دراسات إسلامية
بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
لا ريب أن فكرة عقد مؤتمر إسلامي في أم القرى لدراسة نظرية التطور وفكرة الدارونية واتخاذ موقف منها بعد أن شهد العالم كله في السنوات الأخيرة وبعد مرور مائة عام تراجعًا كبيرًا في موقف العلماء من هذه النظرية التي لم تكن في أشد أيامها تألقًا إلا نظرية ناقصة يغيب عنها ما أطلق عليه اسم (الحلقة المفقودة).
ولذلك فقد رحّبنا بالمساهمة في هذا العمل في رغبة شديدة لتحرير شبابنا المسلم في كل مكان من أرض المعمورة من ذلك التناقض الذي يمر به بين مفهوم الإسلام الأصيل في خلق الإنسان دين تصور وفرضية لم يتأكل بل وجاءت الحفريات لتنقضها وترفضها تمامًا .
* * *
نشأت الفكرة أساسًا في رحاب الإرساليات التبشيرية التي ظهرت في لبنان (والتي قادتها منظمتان إحداهما بروتستانتية (أمريكية) والأخرى كاثوليكية (فرنسية) حيث خرجت أول دفعة من خريجيها الذين جاءوا إلى مصر وتصدروا قيادة الصحافة (حروف وغير ومكاريوس) وتقلا وجرجي زيدان وغيرهم كثيرون . وكان في مقدمتهم : الدكتور شيلي شميل الذي حمل لواء ترجمة كتاب (أصل الأنواع) (شرح بخنر) .
وذلك عام 1890 بعد أن ركّز الاستعمار البريطاني أقدامه في مصر بأقل من عشر سنوات .
ثم نشر كتابه فلسفة النشوء والارتقاء 1910.
وكانت مجلة المقتطف هي المجال الأكبر للمراجعات ومواصلة طرح الشبهات والتركيز عليها.
وإذا كانت القاهرة في هذه الفترة هي الساحة الفكرية والثقافية للبلاد العربية كلها فإن الهند كانت الساحة الأخرى التي انطلق منها مايسمى بالنتشيرية(1) وهي ما تصدى لها السيد جمال الدين الأفغاني بكتابه (الرد على الدهريين) : هذا الكتاب الذي يعدّ أول ردّ على هذه النظرية. وكان سيد أحمد خان قد حمل لواء هذه الفكرة في الهند ودعا إلى الفكر المادي. وسيد أحمد خان هو صاحب التيار الذي أيد النفوذ البريطاني ومنه ظهر القادياني بعد. وقد توالت بعدها الكتابات وكان في مقدمتها ما كتب العلامة فريد وجدي الذي هاجم الفلسفة المادية سنوات طويلة والذي يمكن أن يقال: إنه الرجل الذي وقف في وجه مفاهيم «شيلي شميل» بأسلوب علمي حصيف .
ثم جاء دور إسماعيل مظهر الذي حاول أن يخفف مفهوم الإلحاد في النظرية ويرده إلى مفاهيم أخرى ثم جاء دور سلامه موسى مؤلف كتاب نظرية التطور وأصل الإنسان والذي حمل لواء هذا الفكر مدى حياته .
أخطر ما هنالك هو دخول هذه النظرية إلى مقررات التعليم وحدوث تلك الازدواجية الخطيرة بين مفهوم الإسلام ومفهوم الفلسفة المادية والآثار الخطيرة التي نتجت عن ذلك وكيف تأثر بهذه النظرية الشباب المثقف الذي زلزلت عقيدته .
وأمامنا في هذا المجال تجربتان :
الأولى : تجربة الأستاذ العقاد الذي آمن بنظرية دارون وقد جاء ذلك في كتابات العقاد بعد أن صدر الجزء السابع من دائرة معارف فريد وجدي (هذا الجزء الذي خصصه لإثبات وجود الله تبارك وتعالى) فانبرى العقاد للرد على فريد وجدي وتسفيه آرائه .
وهي قصة معروفة ، غير أن الاستاذ العقاد لم يلبث أن عاد إلى الإيمان وسجل ذلك في كتابه (في بيتي).
الثانية: تجربة نجيب محفوظ التي سجلها في قصته (بين القضرين) حيث يصور مدى ماتركته نظرية التطور من آثار في فكره وفكر مثقفينا في مطلع القرن العشرين وما أدّت إليه هذه الآثار من فراغ كبير لدى قطاعات عريضة من المجتمع ، لعل أبرز دواعيه (كما يقول دكتور إسماعيل علي في بحثه تحت عنوان (إعصار في الفكر الغربي الحديث) الهلال (ابريل 1988) هو ما تصوره البعض من أن هذه النظرية تؤدي إلى الشك في معتقدات دينية أساسية خاصة بخلق الإنسان .
وقد صوَّر نجيب محفوظ آثار هذا في (كمال في القصة) .
