دراسات إسلامية
بقلم: فضيلة الشيخ المفتي سعيد أحمد البالنبوري حفظه الله(*)
ترجمه: أبو عاصم المباركفوري
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:59]
من أهداف بعثة عيسى التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم:
بُعث عيسى عليه السلام قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلافصل،فليس بينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي آخر. وقد بعث قبل عيسى: يحيى عليه السلام، وكان ابن خالته، ومن أترابه. و يحي أكبر من عيسى بستة أشهر. ومن أهداف مبعث يحي التبشير بعيسى عليه السلام، فكان يقول: إن المسيح قادم عليكم، روح الله قادم عليكم، فاستعدوا للإيمان به.
هذا، وإن من أهم أهداف بعثة عيسى عليه السلام الإخبار بدنو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قادم فاستعدوا للإيمان به. وقال عيسى عليه السلام: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[الصف:6]
أحمد اسم صفة، ومحمد اسم ذات للنبي صلى الله عليه وسلم:
أحمد على وزن «أكبر» اسم التفضيل ومعناه: أكثرالناس حمدًا، وهو اسم صفة للنبي صلى الله عليه وسلم. والاسم الذي يشعر بمدح وثناء: اسم الصفة، واسم الذات يطلق عليه: «العَلم». فمثلًا: رجل اسمه: عبد الرحيم، فهذا علَم عليه (اسم ذات)، وهذا الرجل: مفتٍ، وحافظ، و مقرئ، فالسابقة عليه: المفتي، والحافظ، والمقرئ؛ كلها أسماء صفة. فـ«محمد» عَلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأما أسماؤه الوصفية فكثيرة، حتى بلغ بها بعضهم تسعة و تسعين اسمًا أو يزيد، ومن أسماء الصفة هذه: «أحمد». ومعناه: أكثر الناس حمدًا لله تعالى.
ورد في الإنجيل اسم صفته: أحمد:
و الإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام بالسريانية يتضمن اسم الصفة للنبي صلى الله عليه وسلم فارقليط (Percolates)، وهي كلمة سريانية بمعنى: أحمد، أي كثير الحمد لله تعالى.
الفيدا والبرانا يبشران بالنبي صلى الله عليه وسلم:
و قد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم «الفيدا» و«البرانا» – من الكتب المقدسة عند الهندوس- فذكره الفيدا بـ«نراشيش» وذكره «البرانا» بـ«كلكي أفاتار». ومن الصعوبة بمكان معرفة مدى قدم هذه الكتب. فيقول البعض: هي الكتب التي أعطيها أبناء نوح عليه السلام، والله أعلم بحقيقة الحال إلا أن تاريخها مجهول. و«نراشيش» الذي بشربه الفيدا معناه: كثير الحمد لله تعالى، وبمعنى أحمد و«كلكي أفاتار» الذي وصفه به البرانا معناه: خاتم النبيين.
مولد عيسى نموذج لختم النبوة:
والحاصل أن عيسى عليه السلام كان مبشرًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد أظهر الله تعالى في مولده معجزة من المعجزات. وجرت سنة الله تعالى من بعد آدم عليه السلام أن يخلق البشر باللقاء بين الرجل والمرأة، إلا أنه خلق عيسى بغير أب. فما السبب وراء هذه المعجزة؟ و لماذا لم تظهر هذه المعجزة في غيره من الأنبياء؟ ذلك لأن عيسى بعث في زمن جاء بعده محمد صلى الله عليه وسلم بدون فصل، وليس بينهما نبي. ومن أهم أهداف بعثته التبشيرُ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وأراد الله تعالى أن يجمع مختلف السلاسل النبوية المستمرة إلى ذلك اليوم على النبي صلى الله عليه وسلم. فبعث نبيًا خلق من غيرأب على وَشَك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، تنبيهًا على أن الله تعالى قادر على كل شيء. وهوقادر على أن يجمع السلاسل النبوية المختلفة على رجلٍ واحدٍ. وهل يعجز عن جمع سلاسل النبوة كلها على رجل واحد: مَن لا يعجز عن خلق عيسى بغير أب؟ ولايُستبعَد جمعُ سلاسل النبوة كلها على رجل واحد استبعادَ خلق البشر من غير أب. و الحاصل أن خلق عيسى بهذه الصورة العجيبة دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وإنما خلق عيسى بغير أب؛ لأنه جاء مبشرًا بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وعلى قرب العهد به بدون فصل.
اغترار النصارى بلفظة «روح الله»، و«كلمة الله»:
وا جتمع في عيسى عليه السلام أربع خصال وامتاز بهن عن غيره من الأنبياء. فأخطأ أتباعه الحق والصواب فيه: أولًا: إنه يلقب بـ«كلمة الله»، وبـ«روح الله». ثانيًا: إن الإنجيل يذكره بـ«ابن الله»، وثالثًا: خلقه بغير أب. رابعًا: رفعه إلى السماء.
