفع مستوى العيش.

       وفي الجملة يمكن القول إن الأدب المغربي بمختلف أنواعه قدّم نموذجًا فريدًا للصمود أمام الإحتلال السياسي والثقافي .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.


(*) محاضر كلية دار الأيتام المسلمين ويناد ، وعضو المجلس الأكاديمي بجامعة كالكوت ، كيرالا ، الهند.

Related Posts