هذه التساؤلات التي عرضت على ذهنه مرات ومرات كان من جرائها لا يكاد يرى للنوم سبيلاً إلى عينيه ولم يكن يغمض له جفن حتى الصباح، وهو الذي أدّى به إلى القول المعروف عن الملاحدة (إن تحرره من الدين سيكون أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به فما الدين الحقيقي إلا العلم الذي هو مفتاح أسرار الكون وجلاله) .
وهو كلام ظاهر البطلان لايثبت أمام الحقائق الدامغة .
وهكذا كان لهذه النظرية آثار بعيدة المدى على الشباب المسلم المثقف في مختلف البلاد الإسلامية ولايزال هذا الأثر قائمًا حتى اليوم ؛ إذ ما تزال مناهج الدراسة في عديد من البلاد العربية تحتوي على هذه النظرية التي نقلها إلينا شيلي شميل إسماعيل مظهر وسلامه موسى يحس الشباب بالازدواجية والتناقض بين ما يقوله درس الدين ودرس الطبيعة .
لعلنا نتعرف على خطورة هذا التيار حين نعي ماتردده بروتوكولات صهيون عن دارون – وكيف استخدمت الصهيونية هذه النظرية في التركيز على (حيوانية) الإنسان وإسقاطه تمامًا ، وهي تعني إنسان الجويم وكيف استخدمت نظرية دارون في تبرير الاستعمار الذي سيطر على المسلمين والعرب في قارتي آسيا وإفريقيا بمفهوم التأخر والتخلف وسيادة أصحاب الدماء الزرقاء وضياع الحضارة.
والمعروف أن هربرت سبنسر هو الذي نقل نظرية دارون من مجال البيولوجيا إلى مجال الاجتماع ومن ثم ظهر مفهوم جديد هو (التطور المطلق) الذي نادى به سبنسر ثم عمّقه (هيجل) حين جعل من التغيير قاعدة دائمة وألغي مفهوم الثوابت وبالغ في ذلك مبالغة شديدة جعلت التغيير بمثابة المطلق حين تجاوزت مفهوم الثبات ، وهذا المفهوم يختلف اختلافًا واسعًا وعميقًا مع مفهوم الإسلام الذي يقرر نظام الثوابت والمتغيرات ، والآن وبعد مائة عام توالت حقائق كثيرة تدحض هذه النظرية سواء من عالم البيلوجيا نفسه أم من الحفريات التي ظهرت والتي تسجل فردية الخلق الإنساني واستقلاليته . وكان في مقدمة ذلك كتاب الدكتور بوكاي (أصل الإنسان) الذي أصدره المكتب العربي للتربية .
فضلاً عن القضايا التي رفعها أولياء الأمور في عدد من بلدان الولايات المتحدة لمنع تدريس هذه المادة لأبنائهم فيها لصالح الآباء . وقد جاء في الحكم القضائي أن نظرية النشوء والارتقاء ليست من الحقائق العلمية وأنها من قبيل الاحتمالات الفرضية فقط وأن المدرسة ملزمة بأن تبين هذه الحقيقة للتلاميذ .
ومن هنا فنحن في حاجة ضرورية إلى وضع مقررات أساسية في هذا المجال تلتزم بها بلادنا ومدارسنا وتتفق مع ثوابت ديننا .
لقد كان هدف دارون والذين حملوا نظريته وأذاعوا بها معارضة الدين والكنيسة والتقليل من أهمية الكتب المقدسة ، كما قال بوكاي .
ولقد حملت هذه النظرية إلى بلادنا الإسلامية في أول عصور الاستعمار بهدف تدمير المناعة الإسلامية وخلق مفاهيم مضطربة ضالة تفتح الطريق إلى الإلحاد وهذا هو ما حملته الفلسفة المادية جملة .
ولذلك فهم لم يقفوا بالنظرية عند مفهومها العلمي البيلوجي ، بل ساروا بها ليهدموا نظام الثوابت الذي أقامته الأديان وبعد أن كان أرسطو يقول بالثبات الكامل جاء هيجل ليقول بالتطور المطلق . وكلاهما مفهوم غير صحيح ولا يتفق مع الفطرة أو العلم أو الدين الحق .
ولقد زلزلت هذه الأفكار المفهوم الديني عند الشباب المسلم وتأثر بها لطفي السيد (انظر قصة حياتي) ونسى هذا الجيل الآية الكريمة ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِيْ أَحْسَنِ تَقْوِيْمٍ﴾ وقد ثبت من الحفريات ان الإنسان خلق تامًا ومستقلاً عن كل نوع آخر وأنه لم ينحدر من سلالة أخرى . وآخر مسمار في نعش نظرية دارون أنه كان يقول بالحلقة المفقودة والتي لم يصل إليها أحد بعده .
* * *
* *
*
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.
(1) النتشيرية نسبة كلمة (نيتشر) أي الطبيعة .