الأمر الأول: تُلِيَت اليوم الآية التي تصف عيسى عليه السلام بـ«كلمـة الله» ألقاها الله تعالى إلى مريم، وأنه روح الله تعالى. كما يذكره الإنجيل بهـذه الألقاب والأوصاف. فإذا كان روح الله فإما أن يكون إلهًا، أو يكون جزءًا منه أي مشاركًا في الألوهيــة. ويعتقد معظم النصارى أنه ثلث الإله.
واقع عقيدة «الأفاتار» لدى الهندوس:
ومن معتقدات الهندوس «الأفاتار»، حيث يقولون: إن الأرض تملأ فسادًا وفتنةً، فيُولَد الإله من بطن امرأة في صورة البشر، وهذا البشر في الواقع هو الإله، ويطلقون عليه «الأفاتار». فيشب هذا البشر ويقوم بإصلاح الناس، ثم يموت البشر، و يرجع الإله إلى مكانه.
عيسى ليس إلهاً ولا جزءًا منه:
كذلك يعتقد النصارى أن عيسى إله، أوجزء من الإله. و رد الله تعالى عليه في القرآن الكريم فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوٓا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّٰهِ مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّٰهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة:17]
فالأية صريحة في أن من اتخذ المسيح ابن مريم إلهًا فقد كفر. وهذا ما كان يعتقده بعض النصارى، وربما لايزال منهم من يعتقد ذلك. فإن النصرانية تفرقت فرقًا لا نكاد نحصيها و نعرف عنها. والأغلبية منهم لا تقول بذلك، وإنما يقولون بأن الإله مجموع ثلاثة أشياء. فيُجّزِّئُون الإله ثلاثة أجزاء. ورَدَّ على هذه العقيدة القرآنُ الكريم فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثَالِثُ ثَلـٰـثَةٍ﴾[المائدة:73].
وكل واحد من هاتين العقيدتين كفر. فمن قال: إن الله هو المسيح ابن مريم فقد كفر، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة فقد كفر. ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إِلـٰهٍ إِلَّآ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة:73] فهو إله كامل، لا شريك له. ويعود تفرق النصارىٰ على هذه الفرق إلى اغترارهم بـ«كلمة الله»، و«روح الله».
حقيقة روح الله:
و أشرحه لكم بتفصيل. فأقول: إن «روح الله» مركب إضافي. أضيفت كلمة «روح» إلى «الله». و الإضافة تتنوع أهدافها في اللغة العربية. ومنها: التشريف، مثل: بيت الله؛ فإن هذه الإضافة للتشريف، وليس معناه أن لله بيتًا يسكنه؛ فإنه مبرأ عن المكان ومنزه عنه. وإنما أضيف إلى الله تعالى تنويهًا بشأنه، وتعظيمًا، كما نطلق على المساجد: «بيوت الله» تكريمًا وتعظيمًا لها. وكذلك إضافة روح عيسى إلى الله تعالى جاءت تعظيمًا و تكريمًا لها، ولايعني أن الله تعالى ألقى روحه أوجزءًا منها في جسد عيسى عليه السلام.
خلق الله آدم بيديه:
وخلق الله تعالى آدم ثم أمر المخلوقات كلها بالسجود له – هوأعظم خلق وأشرفه – فسجد له حتى الملائكة إلا إبليس لم يكن من الساجدين. فقال تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[ص/75]
فقوله: (لِـمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) لايعني أني اتخذت الآلات والأدوات وجلست أستخدمها في خلقه ثم لم تسجد له؟ بل معناه: إني خلقته بقدرة خاصة مني، وكرَّمته وعزَّزته، ثم لم تسجد له؟ فإضافة اليد إلى الله تعالى في الآية للتشريف مثل الإضافة في «روح الله» تمامًا.
خلق الله آدم على صورته:
وجاء في الحديث أن الله تعالى خلق آدم على صورته(1). فقال قائل: الضمير في قوله: (على صورته) يعود على آدم؛ لأنه أقرب مذكور أي خلق آدم على صورة آدم. وهذا لا معنى له؛ لأن الخلق كله خلق على صورته، فالجاموس خلق على صورة الجاموس، والثور خلق على صورة الثور، فليس بدعًا أن يخلق آدم على صورة آدم؟ و إنما يعود الضمير على لفظ الجلالة «الله»، والمعنى: أن الله تعالى خلق على صورته آدم. والإضافة للتشريف أي خلقه على أروع صورة وأحسنها، ولايعني خلقه على صورة الله تعالى: أن لله صورةً مثل صورتنا، وإنما أضاف الصورة إلى نفسه تكريمًا لآدم وتعظيمًا، وتقول القاعدة العربية: قد تأتي إضافة الشيء إلى غيره: للتشريف والتعظيم. وقِس عليه إضافة الروح إلى الله تعالى؛ فإنها للتشريف والتكريم، ليس إلا.
