الفكر الإسلامي
بقلم : د. عبد الرحمن الحوراني
عندما يتحدث القرآن الكريم عن مبادئ الثواب والعقاب ، فالمسلم يعلم تمام العلم أنه يتحدث عن عدل إلهي مطلق . عدل في منتهى الدقة يزن بالميزان الرباني الدقيق ﴿فَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ﴾ . ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَّرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَّرَه﴾ .
فتلك قدرته سبحانه وتعالى الحكم العدل ﴿الَّذِيْ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ وفي الوقت الذي يقر فيه المسلم «أنه بشر ضعيف خطاء فإِنه يدرك يقينًا عظمة ربه القوي المتعال الذي كتب على نفسه الرحمة ، فهو الرحمن الرحيم لطالب الرحمة ، التواب الغفور ، الغفار العفو ، الحليم الكريم . لسائل التوبة والمغفرة يفتح أبوابه للتوبة والعودة ، ويبسط يديه للمغفرة والعفو . ينشر رحمته على جميع خلقه ويختص بها من يشاء . إنّ دعاء المسلم الحق «اللهم عاملني برحمتك لا بعدلك» .
ولذلك فإن كان لأخطاء البشر على بعضهم البعض حدود عقوبة معينة محددة كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوْا بِمِثْلِ مَا عُوْقِبْتُمْ بِه وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّـٰـبِرِيْنَ﴾ . (النحل آية: 126)
(ولقد كان رسول الله ﷺ أول الصابرين في مقتل عمه حمزة رضي الله عنه) ، فإن ثوابه سبحانه وتعالى للحسنات يتضاعف عشرات ومئات وألوف بل إلى مدى لا كيل فيه ولا ميزان . يقول سبحانه وتعالى : ﴿فَأُولـٰـئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوْا﴾ آية 37 سورة سبأ). ﴿مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزٰى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَيُظْلَمُوْنَ﴾ (الأنعام : الآية 160) ﴿اِنْ تَقْرِضُوْا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُّضَاعِفُهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ (التغابن آية: 17) ﴿مَنْ ذَا الَّذِيْ يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه وَلَه أَجْرٌ كَرِيْمٌ﴾ (آية: 11 من سورة الحديد) ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيْدُوْنَ وَجَهَ اللهِ فَأُوْلـٰـئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُوْنَ﴾ (آية: 39 سورة الروم) . ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِيْ كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾. (آية: 261 من سورة البقرة) ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصّـٰـبِرُوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آية: 10 من سورة الزمر).
والثواب كما هو واضح في الآيات ليس تضعيفًا فقط بل تلازمه المغفرة والأجر العظيم . ولذلك فإِن المسلم يستشعر بأن مثل هذا الثواب ليصلح الفرد والمجتمع . ويستشعر المؤمن أن الفضل كله لله فهو سبحانه وتعالى الذي يسر له تقديم الحسنة وعمل الخير لنفسه ولإخوته في المجتمع الإنساني . يقول سبحانه وتعالى : ﴿لَنْ يَّنَالَ اللهَ لُحُوْمُهَا وَلاَدِمَاؤُهَا ، وَلكِنْ يَّنَالُهُ التَّقْوٰى مِنْكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّروا اللهَ عَلىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِيْنَ﴾ (آية: 37 الحج).
كذلك يتيقن المسلم أن شدة العقاب في الآخرة بالذات هي تحذير وإنذار سبق له حتى لا يقع في المعصية . يقول سبحانه وتعالى : ﴿مَايَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيْمًا﴾. (آية 147 من سورة النساء) .
ولقد علّم القرآن الكريم إنسانه أن البشرية عرفت في أجيالها المتعاقبة أحكام الشرائع السماوية التي تضمن العدالة وتضمن كرامة الإِنسان وتكفل له حق الحياة ، وحماية الدين والعرض والأهل والأرض ، والوطن والمال . كما تضمن صيانة العقل والقلب وتهذيب الغرائز والجوارح ، وتوضح مدى الحرية التي يرتضيها الله له في الفكر والعمل وتبين أنواع العلاقات التي تقوم بين أفراد الأسرة ذاتها وبين المجتمع وبين الحاكم والمحكوم ؛ بل والعلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى . وعلى سبيل العبرة والاعتبار والتبصر يظل القرآن الكريم يتلو على الأجيال المسلمة جانبًا من أنباء الطائعين والعاصين من الأمم ومآل كل فريق .
والمسلم الحق يؤمن بالشريعة الإسلامية منهج حكم ونظام حياة وقمة عدالة ، وهي حين تقرر عقوبة لجناية يتقبلها بعقله وبقلبه ويعلم أن حياة البشر والمجتمع والأسرة لن تستقيم أو تصل إلى حد مقبول من الاستقامة إلا بإقامة حدود الشرع . وهي عقوبة مقررة ليست في الشريعة القرآنية ولكن في الشرائع الأخرى التي سبقتها . وإن ما كُتِمَ منها أو حُرِّفَ فقد جاء القرآن الكريم – الكتاب الذي تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه – بتسليط النور الكاشف على محتويات الكتب السماوية ، فأقر صحيحها وصحح سقيمها .