حقيقة كلمة الله:
إن الله تعالى أبدع الخلق كله، قال الله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[البقرة/117]
تفسير الآية:
أي أن الله تعالى خلق الخلق كله بأسلوب بديع، وأنه إذا أراد أن يخلق شيئًا فإنما يكفيه أن يقول: «كن»، ولايحتاج إلى مادة يصنعه بها؛ بل يكفيه أمره. فالكون كله خلق بقوله تعالى: «كن»، وقد خلق آدم من قبل بقوله: «كن»، ولايختص ذلك بعيسى عليه السلام. قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسٰى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
ومعنى قوله: (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ): أن عيسى وُجِد في بطن مريم بمجرد أمر الله تعالى دون الحاجة إلى مادة. وكذلك خلق آدم عليه السلام بكلمة «كن»، ولا يختص ذلك بعيسى عليه السلام، ولكن النصارى اغترت بهاتين الكلمتين.
معنى كون عيسى ابنًا لله تعالى:
و الأمر الثاني الذي غرَّ النصارى أن الإنجيل يصف عيسى بـ«ابن الله». و تتضمن التوراة إلى اليوم هذه الصفة. فجعلوا عيسى ابنًا لله تعالى، و إلى ذلك يصف النصارى أنفسهم بـ«أبناء الله»، كما حكاه القرآن عنهم: ﴿نَحْنُ أَبْنٰٓؤُ اللَّهِ وَأَحِبَّآؤُه﴾ [المائدة/18]. فإذا كان يصف هؤلاء أنفسهم بـ«أبناء الله»، ثم لم يكونوا أبناء حقيقيين له، فما بال عيسى يصبح ابنًا له حقيقيًا؟ والحق أن هذه الكلمة يراد بها الحب والشفقة، كما يقول الرجل للطفل الصغير: يا ابني! أحضر كأسًا من ماء؛ فإن الطفل لايكون ابنًا له حقيقيًا. وهذه الاستعارة سائدة في الألسنة كلها، إلا أن النصارى اغتروا بها.
خلق عيسى بدون أب مما اغتروا به كذلك:
ومما غرَّ النصارى ثالثًا: خلق عيسى بدون أب. قالوا: أنى يكون ولد بدون أب؟ فالله تعالى أبٌ لعيسى لا محالة. وكان ابنًا له.
من اللطائف: استولى الإنجليز على الهند، وخططوا لتنصيرها، فاستقدموا فئة من المبشرين إليها، ونشروهم في أرجاء الهند، فكان الواحد منهم يدخل أكبر المساجد في مدينة من المدن على حين الصلاة ويرافقه الشرطة، فحين يسلم الإمام تكلف الشرطة الناس أن لا يبرحوا مكانهم حتى يسمعوا كلمة المبشر. وذات مرة دخل مبشر برفقة الشرطة جامعَ «دهلي»، وأمرت الشرطةُ الناسَ بالجلوس عقب الصلاة، فقام المبشر وخطب إلى الناس بصورة مثيرة للغاية، وأمر عشرات من الناس بالقيام، وسألهم واحدًا واحدًا عن اسمه واسم والده حتى أتى على آخرهم، فقال: أيها المسلمون! ويحكم إنكم أُصِبتم في عقولكم، و سَفَّهْتُم أحلامَكم، أليس منكم رجل ليس له أب، وأنتم تقولون: إن عيسى نبي الله، وليس له أب! ما أشنع هذا الكلام وأقبحه؟ ارجعوا إلى علمائكم وموعدنا الصلاة القادمة، ردوا علي.
فقام رجل من الحضور وقال: حضرة المبشر! أخبرني: من أبو عيسى؟ فقال المبشر: إن الله هو أبوعيسى. فقال الرجل: كم ولدًا لله تعالى؟ فقال المبشر: واحد وهو عيسى. فقال الرجل: هل له ولد غيره؟ فقال: لا، فقال الرجل: أنا خير من إلهك، لي عشرة أبناء! وإذا كان إلهك قادرًا مطلقًا فهلا كان له أكثر من ابن؟ أبناء لايحصون عددًا ولا حصرًا؟ ارجع، فموعدك الصلاة القادمة، فبُهِت المبشر، ولم يرجع وقت ا لصلاة القادمة.
آدم أحق بأن يكون إلٰـهًا إن كان الخلق بدون الأب دليلًا على الألوهية:
هذا، و كنت أتحدث أن النصارى اغتروا بلفظ «ابن الله»، واعتبروه ابنًا حقيقيًا، وبما أن الابن يرث عن أبيه ماله وضيعته، والله تعالى ضيعته: ألوهيته، فكان عيسى شريكًا له في الألوهية.
و قد شرح القرآن الكريم هذا الأمر بأبسط أسلوب فنبه على أن الخلق بدون أب لايستلزم الألوهية أو المشاركة في الألوهية. وأنتم لا تقولون بألوهية آدم، وقد خلق بدون أب وأم، فأنى يكون عيسٰى إلهًا؟ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسٰى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ وأدم خَلْقٌ من خلق الله تعالى وليس إلهًا، قال الله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة/147]، أمرُ عيسى لا يختلفُ عن أمر آدم عليهما السلام، فما لكم ترتابون فيه، إنما هو عبد الله ورسوله فقط.
الزوج الأول من كل نوع خُلِقَ من الطين مباشرة:
واعلم أن الزوج الأول من كل نوع خُلِق من الطين مباشرةً دون واسطة أيًا كان هذا النوع: بقرة أو جاموسًا، شاة أو إبلًا. فالزوج الأول منه (الذكر والأنثى) خلق من الطين مباشرة.
وتفصيل ذلك أن الخلق على الأرض ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الحشرات، تُخلق من الطين مباشرة، لاتتوالد ولاتتناسل. كما أن الحيوانات كلها خلقت من الطين كذلك الحشرات كلها تخلق اليوم من الطين، فإذا ماتت خلقت أخرى مكانها. فتجد الأرض فضاءً لاشيء عليها، ثم ينزل المطر فإذا الأرض ملئت حشراتٍ. ثم تموت يومًا من الأيام. فالخَلْق نوع منه يتولد من الطين مباشرة. وإن الله تعالى قد أودع هذه الأرض قوة توليد لا نهاية لها. وأجسامنا متولدة من الأرض فلا تعوزه هذه القوة، فتجد جسد البشر يصيبه الجراح، فتتولد فيه الحشرات، كما تتولد الحشرات داخل البطن كذلك.
النوع الثاني: نوع منه يتولد من الطين، كما أنه يتوالد ويتناسل، كالسمك مثلًا يتولد من الوحل، ويتوالد ويتناسل كذلك. و منه الذكر والأنثى، ويتولد من الطين مباشرة كذلك.
النوع الثالث: نوع بدأ الله تعالى خلقه من الطين، ثم تناسل وتوالد، ولايُعاد خلقه من الطين مباشرة. فأول ذكر وأنثى من البقرخُلقا من الطين مباشرة، ثم توالدت وتناسلت. وكذلك الإنسان، خُلِق أول زوج منه من الطين، ثم جعل الله نسله من سلالة، فتناسل وتوالد. فلايخلق الإنسان بعدُ من الطين مباشرة.
ولايخفى عليكم أن آدم عليه السلام خُلق من طين، وأما حواء فقد نسب صاحب الهوامش على «روح المعاني» إلى الإمام الباقر- تلميذ الصحابي الجليل جابر رضي الله عنه- قوله: إنها خلقت من فضل طينته. اهـ منه.
و أما ما اشتهر أنها خلقت من الضلع الأيسر من آدم، فهو من الإسرائيليات. وأما قوله : استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. (المشكاة: 3238)، فليس بيانًا لخلق المرأة، وإنما هو تمثيل لما جُبلت عليه المرأة من العوج الشديد، وأما أنها خلقت من الضلع الأعلى من أضلاع آدم في يساره. فهذه فكرة تَبَنَّتْها التوراة، ومنها تسربت إلى الروايات الإسلامية.
لِـمَ لم يخلق عيسى بدون أب وأم؟
ومن هنا يمكن الرد على الاعتراض القائل بأن عيسى خُلق من غير أب فقط، وهلا خُلق من غير أب وأم كذلك؟ والجواب أن أول زوج من البشر هو الذي خُلق من الطين مباشرةً ثم توالدوا وتناسلوا. ولم يخلق بشر بعدهما من الطين مباشرةً. فأنى يكون خلق عيسى بهذه الصورة؟
الألوهية والاحتياج يتنافيان:
ومن الناس من يشرك أم عيسى في الألوهية، رغم أنها كانت أَمَةً صالحة، قال الله تعالى: ﴿وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلٰنِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة:75]. فالذي يأكل يحتاج إلى الطعام، و الذي يأكل الطعام لاغنى له عن البراز، ولم يصرح به في الآية الكريمة؛ لأن كلام الله تعالى أفصح وأبلغ كلام، إلا أنه يشير إليه. والحاجة لاتجتمع مع الألوهية. فثبت أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله. وأمه أمة صالحة من إماء الله تعالى.
* * *
(*) شيخ الحديث ورئيس هيئة التدريس بالجامعة.
(1) راجع: مشكاة المصابيح [4628]
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1439 هـ = مايو – يوليو 2018م ، العـدد : 9-10 ، السنة : 42