ونستعرض بإيجاز حدود العقاب للجنايات الرئيسية في القرآن الكريم مثل القتل والفساد في الأرض والزنا والسرقة وشهادة الزور وشرب الخمر والردة عن دين الإسلام .
- في عقوبة القتل المتعمد للنفس أو تدمير جزء منها :
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فَيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوْحَ قِصَاصٌ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولـٰـئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ﴾ (آية: 45 من سورة المائدة) .
(ب) وفي عقوبة حد الزنا للمحصن أو المحصنة إذا كان برضى الطرفين فالحد هو الرجم ، وأما غير المحصن وغير المحصنة فالحد هو الجلد . ولكن بعد إثبات مايمكن أن يسمى شبه مستحيل لعملية المواقعة : ﴿وَلَوْلاَ جَآءُوْا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فإِذْ لَمْ يَأْتُوْا بِالشُّهَدَآءِ فَأُولـٰـئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (آية: 13 من سورة النور) .
(ج) وفي عقوبة السرقة (إذا بلغت حدًا معينًا) ولم تكن الأسباب سد حاجة البقاء التي لم يضمنها له مجتمعه في عمل مشروع أو صدقة أو زكاة .. لأن هذه العقوبة هي لمن يتكاسل ويتطاول أو يسطو ويحترف . ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوْا أَيْدَيَهُمَا جَزْآءً بِّمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ ، فَمَنْ تَابَ مِنْ بَّعْدِ ظُلْمِه وَأصْلَحَ فَأِنَّ اللهَ يَتُوْبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيْمٌ﴾ (آيات: 38-39 من سورة المائدة) .
(د) وفي شهادة الزور والقذف : يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَالَّذِيْنَ يَرْمُوْنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوْا بِأَرْبَعَةٍ شُهُدَآءَ فَاجْلِدُوْهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً وَّلاَ تَقْبَلُوْا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُوْلـٰـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُوْنَ ، إِلاَّ الَّذِيْنَ تَابُوْا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورُ رَّحِيْمٌ﴾ (آيات: 4-5 من سورة النور) .
(هـ) وفي عقوبة شرب الخمر:
عقوبة شارب الخمر هي الجلد والتعزير . وحكمة تحريمها جاءت في قوله تعالى :
﴿إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُّوْقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهَ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُوْنَ﴾ (سورة المائدة:91)
والمجتمع الغربي المسيحي هو أكثر المجتمعات معاناة من هذه الآفة .
(و) الردة :
إن الذي يرتد عن دين الله – دين الإسلام – ويصر على الإنكار والجحود من بعد ما عرف الإسلام ، لأنه ترك الحق عامدًا متعمدًا ، فلن يتبع إلا الضلال ، فهو خطر جسيم على المجتمع . ومعرفته بأن عقوبة ردته القتل ، فإن ذلك قد يُمسك عليه دينه فلا يتبع الشك والتردد وإما أن يخرج نهائياً من ديار الإسلام فيريح ويستريح ، وإما ان أصر بعناده وكفره وتحدى المجتمع وأحكامه فليس له إلا العقوبة القصوى .
إن المتتبع لنصوص الآيات الخاصة بالأحكام يجد أنها حازمة عادلة في العقوبة ، ولكنها تفتح دائمًا منافذ الرحمة ، فرحمة الله سابقة لعدله ، والرحمة ليست للجاني فقط ولكنها لأصحاب الحقوق أيضًا ليثيبهم الله وليمسح مافي قلوبهم من حقد على أعضاء من المجتمع وقعوا في الجريمة .
ففي العقوبة الأولى ترك التنازل عن القصاص صدقة وكفارة من يعفو .
وأما العقوبة الثانية فقد جعلها في شبه المستحيلات ولا تتم إلا باعتراف الجاني ليكفر عن جريمته في الدنيا وينجو في الآخرة .
وفي العقوبة الثالثة – لا يقع فيها الحد إلا من يريد أن يحترف السطور على أموال الناس . ولكن بالإمكان أيضًا أن يعفو صاحب الحق قبل الرفع إلى الأمام (وعليه الشافعي) .
وفي العقوبة الرابعة – فتحت له الرحمة والتوبة والعودة إلى مجتمعه .
وشواهد مجتمعاتنا الآن أكبر دليل على هذه الطريقة المثلي التي تصلح بها المجتمعات البشرية والتي تشتمل على الـرحمــة والعـدل وجدوى الصدق .
* * *
* *
*
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.